دور المجتمع المدني في بناء الديمقراطية؟

حاتم حميد محسن

 

يعبّر المجتمع المدني عن نطاق واسع من الجماعات المنظمة والمؤسسات الطوعية المستقلة عن الدولة، وهي منظمات تنشأ من ذاتها وتعتمد عليها. هذا بالطبع يتضمن المنظمات غير الحكومية، بالاضافة الى الإعلام الواسع المستقل، ومراكز او بنوك التفكير think tanks والجامعات، والجماعات الدينية والاجتماعية.

ولكي تكون الجماعات جزءاً من المجتمع المدني، فهي يجب ايضا ان تلبّي بعض الشروط الاخرى. في الديمقراطية، تحترم جماعات المجتمع المدني القانون وحقوق الافراد، وحقوق الجماعات الاخرى في التعبير عن مصالحها وافكارها. جزء من كلمة "مدني" يعني التسامح وقبول التعددية والتنوع.

ان جماعات المجتمع المدني ربما تؤسس علاقات مع الاحزاب السياسية ومع الدولة، لكنها يجب ان تحافظ على استقلاليتها، وان لا تبحث لنفسها عن السلطة السياسية.

وفي اثناء مراحل التحول، عادة تبرز بعض الجماعات التي تسعى الى احتكار حياة وتفكير اعضاءها. هذه الجماعات لا تجيز الحق لأعضاءها في المعارضة، وهي لا تحترم الجماعات الاخرى التي لا تتفق معها. بعض هذه الجماعات هم في صدارة الاحزاب السياسية او الحركات التي تسعى للسيطرة على الحكم. هذه الجماعات ليست جزءاً من المجتمع المدني ولن تساهم في بناء الديمقراطية.

اذاً ماذا يجب ان تعمله منظمات المجتمع المدني المستقلة، الطوعية، المتسامحة، التعددية، الممتثلة للقانون لبناء وترسيخ الديمقراطية؟

اولاً: ان الدور الاساسي لمنظمات المجتمع المدني هو الحد من قوة وسيطرة الدولة. بالطبع، اي ديمقراطية تحتاج الى دولة ذات وظائف وسلطات فاعلة. ولكن عندما يخرج البلد من عقود من الدكتاتورية، فهو يحتاج ايضا لإيجاد طرقا لمراقبة وتقييد سلطة القادة السياسيين ومسؤولي الدولة.

اللاعبون في المجتمع المدني يجب ان يراقبوا الكيفية التي يستعمل بها مسؤولو الدولة سلطاتهم. هم يجب ان يسلطوا الضوء على مخاوف الجماهير من اي اساءة او استغلال للسلطة. كذلك، يقومون بتشكيل لوبي لأجل الوصول للمعلومات، بما في ذلك قوانين حرية المعلومات، وقواعد ومؤسسات السيطرة على الفساد.

هذا يشكل الوظيفة الثانية الهامة للمجتمع المدني وهو كشف السلوك الفاسد للمسؤولين الحكوميين وعمل تحالف لأجل اصلاحات حكومية ناجحة. وحتى مع وجود هيئات و قوانين ضد الفساد، فهي لا تستطيع العمل بفاعلية دون دعم فعال ومشاركة قوية من المجتمع المدني.

ثالثاً: الوظيفة الثالثة للمجتمع المدني هي تعزيز المشاركة السياسية. المنظمات غير الحكومية NGOs يمكنها القيام بهذا عبر تعليم الناس حقوقهم والتزاماتهم كمواطنين ديمقراطيين، وتشجيعهم للاستماع لحملات الانتخابات والتصويت فيها.المنظمات غير الحكومية يمكنها ايضا المساعدة في تطوير مهارات المواطنين للعمل مع بعضهم لحل المشاكل المشتركة، والنقاش في القضايا العامة، والتعبير عن وجهات نظرهم.

رابعا: منظمات المجتمع المدني تساعد في تطوير القيم الاخرى للحياة الديمقراطية: التسامح، الاعتدال، قبول التسويات، واحترام وجهات النظر الاخرى. بدون هذه الثقافة العميقة للقبول، لا يمكن للديمقراطية ان تستقر. هذه القيم لا يمكن ببساطة تعليمها، انها تُمارس اثناء التطبيق. لدينا امثلة حية عن منظمات غير حكومية في دول اخرى – خاصة الجماعات النسوية – التي غرست هذه القيم لدى الشباب والبالغين عبر مختلف البرامج التي تمارس المشاركة والنقاش.

خامسا: يمكن ايضا للمجتمع المدني المساعدة في تطوير برامج للتعليم المدني الديمقراطي في المدارس. بعد عهود من الدكتاتورية، تصبح الاصلاحات الشاملة ضرورية لإعادة تنقيح وكتابة المناهج الدراسية، وكذلك إعادة تدريب المعلمين لكي يعلموا الشباب حول جرائم الماضي وعن مبادئ وقيم الديمقراطية. هذه المهمة من الضروري ان لا تُترك فقط للمسؤولين في وزارة التعليم. المجتمع المدني يجب ان يكون منخرطا كشريك بنّاء ومحرض على الديمقراطية والتدريب على حقوق الانسان.

