بوتن وحساباته

جوزيف ناي

 

وفقاً لأغلب الروايات، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن كان الفائز في أزمة أوكرانيا، على الأقل حتى الآن. ففي الداخل حظي قراره بضم شبه جزيرة القرم، التي نقل نيكيتا خروشوف بشكل متعسف السيادة عليها إلى أوكرانيا في عام 1954، بالثناء والإشادة على نطاق واسع. وقد تجاهل بوتن إلى حد كبير ردود أفعال الحكومات الغربية على قراره. ولكن من منظور أبعد أمدا، لا نستطيع أن نعتبر انتصار بوتن مؤكداً إلى هذا الحد.

بدأت الأزمة الحالية في أوكرانيا عندما قرر الرئيس فيكتور يانوكوفيتش رفض اتفاقية الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، واختبار بدلاً منها اتفاقاً مع روسيا تضمن التمويل المطلوب بشدة. وقد أثار هذا غضب الأوكرانيين في المناطق الغربية من البلاد الأكثر ميلاً إلى الاتحاد الأوروبي، فانطلقت الاحتجاجات الشعبية المطولة التي انتهت إلى الإطاحة بحكومة يانوكوفيتش الفاسدة ولكن المنتخبة ديمقراطيا.

ولكن لم يكن كل الأوكرانيين كارهين للسعي إلى إقامة علاقات أوثق مع روسيا. والواقع أن قرار يانوكوفيتش حظى باستحسان العديد من الناطقين باللغة الروسية في المناطق الشرقية والجنوبية في أوكرانيا. وكانت روسيا هي التي لجأ إليها يانوكوفيتش عندما اندلعت أعمال العنف بعد عِدة أشهر من المظاهرات السلمية في كييف، فقُتِل متظاهرون، الأمر الذي دفعه إلى الفرار من أوكرانيا.

ومن جانبه، لم يكتف بوتن بتقديم الملاذ ليانوكوفيتش ورفض الاعتراف بالحكومة الجديدة في كييف؛ فبدأ بالمساعدة في تنظيم ــ وتحريض ــ المقاومة بين الأغلبية العرقية الروسية في شبه جزيرة القرم. وبنشر القوات الروسية (من الملثمين الذين لا يحملون أي إشارات غالبا) من قاعدة أسطول البحر الأسود في سيفاستوبول، التي استأجرتها روسيا من أوكرانيا، تمكن بوتن من فرض سيطرته على شبه الجزيرة من دون خسائر في الأرواح.

وعندما أعرب زعماء الغرب عن غضبهم إزاء التغييرات القسرية للحدود الأوروبية، ظل بوتن محتفظاً بهدوء أعصابه، مستشهداً باستخدام حلف شمال الأطلسي للقوة في كوسوفو قبل خمسة عشر عاما، وما أعقب ذلك من تأييد زعماء الغرب لانفصالها رسمياً عن صربيا، كمثال يدلل على نفاقهم. فكان رد الغرب بفرض عقوبات مستهدفة موجهة ضد بضعة مسؤولين روسي رفيعي المستوى، وهو ما استجاب له بوتن بفرض عقوبات مضادة تمنع دخول ساسة غربيين محددين.

في الإجمال، تم تجميد عدد قليل من حسابات البنوك الروسية، ووقف بعض الشحنات من السلع الحساسة، وتكبد الروبل وسوق الأوراق المالية الروسية بعض الخسائر. بيد أن التأثير العام الذي خلفته استجابة الغرب لهذه الأحداث كان معتدلا.

ينبع إحجام الغرب عن تشديد العقوبات إلى حد كبير من البلدان الأوروبية التي تحافظ على علاقات اقتصادية قوية بروسيا. وبرغم تعهد الولايات المتحدة ــ التي تتاجر قليلاً مع روسيا ــ والاتحاد الأوروبي بوضع إطار لفرض عقوبات إضافية، على أن يتم تفعيلها إذا أرسل بوتن قوات إلى شرق أوكرانيا، فإن تصميم هذه العقوبات على نحو لا يلحق الأذى بأوروبا لن يكون بالمهمة السهلة.

ومع هذا فقد تكبدت روسيا ثمناً باهظاً نظير أفعالها من حيث مكانتها الدولية. فسرعان ما تبددت المشاعر الودية والقوة الناعمة التي ولدها أوليمبياد سوتشي، والآن أصبحت روسيا مطرودة من مجموعة الدول الثماني. وفي الجمعية العامة للأمم المتحدة اضطرت روسيا إلى مواجهة تصويت محرج أدانت فيه 100 دولة تصرفاتها. وفي ختام قمة الأمن النووي في لاهاي، أشار الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى روسيا بوصفها قوة إقليمية أظهرت سياستها العدوانية في التعامل مع جيرانها ضعفاَ واضحا.

