البيئة الاجتماعية وصناعة الإنسان

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: البيئة الاجتماعية هي المكان الذي يحتضن الانسان منذ الولادة، بكل ما ينطوي عليه من أفكار وقيم وعادات وسلوكيات، لذلك يستقي الانسان طفلا، معارفه وعاداته وقيمه من هذه الحاضنة، ولعل المحيط العائلي الصغير، هو أول مصادر بناء الشخصية وتركيبها وصنعها ضمن المتاح من المواصفات والاخلاقيات، في هذه الحاضنة الاولى، بعد ذلك تشترك حواضن اجتماعية اخرى مع العائلة في صناعة الانسان، فهناك المحيط المدرسي، والشارع السكني، ووسائل الاتصال المختلفة، والاماكن التي يتحرك فيها الانسان، ويستقي منها مصادر افكاره وسلوكه، كلها تشترك بصورة مجتمعة في صناعة شخصيته، فأما أن تكون ناجحة، أو ضعيفة، تبعا لما يتوافر لها من مقومات النجاح او الفشل، وهذا يعتمد بالدرجة الاولى على طبيعة الحاضنة، وما تضخّه من قيم وافكار وعادات واخلاقيات، تؤثر بصورة مباشرة في صناعة شخصية الانسان.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ(إعداد الاجيال)، حول هذا الموضوع: (نعني بالبيئة هنا الأجواء الاجتماعية، والمناخ السائد من حيث علاقة أفراد المجتمع وجماعاته بعضهم مع بعض، في شتى المجالات الاقتصادية والسياسية والثقافية وما إلى ذلك).

إذن هناك شبكة متداخلة من العلاقات تشترك في صناعة الانسان، لا تقتصر على الجانب التربوي فحسب، فالسياسة والاقتصاد والثقافة مثلا، تشترك ايضا في هذه الصناعة، ومن بداهة القول، أن الدولة اذا كانت متمدنة، وذات مؤسسات دستورية راسخة واقتصاد متين، وثقافة متميزة بالثراء والانسانية والتحضّر، هذا يعني أن فرصة صناعة الانسان الجيد في هذه الدولة، متاحة اكثر من سواها من الدول التي لا تزال تعاني من الجهل والظلم والاستعباد، والتجاوز على حقوق الناس المعنوية، فضلا عن التجاوز على المال العام بشتى الطرق، اي التجاوز على حقوق المواطن في وضح النهار من دون وازع اخلاقي او ضمير او رادع قانوني أو رقيب ما، فهناك دول قامعة، تقودها حكومات ومؤسسات لا تعبأ بقيمة الانسان ومكانته، لذلك تعد مثل هذه الدول حواضن اجتماعة فاشلة في صناعة الانسان.

الاخلاق واستقامة السلوك

لا يمكن أن نجعل الانسان خلوقا مصانا من الزلل، اذا لم تكن بيئته الاجتماعية محصّنة بالاخلاق والقيم الانسانية السليمة، بمعنى ينبغي أن نحرص على صنع البيئة الاجتماعية القادرة على انتاج منظومة من القيم، والعادات والاخلاقيات التي تسهم في صناعة الانسان الناجح اخلاقيا، وتربويا، وانتاجيا، والحقيقة يتطلب هذا الامر، نوعا من الاستقرار للبيئة الاجتماعية على الخير والبر، وبذلك يمكن للمجتمع أن يحقق درجة عالية من انضباط الشباب واستقرارهم، واستقامة سلوكهم وافكارهم على الطريق السليم.

لهذا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه نفسه على: (إن استقرار البيئة الاجتماعية على الخير والبرّ، وعلى الأخلاق والآداب الإسلامية، لها دخل كبير في استقامة سلوك الأبناء). وقد ركّزت التعاليم الاسلامية على أهمية سلامة البيئة الاجتماعية، وحتمية اصلاحها في حالة تسلل القيم او العادات السيئة لها، لذلك تدل التجارب وما يعكسه واقع عدد من البلدان العربية والاسلامية، على فشل بعض هذه الدول في صنع البيئة الاجتماعية القادرة على حماية الانسان من القهر والاستلاب، وهو أمر حرّمه الاسلام بصورة قاطعة، بل على العكس من ذلك، فقد اهتم الاسلام بصناعة البيئة الاجتماعية المناسبة، وحرص على اصلاحها بما يصون الانسان ويسهم في حمايته من الامتهان والتجاوز.

لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب في كتابه المذكور نفسه: (لقد اهتم الإسلام كثيراً في أمر البيئة الاجتماعية وإصلاحها، فكان يهدف لأن تسود فيها القيم الإنسانية الراقية من العدل والإنصاف، والحق والمساواة، وأن تنعدم منها مظاهر الفساد والعنف، والظلم والأنانية، وأن تكون مستقرة خالية من الفتن والإضطرابات، لأن لهذا الجانب تأثيراً مهماً مباشراً على اكتساب الفرد العادات الطيبة، والأخلاق الحسنة). ويضيف الامام الشيرازي في هذا المجال ايضا: لقد (أكدّ الإسلام على مجانبة الأشرار والمفسدين من جهة، وحرّض من جهة ثانية على مصاحبة الأخيار والمتدينين ومرافقة ذوي الشرف والاستقامة؛ حتى يكسب الفرد منهم حسن السلوك ومكارم الأخلاق).

الحذر من دواعي الانحراف

ثمة قضية أساسية لابد من التنبّه لها، تتعلق بالابتعاد عن الاشرار بكل اصنافهم، لان افعالهم وافكارهم ايضا، قابلة للانتقال والانتشار والتأثير في الآخرين، حتى الجيدين منهم، لذلك على الشباب أنفسهم، واولياء الامور، التعامل بحذر وحرص في قضية مرافقة الاشرار، أو ما يُطلَق عليهم بـ (أصدقاء السوء)، فهؤلاء لهم تأثير كبير في تخريب اخلاق الشباب الاصحّاء.

وقد يضطر بعض الشباب الجيدين الى مرافقة آخرين سيئين لاسباب معينة، لهذا عليهم الحذر في التعامل معهم، وغالبا ما يكون الشاب المؤمن اكثر ثقة بنفسه، وايمانا بمبادئه، لذلك نتوقع أن يكون ذا قدرة على اصلاح الآخر، بدلا من التأثّر في افكاره وقيمه الشريرة، وعلى الاباء واولياء الامور، تقع مسؤولية كبيرة في هذا الشأن، تتعلق بالمتابعة والمراقبة عن بعد، والتصحيح والارشاد، حتى لا يكون الشباب الصالح ضحية لبعض الاشرار.

من هنا يؤكد الامام الشيرازي قائلا في هذا المجال: (ينبغي للشباب أن يكونوا حذرين من مصاحبة المنحرفين في أخلاقهم وسلوكهم؛ لأنهم سيشكلون عامل انحراف يدفع باتجاه الأثم والفساد، وعلى المؤمنين أن يراعوا هذه المواصفات في رسم وتحديد علاقات أبنائهم وأفراد أسرتهم في المجتمع؛ ليكسبوا الأخلاق الحميدة والعادات الحسنة، ويتجنبوا مزالق الانحراف ومهاوي الفساد).

وقد طالب الاسلام باصلاح البيئة بمفهومها الشامل، واذا كان المقصود بذلك البيئة الطبيعية، فإن هذا الطلب ينسحب على غيرها من البيئات ايضا، بمعنى لابد من مراعاة البيئة الاجتماعية والاهتمام بها، لما لها من تأثير كبير ومباشر في صناعة شخصية الانسان، وبالتالي صناعة مجتمع ناجح، متعاون، متميز، ومنتج في الوقت نفسه.

لذلك يقول الامام الشيرازي حول هذا الجانب: (لقد حثّ الإسلام على ضرورة إصلاح البيئة ووعد عليه الأجر والثواب، وحذّر في المقابل من إفساد البيئة وتوعد عليه العذاب والنيران. قال الله تعالى: وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 14/نيسان/2014 - 12/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م