الحضارات.. والسياسة العالمية

الاستاذ زكي الميلاد

 

في حديثه عن صدام الحضارات لفت صمويل هنتنغتون الانتباه إلى العلاقة ما بين الحضارات من جهة، والسياسات العالمية من جهة أخرى، ومدى إمكانية الاستناد إلى فكرة الحضارات في تحليل السياسات العالمية واستشرافها، وجعل فكرة الحضارات واحدة من الأفكار الممكنة والمفيدة في هذا المجال، وتقريب العمل بمنهج التحليل الحضاري في دراسة السياسات والسياسات العالمية.

وفي نطاق هذا الربط بين فكرة الحضارات والسياسات العالمية، جاء كتاب (الحضارات في السياسة العالمية.. وجهات نظر جمعية وتعددية) الصادر باللغة الإنجليزية سنة 2010م، من إعداد وتحرير الباحث الأمريكي بيتر كاتزنشتاين الرئيس الأسبق لرابطة العلوم السياسية الأمريكية، والكتاب في الأصل نتاج حلقة نقاشية لرابطة العلوم السياسية الأمريكية، عقدت خلال اجتماعين حوليين ما بين سنتي 2007 ـ 2008م.

يتكون الكتاب من ثماني دراسات، أعدها ثمانية من أساتذة الجامعات الأمريكية ينتمون إلى أقسام عدة، العلوم السياسية والعلاقات الدولية والدراسات الإسلامية ودراسات آسيا الشرقية، ست من هذه الدراسات تناولت الحديث عن أبرز المجموعات الحضارية في العالم المعاصر، وهي حسب ترتيبها في الكتاب: (أمريكا، أوروبا، الصين، اليابان، الهند، عالم الإسلام)، والحديث عن هذه المجموعات الحضارية، جاء بقصد اختبار وتجريب فكرة الحضارات في دراسة وتحليل السياسات العالمية.

تتأطر دراسات هذا الكتاب وأفكاره ومنهجياته، في نطاق مدرسة العلوم السياسية الأمريكية، وتكشف عن أحد أنماط الخبرة عند هذه المدرسة في تناول هذا الموضوع، كما تكشف عن أحد ملامح التطور في هذه المدرسة، من جهة الاقتراب من موضوع دراسة فكرة الحضارات في مجال السياسات والسياسات العالمية.

من جانب آخر، يتسم هذا الكتاب بطابع النشاط البحثي والأكاديمي، فالمشاركون فيه جميعهم من الأكاديميين المعروفين في الوسط الأكاديمي الأمريكي بالنشاط البحثي، وقد حاول هؤلاء إبراز هذه السمة وتأكيدها على هذا العمل، وأشاروا إليها في دراساتهم بهذا الوصف، بقصد لفت الانتباه إلى طبيعة الجهد المبذول من جهة، وإلى الطابع المنهجي والعلمي لهذه الدراسات من جهة أخرى، وإلى تميز هذه الدراسات عن كتابات الحقل العام من جهة ثالثة، وإلى طريقة التعامل مع هذه الدراسات من جهة رابعة.

والكتاب في صميمه يدعوا إلى أخذ الفكرة الحضارات، مأخذ الجد في تحليل السياسات العالمية، وهذه الدعوة هي من أكثر ما يعرف بهذا الكتاب، ومن أكثر ما يلفت الانتباه إليه، وسيكون كتابا لا غنى عنه من هذه الجهة، لمن يريد دراسة هذه الفكرة، ولمن يريد أن يتعرف على الخبرة الأكاديمية الأمريكية في دراسة هذه الفكرة.

السياسة.. والتحليل الحضاري

ما إن تنبه أساتذة العلوم السياسية في الجامعات الأمريكية، لفكرة التحليل الحضاري، حتى كان لهذه الفكرة وقع الدهشة عليهم، وذلك لشدة ما حصل لها من إهمال كبير وغير متوقع، في حقل الدراسات السياسية الأمريكية.

 الإهمال الذي كشف عنه مستغربا ومتفاجئا، الكاتب الأمريكي بيتر كاتزنشتاين في الكتاب الجماعي الذي قام بتحريره والموسوم: (الحضارات في السياسة العالمية.. وجهات نظر جمعية وتعددية)، وشرحه كاتزنشتاين بقوله: بالغت العلوم السياسية الأمريكية في إهمال التحليل الحضاري، فخلال السنوات التسع والتسعين الأولى من وجودها، وتحديدا ما بين (1906-2005م)، لم تنشر مجلة العلوم السياسية الأمريكية، إلا مقالا واحدا تم في عنوانه استعمال كلمة حضارة، إلى جانب مقال آخر أتى على ذكر المفهوم بصيغته المجردة، وهكذا الحال حصل مع مجلة وصفها كاتزنشتاين بالريادية في مجال السياسة الدولية المقارنة، هي مجلة (السياسة العالمية)، التي لم تنشر مقالا واحدا عن هذا الموضوع خلال الفترة ما بين (1948-2005م).

لهذا لا يرى كاتزنشتاين غرابة، من أن تكون معالجة آدا بوزمان سنة 1960م، التي وصفها كاتزنشتاين بالمميزة، حول الثقافة والسياسة الدولية، قد قوبلت بنظرة رافضة على صفحات مجلة العلوم السياسية الأمريكية.

وبصورة عامة، يبدو التحليل الحضاري في نظر كاتزنتشاين، بالنسبة إلى أساتذة العلوم السياسية الأمريكيين، يعد إطارا واسعا، وليس أقوى اتصافا بالصفة السياسية، من أن يسوغ اهتماما بحثيا جادا ومعززا.

