نظرية التلقي وإطلاق دور القارئ

د. علي محمد ياسين

 

تعددت المناهج النقدية وتنوّعت وفقا للزاوية التي تنظر من خلالها للنص الأدبي فإذا كان المنهج النفسي يركّز على القضايا الشعورية واللاشعورية التي مرّ بها المبدع، فإنّ المنهج الاجتماعي له زاوية خاصّة، فهو ينظر للنص الأدبي على أنّه مرآة تعكس الواقع بطريقة مباشرة قائمة على المحاكاة حرفيّة كانت أو جدليّة، وإذا كان المنهج البنيوي اللساني يرى في النص الأدبي بنية منعزلة عن السياقات التي أفرزته، وما هذه البنية في النهاية إلاّ نسق من العناصر اللغوية القائمة على علاقات إمّا اختلافيّة أو ائتلافيّة؛ فإن منهج القراءة يعيد منح الثقة للقارئ موليا إياه قيمة عالية أثناء تفاعله مع النص بغية تأويله وخلق صورة أخرى جديدة لمعناه لم تكن موجودة من ذي قبل، وسنحاول في السطور القادمة أن نوجز باختصار شديد لأهم الأسس والمرتكزات التي يستند إليها منهج التلقي عند أهم روّاده ومدارسه.

كان ظهور البوادر الأولى لنظريّة التلقي بألمانيا الشرقيّة أواسط الستينيات في أحضان مدرسة كونستانس وبرلين الشرقيّة، وقد استندت هذه النظريّة في أصولها المعرفيّة الأولى على الفلسفة الظاهراتيّة التي تؤمن بالذات وبقدرتها على الحضور في الأشياء وبكون الوعي حادثا ومكتملا بها، لأنّ (إدراك معنى الظاهرة قائم على الفهم ونابع من الطاقة الذاتيّة الخالصة الحاوية له) وهذا يعني إعادة القيمة للبعد الذاتي في محاولته لتحديد قيمة البعد الموضوعي وجوهره. إذ إنّ نظرية ظاهراتية الفن ترى أنّ العمل الأدبي هو ليس النص الأدبي بحدّ ذاته، وإنّما هو أيضا تلك الأفعال المتعلّقة به من جراء عملية الاستجابة له، وبذلك حاولت هذه النظريّة أن تنأى بنفسها عن النظريات الأخرى التي أهملت القارئ بوصفه ذاتا فاعلة في مقاربة النص فراحت تتقصى المعنى من النص بوسائل تعسفيّة كالتركيز على إحالات المرجع الواقعي أو اعتماد الوسائل البيبلوغرافيّة للوصول إلى ما يحيط بالمبدع من ظروف حياتيّة وشخصيّة، أو في عزل النص عن سياقات إبداعه وتلقيه ومعاملته على أنّه بنية لغويّة منغلقة على نفسها.

إنّ أهم ما يمكن أن يميّز المدرسة الألمانيّة هو وجود اتجاهين كبيرين متباينين هما: اتجاه جماعة برلين وجماعة كونستانس، حيث قامت الأولى على مهاد نظري فلسفي يستمد تراثه من النظرية الماركسيّة معتقدة أنّ التواصل الفني يقوم على أربعة عناصر هي: المؤلف والنص والمتلقي والمجتمع، ولذلك فقد أخذت هذه الجماعة مآخذ عديدة على جماليات التلقي التي دعت لها مدرسة كونستانس ولعلّ أهمّها هي الطريقة التي تفصل فيها بين العلاقة الجدليّة القائمة بين الإنتاج والاستهلاك، حيث سيؤدي الفصل بين الإنتاج والتلقي إلى فقدان كلّ قيمة وكل طموح من أجل بناء نمط استبدالي جديد.

