الفلسفة على القمة

بيتر سنجر

 

في العام الماضي، دق تقرير من جامعة هارفارد ناقوس الخطر، لأنه أظهر أن نسبة الطلاب في الولايات المتحدة الذين يكملون درجة البكالوريوس في العلوم الإنسانية انخفضت من 14% إلى 7%. وحتى جامعات النخبة مثل هارفارد شهدت انخفاضا مماثلا. وعلاوة على ذلك، يبدو أن الانخفاض قد أصبح أكثر حدة في السنوات الأخيرة. وهناك أحاديث عن أزمة في العلوم الإنسانية.

أنا لا أعرف ما يكفي عن العلوم الإنسانية ككل للتعليق على الأسباب التي أدت إلى الانخفاض في عدد المسجلين بها. ولعل الأمر أن العديد من التخصصات الإنسانية لا تبشر بتوفير مهن مجزية، أو أي مهنة على الإطلاق. وربما يكون هذا راجعاً إلى فشل بعض التخصصات في التواصل مع العامة وشرح ما تقوم به ولماذا تمثل أهمية بالنسبة لهم. أو قد يكون السبب ــ برغم صعوبة تقبل هذه الفرضية ــ أن بعض التخصصات الإنسانية ربما أصبحت حقاً أقل أهمية للعالم المثير السريع التغير الذي نعيش فيه.

الحق أنني أسوق هذه الاحتمالات دون التوصل إلى حكم واضح بشأن أي منها. ولكن ما أعرفه حقا هو تخصصي، الفلسفة، والتي ومن خلال جانبها العملي ــ الأخلاق ــ  تساهم إسهاماً حيوياً في المناقشات الأكثر إلحاحا التي قد تفرض نفسها.

وأنا فيلسوف، لذا فلعل شكك في تحيز وجهة نظري يكون مبررا. ولكن ولحسن الحظ يمكنني الاعتماد على تقرير مستقل من إعداد مركز البحوث السويسري معهدجوتليبدوتويلر، لدعم إدعائي.

أصدر المعهد مؤخراً قائمة مصنفة بأكبر مائة من قادة الفكر في العالم لعام 2013. تتضمن القائمة اقتصاديين وعلماء نفس وكتّاب وعلماء في السياسة وفيزيائيين وعلماء أنثروبولوجيا وعلماء في المعلومات وعلماء أحياء ورجال أعمال ورجال دين وأطباء وأشخاص من العديد من التخصصات الأخرى. مع ذلك فإن أول ثلاثة على القائمة من أفضل خمسة مفكرين في العالم هم فلاسفة: سلافوي جيجك، ودانيال دينيت، وأنا. وقد صنف المعهد عالماً رابعاً وهو يورجن هابرماس عالم الاجتماع، ولكن التقرير يعترف به أيضاً على أنه ــ وهو أمر قابل للجدال ــ فيلسوف.

وكان قائد الفكر العالمي الوحيد ضمن الخمسة الأوائل ولا صلة له بالفلسفة هو آل جور. وعدد الاقتصاديين في قائمة المائة أكثر من المفكرين من أي تخصص آخر منفرد، ولكن أعلى خبير اقتصادي على القائمة، وهو نيكولاس ستيرن، يأتي في المرتبة العاشرة إجمالا.

هل من الممكن حقاً أن يكون أربعة من أصل خمسة مفكرين هم الأكثر تأثيرا في العالم ينتمون إلى العلوم الإنسانية، وأن يكون ثلاثة أو أربعة منهم فلاسفة؟ للإجابة على هذا السؤال، علينا أن نسأل ماذا يستخدم المعهد من مقاييس عندما يقوم بترتيب تصنيفه لقادة الفكر في العالم.