سادسا: المجتمع المدني هو ميدان للتعبير عن الاهتمامات المتنوعة، احد ادوار منظمات المجتمع المدني هي تشكيل لوبي لحاجات واهتمامات اعضاءها، كالمرأة، الطلاب، المزارعون، البيئيون، نقابات العمال، المحامون، الاطباء، وغيرهم. المنظمات غير الحكومية وجماعات المصالح يمكنها ايصال وعرض ارائهم امام البرلمان ومجالس الاقاليم، عبر الاتصال بالافراد الاعضاء وتمثيلهم امام لجان برلمانية. هم يمكنهم ايضا تأسيس حوار مع وزراء الحكومة ذوي العلاقة ومع الوكالات للدفاع عن مصالحهم وقضاياهم.

ان اصحاب الاموال والتنظيم الجيد ليسوا هم وحدهم يتمكنون من ايصال اصواتهم، بمرور الزمن، الجماعات التي تعرضت للاضطهاد تاريخيا وبقيت على هامش المجتمع تستطيع التنظيم للاعلان عن حقوقها والدفاع عن مصالحها ايضا.

سابعا: احدى الطرق التي يستطيع بها المجتمع المدني ترسيخ دعائم الديمقراطية انه يوفر اشكالاً جديدة من الاهتمام والتضامن التي هي في تضاد مع الاشكال القديمة القبلية واللغوية والدينية وروابط الهويات الاخرى. الديمقراطية لا يمكن ان تستقر اذا كان الناس يرتبطون مع آخرين من نفس الدين او الهوية. عندما يأتي الناس من مختلف الاديان والهويات العرقية للالتقاء مع بعضهم على اساس مصالحهم المشتركة كالنساء، والفنانين، والاطباء، والطلاب، والعمال، والمزارعين، والمحامين، ونشطاء حقوق الانسان، والبيئيون، وغيرهم، فان الحياة المدنية تصبح اكثر غنىً، واكثر تعقيدا وتسامحا.

ثامنا: المجتمع المدني يمكنه ان يوفر قاعدة للتدريب لقادة المستقبل السياسيين. المنظمات غير الحكومية وجماعات اخرى يمكنها المساعدة في تحديد وتدريب انواع جديدة من القادة الذين يتعاملون مع قضايا عامة هامة ويمكن تعيينهم لادارة المكاتب السياسية في جميع المستويات وليخدموا في رئاسة وزراء الدولة او الاقاليم. التجارب من دول اخرى تبيّن ان المجتمع المدني هو خصيصا ميدان هام يمكن ان تنطلق منه العناصر التي يتم تدريبها لقيادة المرأة في المستقبل.

تاسعا، المجتمع المدني يساعد في ابلاغ الجماهير عن القضايا العامة المهمة. هذا الدور لا يقتصر فقط على الاعلام الواسع، وانما المنظمات غير الحكومية التي تستطيع توفير منتديات لمناقشة القضايا السياسية العامة ونشر المعلومات حول تلك القضايا امام البرلمان الذي يؤثر على مصالح مختلف الجماعات.

عاشراً، منظمات المجتمع المدني تلعب دوراً هاماً في التوسط والمساعدة بحل الصراعات. في دول اخرى، قامت المنظمات غير الحكومية بتطوير برامج رسمية ونشاطات تدريبية لحل الصراعات الاثنية والسياسية ولتعليم الجماعات كيفية حل خلافاتها من خلال المساومات والحلول الوسط.

حادي عشر: تلعب منظمات المجتمع المدني دوراً حيويا في مراقبة سلوك الانتخابات. هذا يتطلب تحالفاً واسعاً للمنظمات، غير المرتبطة بالاحزاب السياسية او المرشحين، حيث يتم نشر مراقبين محايدين في جميع محطات الاقتراع لضمان حرية وعدالة وشفافية وهدوء التصويت والتصويت المضاد. من الصعب جدا اجراء انتخابات عادلة وذات مصداقية في الديموقراطيات الجديدة ما لم تلعب منظمات المجتمع المدني مثل هذا الدور.

اخيراً: لابد من التأكيد ان المجتمع المدني ليس دائما في حالة تصادم مع الدولة. لأن استقلالية المجتمع المدني عن الدولة لا يعني انه دائما ينتقد ويعارض الدولة. في الحقيقة، ان جهود جعل الدولة اكثر عرضة للمسائلة، وفعالة، ومستجيبة، وشاملة لكل الفئات – ومن ثم اكثر شرعية – ذلك يعني ان المجتمع المدني النشط يرسخ احترام المواطنين للدولة ويعزز مشاركتهم الايجابية معها.

الدولة الديمقراطية لا يمكن ان تستقر ما لم تكن فعالة وشرعية وتحظى باحترام ومساندة مواطنيها. المجتمع المدني هو مراقب ومرشد، ولكن ايضا شريك حيوي في السعي نحو هذا النوع من العلاقة الايجابية بين الدولة الديمقراطية ومواطنيها.

...........................................

* محاضرة القيت امام قادة المنظمات غير الحكومية في مركز المؤتمرات ببغداد في العاشر من شباط عام 2004 بعنوان ماذا يمكن ان يقوم به المجتمع المدني لتطوير الديمقراطية (what civil society can do to develop Democracy).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 10/نيسان/2014 - 8/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م