اللا أنتخب..

بائع الفاكهة على ناصية الشارع.. وعن الخطابة السياسية

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: لوّحت وجهه أشعة الشمس (انها تلوح كل شيء تحتها، ولايقال عن القمر انه لوح وجهه بل يقال لاح القمر في الليل)، واكسبته بعضا من لون مغيبها.

كثيرا، بل دائما ما امر عليه، عند ذهابي أو عودتي، يقف على بسطية فاكهته وخضرواته التي يبادلها نقود الزبائن، مثلما يبادلونه ابتساماته، رانت عليها مسحة من قهر، ولا مسرات.

والده الذي يقف معه، يتناوب معه في وزن الاكياس وحملها، أو ترتيب مايعرضه، هو الاخر يضع ابتسامته (زيادة) على الوزن في اكياس الزبائن.

قبل ايام تم زرع الساحة التي خلفه بالكراسي البلاستيكية، (صنع في سوريا) رغم خرابها وخراب صناعتها، المناسبة: مهرجان انتخابي لاحد المرشحين. المنظم للمهرجان: احد شيوخ العشائر.

ساحضر مع الحاضرين، لا أصفق معهم، بل استمع الى تصفيقهم، وهتافاتهم، بالروح بالدم نفديك، نرضيك، نعطيك.. (هشتكنة وبشتكنة ياريّس) كما يقول عادل امام في مسرحية الزعيم.

حين سألته في زحمة، ولمة، وضمة الاصوات الصادحة، من تنتخب؟.

أني انتحب، لافائدة، لا أمل، فناصية الشارع تعودت على الشمس تلوحني، وهاهو ظلي مستباح من الجميع، تدوسه اقدامهم، واطارات سياراتهم، لا أمل، فغدي خائف وجل..

لا تنتظر أكثر، رسالة توديع كتبها ماركيز حين اعتزل الحياة العامة، ولم تعتزله اضواؤها، مات ماركيز، صاحب (قرن العزلة)1، وصاحب (خريف الأب الرئيس)2 و(الحب لاتاكله ازمنة الاوبئة) 3و(وقائع مايرويه صحفي مزيف)4.

في مرة اخرى، سألته ممازحا ايها: ايها الصديق اللا أنتخب، من تنتخب؟.

هذه المرة اختلف جوابه، ربما لم تلوحه الشمس يومها، أو ربما لاتوجد في الساحة خلفه، مقاعد بلاستيكية ملونة، وربما ألفة أو حميمية بدأ يستشعرها نحوي، او ربما موت ماركيز الذي لم أخبره عنه، فقد انتحبت وحدي، ولا أعتقده مهتما به، رغم انه يعيش واقعية الحياة السحرية.

اختلف جوابه، كان قد استمع لخطاب احد المرشحين في تجمع انتخابي، نقلته شاشة التلفزيون. واستمع الى المقدمة والمتن والخاتمة، التي هي عناصر النص الخطابي، (كل شيء سلبي من حولنا وأنا  المنقذ). و(تميزت الحجة من الحيلة والدليل من الشبهة) هكذا يقول الجاحظ عن الكلام ولولاه.

يذهب احد الباحثين الى ان الخطبة السياسية العربية القديمة لم تكن نتاج مجتمع ديمقراطي تشاوري كما كان عليه الحال في المجتمع اليوناني. وإنما كانت نتيجة تناحر، كانت الكلمة فيه تؤخذ بحد السيف. ولذلك كانت النماذج الحوارية الاستشارية في ذلك التراث قليلة أو زائفة، أي قائمة على حوار شكلي ظاهري يطل السيف والعنف من تضاعيفه، من نمط خطبة ابن المقنع في جلسة التشاور حول عقد ولاية العهد ليزيد بن معاوية، حيث رد على المتشككين بخطبة قصيرة تكاملت فيها الكلمة والإشارة، قال: ( يزيد بن معاوية أمير المؤمنين هذا (وأشار إلى معاوية)، فإن هلك فهذا (وأشار إلى يزيد)، فمن أبى فهذا (وأشار إلى السيف) وهي خطبة نالت إعجاب المستشير (طالب الاستشارة)، معاوية بن أبي سفيان فقال له: اجلس فإنك سيد الخطباء). ثم تمت البيعة ليزيد. بيعة مارست (الإقماع) بدلا من (الإقناع).  

اجابني واثق الكلم، يتكلم ملكا: (إتنوّعت، أي نظرت وسمعت) من خلال سمعي وبصري على الكثير من القنوات التلفزيونية، خطب سين، وخطب صاد، وانا الذي لا أملك شهادة عليا مثل الاف المستشارين اعرف ان فلانا خطبه أقوى وأحلى، وصوته انقى واعلى.

يتكون الخطاب السياسي من عدة جمل موجهة عن قصد إلى المتلقي بقصد التأثير فيه وإقناعه بمضمون الخطاب عن طريق الشرح والتحليل والإثارة، وهو يتضمن أفكارًا سياسيةً، ويهدف إلى تغيير النفوس والعقول والأفكار والواقع. وتنبع قوة اي خطاب سياسي من ثقافة المتحدث ومدى القوة اللغوية وانسجامها مع الحديث ووعي المتحدث السياسي واحترامه لمن يسمعه ويوجه له الخطاب. وقوة الشخصية ومدى إقناعه للجماهير بالمسألة التي يتحدث فيها.  

ثم يأخذ بالمقارنة، مع فلان وفلان وفلان، لا يجد عندهم ما يطمح اليه، وهو لا يفهم ما قاله يوما واحد من خطباء السياسة، الذي لم تلوح وجهه الشمس، ولم يترك ظله على الطرقات تدوسه الاقدام (هذه تُثري السلطات الموجودة، لسنا في أزمة قوالب، وهياكل جديدة لا نُريدها سلطة جديدة، لكننا نُريدها أن تكون روحاً تتموَّج إلى بقية المُبادَرات الأخرى). السياسة بدون استعارات تشبه سمكةً بدون ماء.

اعلان كتبه احد العراقيين:

فقد وطن أخضر اللون يدعى وادي الرافدين، يرتدي مليون نخله وأهوار بحجم معاناته، عمره آلاف السنين، يتجول في أزقته الموت، كان ملاذاً للخائفين وأصبح خوفا للآمنين، تزين أرصفته دماء الأطفال الأبرياء، الذاهبين إلى المدارس، ليتعلموا كيف تكتب كلمه وطن، فعلى من يعثر عليه أن يصلي من اجله، ويضمد جراحه اللهم احفظه وأهله الطيبين.

كان والده قد وصل متأخرا على درب حديثنا، بعد أن جلب ماء لوضوئه، فاذان المغرب قد انقضى منذ قليل، اخبرني انه يسكن في العشوائيات، وهو متجاوز على ارض حكومية، لانه لا يملك دارا، والاصح لا يملك وطن. وهو يحلم بالدار، بالوطن، وهو حسم خطوته وصوته.

بائع الفاكهة، اللا أنتخب، رسم طريقه، حين استمع الى خطاب المرشح، و(إتنوّع) لخطب الآخرين.

1 – مائة عام من العزلة.

2 – خريف البطريرك.

3 – الحب في زمن الكوليرا.

4 – وقائع موت معلن.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 20/نيسان/2014 - 18/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م