ولكن هل يشكل أي من هذا أي أهمية في نظر بوتن؟ تتوقف الإجابة على أهدافه.

إذا كانت تصرفات بوتن العدوانية نابعة من مشاعر انعدام الأمان، كما يزعم بعض المراقبين، فهذا يعني أن نجاحه كان مختلطا. وبموجب هذه الرواية فإن بوتن كان يخشى تقلص نفوذ روسيا في بلد مجاور تشترك معه روسيا في علاقات تاريخية عميقة. ولكن برغم نفوذ روسيا الواضح بين الناطقين باللغة الروسية في شرق أوكرانيا فإن التأثير الإجمالي المترتب على ضم شبه جزيرة القرم يتلخص في الحد من نفوذ روسيا في أوكرانيا، وفي الوقت نفسه تجدد نشاط بعبع بوتن، حلف شمال الأطلسي.

ولعل بوتن استشعر الخوف أيضاً من أن يؤدي نجاح الثورة في أوكرانيا إلى تشجيع عودة الاحتجاجات التي سببت له الكثير من المتاعب في عام 2012، عندما استعاد منصب الرئيس من دميتري ميدفيديف. وفي أعقاب ضم شبه جزيرة القرم، ارتفعت مستويات شعبية بوتن المحلية إلى عنان السماء، وأصبحت احتمالات نجاح أي احتجاج في إضعاف إدارته ــ ناهيك عن الإطاحة به ــ متدنية للغاية.

ويزعم آخرون أن الدافع الأساسي وراء تصرفات بوتن الأخيرة كان استعادة مكانة روسيا العالمية بوصفها "قوة عظمى". والواقع أن بوتن، عميل الاستخبارات السوفييتية السابق في ألمانيا الشرقية، أعرب عن تفجعه من تفكك الاتحاد السوفييتي معتبراً ذلك الحدث "الكارثة الجيوسياسية الأعظم في القرن العشرين".

والواقع أن بوتن كان كثيراً ما يوصَف بأنه غاضب من الغرب، ويكتنفه شعور بالخيانة والإذلال إزاء ما يعتبره معاملة غير عادلة لروسيا. ويرى بوتن أن لفتات مثل ضم روسيا إلى مجموعة الثماني ومجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية ودعوة السفير الروسي لحضور مناقشات منظمة حلف شمال الأطلسي في بروكسل، من غير الممكن أن تعوض عن توسع حلف شمال الأطلسي إلى حدود روسيا، وإنشاء مواقع مضادة للصواريخ الباليستية في أوروبا الشرقية، أو تقطيع أوصال صربيا. ثم ازدادت الأمور سوءاً على سوء بالإطاحة بالعقيد معمر القذافي في ليبيا والجهود الجارية لإضعاف عميل الكرملين الرئيس السوري بشار الأسد.

وإذا كانت المكانة دافعاً مهماً لتصرفات بوتن في شبه جزيرة القرم، فإن استجابة الغرب قد تخلف تأثيراً أعظم مما يتصور كثيرون الآن. فقبل دورة الألعاب الأوليمبية الشتوية في سوتشي (حيث كان من المفترض أن تعقد مجموعة الثماني قمتها في يونيو/حزيران)، استشهد بوتن بالقوة الناعمة المتزايدة باعتبارها هدف بالغ الأهمية بالنسبة لروسيا ــ وهو الهدف الذي أصبح تحقيقه أصعب كثيراً بعد استخدامه للقوة الصارمة في أوكرانيا.

وبهذا المعنى، فإن إعلان أوباما أن روسيا قوة إقليمية تتصرف من موقع ضعف ربما وجه لبوتن ضربة لا تقل إيلاماً عن تجميد عضوية روسيا في مجموعة الثماني. لا شك أن تصرفات بوتن في أوكرانيا جلبت لروسيا مكاسب ملموسة في الأمد القريب. ولكنها تنطوي أيضاً على تكاليف أقل وضوحا. ويتبقى لنا أن نرى ما إذا كان تحرك بوتن الجريء يستحق كل هذا العناء.

* سكرتير مساعد وزير الدفاع السابق، وأستاذ في جامعة هارفارد، مؤلف كتاب القوة الناعمة، أحدث مؤلفاته كتاب بعنوان مستقبل القوة

http://www.project-syndicate.org

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/نيسان/2014 - 10/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م