أما جماعة كونستانس فيعود لها الفضل في وضع الأسس النظرية لما يعرف بـ(جماليات التلقي) التي أعادت للقارئ قيمته الحقيقيّة وجعلته قطبا تقوم عليه نظريتها الفلسفيّة والأدبيّة بل زادت أن جعلته داخلا في العملية الإبداعيّة ذاتها، ولم تول هذه الجماعة شأنا للمجتمع كما فعلت جماعة برلين لأنها ترى أنّ المجتمع موجود في النص وفي القارئ ومتضمّن فيهما.

إن أهم مُنظّري هذه الجماعة هما هانز روبرت ياوس، وفولفغانغ آيزر، ولعلّ أهم ما جاء به الأوّل هو أفق التوقعات الذي استخدمه في وصف المقاييس التي يتّبعها القرّاء في الحكم على النصوص الأدبيّة في أي عصر من العصور، وهي مقاييس تسهم في تحديد ما هو شعري أو أدبيّ ودرجة اختلافه عمّا هو غير شعري، وغير أدبيّ للغة ذاتها.

ويرى ياوس أن (الأثر الفنّي لا يمكن أن يكون معزولا بصورة كاملة عن كل ما يمكننا أن ننتظره منه، فالعمل الأدبي يظلّ مكيّفا بالغيريّة أي بالعلاقة بالآخر بوصفه ذاتا مدركة، وحتى في الحالة التي يكون فيها العمل إبداعا لغويّا صرفا يُلغي الانتظار أو يتجاوزه فإنّه يفترض معلومات مسبّقة أو توجيهات للانتظار... أي أنّ العمل مهما بلغت درجة إغراقه في الجانب الشكلي فإنّه ينطوي على كم من المعلومات المسبّقة التي توجّهه نحو الانتظار والتوقّع، وهذه المعلومات تقاس بها درجة الجدّة والطرافة ومن ثمّ فإنّ أفق الانتظار والتوقّع هو ذاك الذي يتكوّن لدى القارئ بواسطة تراث أو سلسلة من الأعمال المعروفة قبلا، وبالحال الخاصّة التي يتكوّن عليها الذهن، وتنشأ مع بروز الأثر الجديد عن قوانين جنسه وقواعد لعبته، وكما أنّه لا يوجد تواصل باللغة لا يمكن إرجاعه إلى معيار أو اصطلاح علم اجتماعي أو مشروط بسياق، فكذلك لا يمكن أن نتصوّر أثرا أدبيّا يوجد داخل ضرب من الفراغ الإخباري، ولا يرتهن بأي وضعيّة مخصوصة للفهم، ووفق هذا المعيار فإن كلّ أثر أدبيّ ينتمي إلى جنس، وهذا يؤكّد بكل بساطة على أنّ كلّ أثر يفترض أفق توقّع، أي مجموعة من القواعد سابقة الوجود لتوجيه فهم القارئ وتمكينه من تقبّل تقييميّ) ومعنى ذلك أنّ علاقة النص الفردي بسلسلة النصوص الأخرى المنتمية لجنسه تظهر وكأنّها مسلك إبداع وتحرير متواصل لأفق ما، أي أن النص الجديد يستدعي إلى ذهن القارئ أفق انتظار ونظام يعرف من خلال النصوص السابقة وهو نظام يتعرّض دائما لتغييرات وخروقات وإضافات عديدة أو قد يعاد إنتاجه كما هو.

ونستنتج مما سبق أنّ ياوس افترض في القارئ أن يكون ملمّا بمعرفة النصوص والآليات التي تشتغل وفقا لها تلك النصوص، وهذا لا يتأتى إلاّ من المعاشرة الطويلة التي تمنح القدرة على فرز ما يتراكم من هذه النصوص مثلما تكسب تلك المعاشرة خبرة في رصد تعاقبها الزمني وما يحدث من خروقات وتغيير وتشويش على نظم تلك النصوص والتقاليد الفنيّة التي لازمتها وهي تصل إلى القارئ الحصيف عبر الأزمنة، أما بالنسبة إلى القطب الآخر من أقطاب مدرسة كونستانس (فولفغانغ آيزر) الذي كان له فعل المساهمة في تطوير نظرية التلقي، فإنّ دوره يكمن من خلال تركيزه على مفاهيم الظاهراتيّة وباعتماده على علم النفس واللسانيّات والإنثربولوجية متأثّرا بالفيلسوف البولندي روما ن إنجاردن ومطوّرا لأفكاره فيما بعد.