ومع أن صمويل هنتنغتون صاحب نظرية صدام الحضارات، هو أوضح من اعتمد منهج التحليل الحضاري في دراسة السياسة العالمية، وأكثر من لفت الانتباه إلى هذا المنهج، إلا أن منهجه قوبل بالتخطئة والنقد، فهذا المنهج في نظر منتقديه الأمريكيون، لا يمثل ابتكارا حصل مع انتهاء الحرب الباردة كما ظن هنتنغتون، وإنما مثل تكرارا، لما كان قد حصل خلال فترة الحرب الباردة.

وبهذا الاختلاف مع هنتنغتون، تتحدد أكثر من رؤية في طريقة النظر لمنهج التحليل الحضاري، بين رؤية تستند على هذا المنهج، وتعلن صراحة القول بصدام بين الحضارات، وبين رؤية أخرى، تستند على هذا المنهج أيضا، وتعلن صراحة القول بنقد ودحض فكرة الصدام بين الحضارات، وترى ضرورة أخذ فكرة الحضارات، مأخذ الجد في تحليل السياسات العالمية.

وتبقى الحاجة ثابتة لهذا المنهج الحضاري، الذي مازال بحاجة إلى تجريبات واختبارات جديدة، في بيئات ومجتمعات أخرى، ومن زوايا ومنظورات وخبرات مختلفة، حتى تتعدد الرؤية، وتتنوع المواقف ووجهات النظر، في طريقة التعامل والتطبيق لنمط أو أنماط المنهج الحضاري في تحليل السياسة العالمية.

من الحضارة إلى الحضارات

من المرتكزات التي استندت عليها أطروحة كتاب (الحضارات في السياسة العالمية)، تأليف مجموعة من الأكاديميين الأمريكيين، التخلي عن فكرة الحضارة بصيغة المفرد، ونقد هذه الفكرة وذمها، وتبني فكرة الحضارات بصيغة الجمع، واستحسان هذه الفكرة ومدحها.

والحكمة من ذلك في رؤية أصحاب هذه الأطروحة، هي تجنب البحث عن معيار حضاري كلي وتراتبي تتمثله وتعبر عنه حضارة معينة، ويكون حاكما ومهيمنا على باقي الحضارات الأخرى، وعوضا عن ذلك البحث عن معايير حضارية جمعية وتعددية، تتمثلها وتعبر عنها حضارات عدة، لا حضارة أحادية.

ويترتب على هذا الموقف، نبذ ذهنية التعالي والفوقية، وسلوكيات التحكم والهيمنة التي تبررها وتشرع لها أحادية الحضارة، من خلال تقسيم المجتمعات والعالم، إلى ثنائية متحضرون وغير متحضرين، وبين من ينتمون إلى عالم الحضارة، ومن ينتمون إلى عالم يقع خارج الحضارة. وهي الفكرة التي تحكمت في الثقافة الأوروبية، وأنتجت تاريخا مدمرا وبغيضا من الغزو والاحتلال، ومن الاستعمار والامبريالية، الذي صب على الشعوب المستعمرة عذابا وجحيما، ومثل لها، وبقي يمثل لها على طول الخط، ذاكرة من التاريخ الأسود.

وعن هذا المرتكز وهذه الرؤية، أوضح محرر الكتاب كاتزنشتاين، أن هذا الكتاب ليس عن حضارة متصورة في حالة المفرد، وبوصفها تمثل برنامجا ثقافيا متماسكا، جرى تنظيمه بطريقة تراتبية حول نواة قيم لا خلاف عليها.

ومن الناحية التاريخية، يرى كاتزنشتاين أن مفهوم الحضارة بالمفرد، كان اختراعا أوروبيا ينتمي إلى القرن الثامن عشر، واعتبر أن هذا المفهوم وفر أساسا لنقاش عن معيار حضاري عد معبرا عن حالة، لا عن سيرورة، وما لبث أن تكرس في قانون أمم متحضرة، كان من نتائجه اعتبار أن الأوروبيين البيض هم المتحضرون، أما الآخرون فهم غير متحضرين، الأمر الذي ترتب عليه، اعتبار أن هؤلاء غير المتحضرين ليسوا جديرين بنيل حماية القانون، وجعلهم عرضة لأعمال العنف الجماعي، التي صدرت من الامبرياليين الأوروبيين حسب وصف كاتزنشتاين.

هذا من جهة نقد فكرة الحضارة وذمها بصيغة المفرد، أما من جهة فكرة الحضارات ومدحها، فيرى كاتزنشتاين أن ثمة عالم حضارات جمعية متجذر، وغير قابل لأن يتحدد في معيار واحد، يكون معبرا عن تراتبية أخلاقية صارمة، وفصول هذا الكتاب التي تجمع وتحلل عددا من التجارب الحضارية في أمريكا وأوروبا والصين واليابان والهند وفي عالم الإسلام، توفر حسب قول كاتزنشتاين تأييدا قويا لمثل هذه النظرة الجمعية والتعددية إلى عالم الحضارات.

ومن ناحية التقييم، فإن هذا التحول من فكرة الحضارة إلى فكرة الحضارات، بما يعني التخلي عن نزعة التراتبية والفوقية، يعد أحد مداخل البحث عن العلاقات بين الحضارات، ويحفز على حالة التواصل والانفتاح بين هذه الحضارات، التي ترفض بطبعها الإلغاء والإقصاء بأشكاله كافة، ومن هنا تكمن أهمية هذه الأطروحة.

* باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة

رئيس تحرير مجلة الكلمة

www.almilad.org

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 20/نيسان/2014 - 18/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م