في التغيير الذاتي: يدٌ للعطاء دون حدود

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: تُعد حالة العطاء والإحسان، من المعالم الحضارية في أي مجتمع ناجح، ومن أهم عوامل تماسكه وتقدمه، وهي دليل على حيوية الافراد وقوة مشاعرهم الانسانية، بحيث يشعر الواحد منهم انه يهنأ بما لديه من النعم والرفاهية، عندما تلامس شيئاً منها، شخص آخر، ربما لم يحظ بهذه النعم لسبب أو لآخر.

ومع إننا نسلط الضوء على هذه الصفة الاخلاقية، كونها تتصل بالمنظومة الثقافية للاسلام، فهي في الوقت نفسه، تُعد – من حيث الممارسة- حالة انسانية تضرب بجذورها في عمق الفطرة والوجدان. لذا نجد حالة العطاء والبذل ومساعدة الآخرين، غير مختصة بالمسلمين، إنما سائدة في جميع شعوب العالم، بل نجدها في أوساط المشاهير من رياضيين او فنانين او كبار الأثرياء، وهم يثابرون في تقديم المساعدات المالية او العينية لضحايا الامراض المعدية – مثلاً- او لمرضى السرطان من الاطفال وغير ذلك.

واذا لاحظنا النصوص الدينية، وما تضم من تعاليم اخلاقية وانسانية، نجد التأكيد على كبح جماح النفس الانسانية عندما تستشعر حالة الزهو والارتياح بشكل لا إرادي، في لحظة العطاء والبذل، وهذا أمر شائع لدى البعض عند موائد الإطعام، او لدى توزيع المساعدات العينية والمالية على المحتاجين، الامر من شأنه سلب الروح الحضارية من هذا العمل، وتحجيمه في النفس الانسانية الضيقة.

وهذا ما يعالجه سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الحسيني  الشيرازي – دام ظله- في كتابه "حلية الصالحين"، عندما يبين لنا الشعار الكبير للعطاء وهو "للجميع وبلا حدود"، بمعنى أن يخرج من إطار النفس الانسانية، وأن يكون الزهو والارتياح عندما يكون للعطاء آثاره الايجابية المباشرة على المستفيدين، بما من شأنه ان يغير واقع الفرد والمجتمع، من العوز والحرمان الى العيش الكريم.

العطاء للجميع

ربما يتصور البعض أن العطاء يجب ان يكون محدوداً ضمن أطر جغرافية و اجتماعية، فلا عطاء لمن هو خارج الحدود المصطنعة، حتى وإن كان يدين بدين الاسلام، بل ونشترك معه في العقيدة والمذهب. كما لا عطاء لمن نختلف معه في الدين والمذهب، حتى وإن كان بالقرب منّا ويعيش بين ظهرانينا. في حين يبين سماحته في كتابه إن الاسلام يريد تعميم الخير على الجميع، سواء كانوا مسلمين او غير مسلمين، ويعبر عن نظرة الاسلام حول قيمة العطاء في الحديث الشريف الذي يصنّف الجار بأروع ما يكون: "الجيران ثلاثةٌ، فمنهم من له ثلاثة حقوق: حق الاسلام، وحق الجوار، وحق القرابة. ومنهم من له حقان: حق الاسلام وحق الجوار، ومنهم من له حقٌ واحد: الكافر له حقّ الجوار".

ويؤكد سماحته على أن هذه هي ثقافة أهل البيت، عليهم السلام، فهم لم يقتصروا بالعطاء على الموالين فقط، ويستشهد بما فعله الامام الصادق، عليه السلام، عندما كان يضع الخبز والتمر والحنطة تحت رؤوس فقراء المدينة وهم نيام في الليل، فقيل له: إنهم ليسوا من الموالين، فأجابهم، عليه السلام: "لو كانوا موالين لواسيناهم بالدُقة". وهي كناية عن الملح. وهذا درسٌ بليغ لمن يحب ان يعطي ويبذل بسخاء على المقربين بعيداً عن الآخرين.

إشكالية "المنّة"

وهذه، ربما من أخطر المنزلقات التي يسقط فيها البعض وهو في طريق العطاء والإحسان وفعل الخير للآخرين. والخطورة تكمن في اضمحلال العمل مهما كان كبيراً وضخماً. لذا جاء الامر الإلهي في القرآن الكريم بصريح الآية المباركة: {لاتبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى}، وجاء في الحديث الشريف: "صدقة السر تطفئ غضب الرب".

إن البعد النفسي والانساني واضح جداً في التعاليم الاسلامية، وهي التفاتة ذات صفة علمية دقيقة، وهي ما يسلط الضوء عليها سماحة المرجع الشيرازي، حيث إن مجرد الإعلان عن العمل والمبادرة، من شأنها ان تخلق شعوراً بالضعة لدى الطرف المستفيد، مقابل اكتساب شيء من الزهو بالنفس والشعور بالراحة بأداء عما ما. وهذا تحديداً يجعل هذا العمل المهم والعظيم امراً لافائدة منه في بناء المجتمع، فعندما تترسخ الضعة والضعف والحرمان في نفس الانسان المحتاج، لن يكون بامكانه تحريك شيء من قدراته وطاقاته الكامنة في عملية التطور والنمو داخل المجتمع والأمة بشكل عام، كون هذه العملية خاصة بعلية القوم، ومن لهم المقدرة المالية والوجاهة الاجتماعية والنفوذ السياسي وغيرها من الامكانات الظاهرية، حتى وإن أجري له راتب شهري مجزٍ يسد حاجاته الاساسية. بينما اذا استيقظ في الصباح ووجد عند باب داره – مثلاً- شيئاً من المساعدة او المعونة، ولا شيء غيرها، فان دافعاً وحافزاً داخلياً سيدعوه للسعي لأن يجرب قدراته وامكاناته الذهنية والعضلية لئلا ينتظر من المجهول شيئاً آخر.

وهنا يركّز سماحته على هذه المسألة لما لها من الاهمية والتأثير النفسي، ويقول – مضمون الكلام- إن المنّة، ليس بالضرورة ان تكون بشكل مباشر بين المعطي والمحتاج. إنما اذا تحدث المعطي في مكان آخر عما فعله من البر والخير، فان "الخبر سيصل حتماً اليه عاجلاً أم آجلاً، فيتأذى المستفيد". ويصف هذه الفقرة الدقيقة في العملية، بأنها "امتحان صعب جداً يتطلب الاستعانة بالله تعالى حتى يجتازه المرء بنجاح".

وللحقيقة نقول: ان مسألة العطاء والإحسان، تعد من المسائل غاية الحساسية والتأثير في عموم مجتمعاتنا الاسلامية، لما لها من علاقة بالوضع المعيشي والاقتصادي وحتى الثقافي، فهنالك من يربط بين الوضع المعيشي والاستقرار الامني والسياسي، ومن يربط بين الوضع المعيشي وبين مستوى الثقافة الاجتماعية السائدة، وربما هي حلقة متكاملة يشدّ بعضها الآخر، اذا ما خرجنا بعملية صحيحة وفق الضوابط المرعية للحالة الانسانية، بل ان نجاح عشرات بل مئات المؤسسات الخيرية والانسانية في البلاد الاسلامية، وحتى تلك المنتشرة في بلاد العالم، في إزالة العوز والحرمان عن وجه المسلمين، مرهونة بنجاح الانسان المحسن والمعطي والمبادر لعمل الخير في نقل فرحة العطاء من النفس المحدودة واللذة الذاتية الخاصة، الى رحاب الناس أجمعين.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 19/نيسان/2014 - 17/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م