يهدف معهد جوتليب دوتويلر إلى تعريف "المفكرين والأفكار التي يتردد صداها في الحيز المعلوماتي العالمي ككل." قد يكون الحيز المعلوماتي الذي تُستَمَد مكنه البيانات عالميا، ولكنه أيضا باللغة الإنجليزية فقط، وهو ما قد يفسر عدم وجود أي مفكر صيني في قائمة المائة. فهناك ثلاثة شروط للتأهل: فلابد أن يكون الشخص يعمل كمفكر في الأساس؛ وأن يكون معروفا خارج نطاق تخصصه؛ وأن يكون مؤثرا.

يقوم هذا التصنيف على مزيج من قياسات مختلفة عديدة، بما في ذلك مدى اتساع مشاهدة ومتابعة المفكرين على موقعي يوتيوب وتويتر، ومدى بروزهم في المدونات وفي حيز "ويكي". وتشير النتائج إلى أهمية كل مفكر في مختلف الدول ومجالات مواضيع البحث، ويختار التصنيف أولئك المفكرين الذين يدور حولهم القدر الأكبر من الحديث عنهم العامة ومن منهم يثير المناقشات الأوسع نطاقا.

لا شك أن الترتيب سيختلف من عام إلى آخر. ولكن الخلاصة هنا هي أن حفنة من الفلاسفة في عام 2013 كانت مؤثرة بشكل خاص في عالم الأفكار.

وما كان هذا ليعد خبراً جديداً لزعماء أثينا القدامى الذين اعتبروا ما كان يقوم به سقراط مزعجاً بما فيه الكفاية للحكم عليه بالإعدام بتهمة "إفساد الشباب". ولن يكون بالخبر الجديد أيضاً لأي شخص مطلع على الجهود الناجحة العديدة الرامية إلى طرح الفلسفة في سوق أوسع.

فهناك على سبيل المثال مجلة الفلسفة الآن وما يماثلها في لغات أخرى. وهناك ملفات الصوت على موقع مقتطفات من الفلسفة والعديد من المدونات والدورات المجانية على الإنترنت التي تجتذب عشرات الآلاف من الطلاب.

ولعل الاهتمام المتزايد بالتأمل في الكون وحياتنا نتيجة لحقيقة مفادها أن المشاكل المتعلقة بالغذاء والمأوى والأمن الشخصي أصبحت محلولة إلى حد كبير بالنسبة  لمليار شخص على الأقل على كوكبنا. مما يجعلنا نتساءل ماذا نريد بعد، أو ماذا ينبغي لنا أن نريد، من الحياة. وهذه هي نقطة الانطلاق لكثير من خطوط التساؤل الفلسفي.

إن القيام بنشاط فلسلفي ــ التفكير فيها والجدال حولها، وليس مجرد قراءتها بشكل سلبي ــ  يطور قدرات التفكير الانتقادي ويجهزنا بالتالي للتعامل مع العديد من التحديات في عالم سريع التغير. وربما لهذا السبب يحرص العديد من أرباب العمل الآن على توظيف الخريجين الذين أبلوا بلاء حسنا في مقررات الفلسفة.

والأمر الأكثر إثارة للدهشة والأكثر أهمية في هذا السياق يتمثل في مدى التغير الذي قد يطرأ على حياة أي إنسان نتيجة للالتحاق بدورة في الفلسفة. والحق أنني أعلم من تجربتي الشخصية أن الالتحاق بدورة في الفلسفة من الممكن أن يدفع الطلاب إلى التحول إلى نباتيين، والسعي إلى ممارسة المهن التي تمكنهم من التبرع بنصف دخلهم لأعمال الخير، بل وحتى التبرع بكلية لشخص غريب. تُرى كم من التخصصات الأخرى بوسعها أن تقول هذا عن نفسها؟

* أستاذ أخلاق الطب الحيوي بجامعة برينستون وأستاذ فخري بجامعة ملبورن، انتخبه معهد جوتليب دوتويلر كثالث مفكر معاصر من الأكثر تأثيرا في العالم

http://www.project-syndicate.org/

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 13/نيسان/2014 - 11/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م