أما أهم فرضيات آيزر العامّة بهذا الخصوص فمن الممكن أن نوجزها بما يلي:

يفترض من خلال نظريته في جماليّة التلقي مجموعة مفاهيم تتمحور حول التفاعل القائم بين النص والقارئ الذي يضطلع بعمليّة القراءة، وقد استندت تلك النظرية على ثلاثة عناصر أساسيّة هي: (النص والقارئ والتفاعل بينهما) ولم يغفل آيزر مسألة هامة تتعلق بتضافر العناصر المذكورة في عملية بناء المعنى وبناء الذات، وبالنسبة للجانب الأول يرى آيزر أنّ الأهم من المعنى ذاته هو ما يتولّد عنه أو بشكل أدق ما ينبثق أثناء ذلك كلّه من أثر كبير هو في الحقيقة الأثر الجمالي بتنوّعه وتعدده وخصب مجالاته، أما بخصوص بناء الذات فإنّه يؤكّد على أهمية دور الذات في تلقي المعنى وإنتاج الأثر ومن ثم يكون المعنى هو الأثر الناتج عن الفعل المتبادل بين النص والقارئ.

ويرى آيزر أيضا أن العمل الأدبي له قطبان: قطب فنّي وقطب جمالي وإنّ قطبه الفنّي يكمن في النص المتحقق عبر النسيج اللغوي وما يضمّنه المؤلف من قيم تعبيرية ومضمونيّة بغية تبليغ القارئ بحمولات معرفية وأيديولوجيّة، وبالتالي فإنّ هذا القطب مشتمل على دلالة ومعنى وبناء شكليّ، أما قطبه الجمالي فهو التحقّق الذي ينجزه القارئ عبر عملية القراءة المتأمِّلة القادرة على تأويل النص وإخراجه من حيّزه المجرّد إلى حيّزه الملموس، وبذلك يكتسب التأويل بوصفه منهجا نقديّا قيمة مضاعفة في إدراك صورة المعنى المتخيّل في النص واستكناه أغواره البعيدة الغور والكشف عن أبعاده المتوارية.

وينتج عن هذه القطبيّة الثنائيّة أيضا أنّ العمل الأدبي يمكن أن يتطابق مع النص تماما أو مع إدراك النص بينما هو في الحقيقة يشغل منزلة وسطا بين المنزلتين.

وخلاصة القول: إنّ ما قامت به مدرسة كونستانس عبر إنجازات ياوس وآيزر قد طرح أبعادا جديدة لمفاهيم العمليّة الإبداعيّة وتكوّناتها عبر السنين، كما أعاد صياغة مفاهيم جديدة حول القراءة وآليّات اشتغالها ودور القارئ في استثمار النص وتأويله مما أعطى لهذه النظريّة ميزتها وتفرّدها.

وبهذا ستكون القراءة عملية استكشاف للأبعاد المجهولة من الأعمال الأدبيّة والنصوص بمختلف أنواعها، وغوص بأغوار طبقات دلاليّة لا يراها غير القارئ الخبير، وهي دلالات ليس من الضرورة أن يكون المنشئ قصد إليها بالمرّة.

......................................

المصادر

نظرية التلقي، أصول وتطبيقات: د بشرى موسى صالح.

نظرية التلقي: مجموعة باحثين.

الخطاب والقارئ، د. حامد أبو أحمد.

نظرية التلقي: روبرت هولب، ترجمة: عز الدين إسماعيل.

عملية القراءة من مقترب ظاهراتي، ضمن كتاب نقد استجابة القارئ تحرير: تومبكنز.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 13/نيسان/2014 - 11/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م