سورية تشعل ظلمتها الثالثة

هل لهذا النفق من نهاية؟

د. المختار بنعبدلاوي

 

هناك ثلاثة مداخل لفهم ما يجري في سورية: مدخل الاستبداد والفساد الذي برر مطالب الحرية والإصلاح في بدايات الحراك، ومدخل الطائفية في مقابل مطلب المواطنة والدولة المدنية، وأخيرا مدخل دولة الممانعة في مواجهة المؤامرة الخارجية...

مع ذلك، ومهما تنوعت هذه المداخل، ومهما قدم من تبريرات، ومهما تضاربت المسؤوليات حول ما يجري على الأرض، هناك حقيقة يسلم بها الجميع، لقد تجاوزت المأساة حدود الإدراك، فعدد القتلى، والجرحى، والمعطوبين والمختطفين أصبح يعد بمئات الآلاف، ولم تبق هناك أسرة سورية واحدة لم تدفع ضريبة الدم، كما أن عدد اللاجئين السوريين أصبح بدوره يعد بالملايين، في بلد لا تنقصه الثروات الطبيعية، ولا الموارد البشرية والمستوى التعليمي، وهي بالنهاية أرقام مخيفة تكشف عن فداحة الثمن الإنساني الذي يدفعه كل السوريون.

بالنسبة للكثيرين، هذه مجرد أرقام تتناقلها نشرات الأخبار، وهي قد لا تعني لهم الشيء الكثير، لكن نتخيل ولو للحظة أن الأمر يتعلق بأسرنا وبأطفالنا ! ولنتساءل ما ذنب هؤلاء النساء والأطفال والشيوخ، وضحايا الحرب والتهجير في سورية في هذه الوضعية حالة بحالة، ويوما بيوم!

إننا نكاد ننسى أنه وبعد النكبة الفلسطينية، والمأساة العراقية، واللتان لا تزال فصولهما مستمرة، هناك شعب ثالث التحق بمعاناتهما، أصبح هو بدوره عرضة للقتل اليومي، والتهجير المنهجي، والاضطهاد، مشردا في المخيمات أو يقف في طوابير على الحدود.

كان الشعب السوري، وهو في قلب أزمته، ينتظر من محيطه العربي المؤازرة والدعم، ويتوقع احتضانه في محنته. لكن ما حصل في الواقع هو أن العرب أغلقوا حدودهم في وجه السوريين، وعندما فتحوها، كان ذلك (مع استثناءات قليلة) لإرسال السلاح، ودعاة التطرف، والأموال الملوثة لشراء الذمم والضمائر، وتهييج النفوس كلما بدأت هذه النفوس تلين.

سورية لا تستحق مثل هذا الجزاء من “أشقائها” لأنها، حكومة وشعبا، حملت كل هموم العرب في قلبها، وفتحت على الدوام أبوابها في وجههم. فلمن لا يعرف، سورية هي الدولة الوحيدة التي تعفي كل رعايا الدول الأعضاء في الجامعة العربية من عبئ الحصول على التأشيرة لدخول أراضيها، وهي القطر العربي الوحيد الذي يستفيد فيه المواطن الفلسطيني من كل الحقوق التي يتمتع به المواطن السوري، باستثناء الجنسية، حتى لا يسقط حق العودة مع الزمن.

لا أحد يدعي أن نظام الحكم في سورية كان دائما نموذجيا أو أن الحياة العامة كانت محصنة من الفساد أو أن حقوق الإنسان كانت أقل أو أكثر مراعاة من غيرها من الأقطار العربية. بالمقابل، وعلى خلاف ما هو جار به العمل في عدد من الأقطار العربية، المواطن السوري هو من المواطنين العرب القلة الذين يستفيدون من مجانية الصحة، والتعليم، والخدمات الاجتماعية، والذي يعطي لمواطنيه تكافؤا نسبيا في الفرص. كما أن الدولة السورية هي النموذج العربي الوحيد، الذي نجح قبل الأزمة، في إقرار نظام اجتماعي واقتصادي متحرر من عبئ المديوينة، يتوفر على المقتضيات الأساسية لمقومات الاكتفاء الذاتي، والأمن الغذائي، والاندماج الاقتصادي المحلي.

أمام المأساة الإنسانية التي يعيشها السوريون، ومهما كانت الاعتبارات السياسية، لا أجد ما يمكن أن أفسر به أسلحة الفتك التي يرسلها العرب إلى سورية، في الوقت الذي يشددون فيه خناق الحصار على غزة، ويمنعونها حتى من وسائل البناء أو من التجهيزات المدنية الأساسية لاستمرار الحياة في ظروف الحد الأدنى، مثل الماء والكهرباء والصرف الصحي. لا يمكننا أن نفهم استمرار مسلسل القتل الأعمى، ونزيف الدماء، لا سيما بعد أن تبين، على مدى السنوات الثلاث الماضية، أن الحل العسكري ممتنع، وأن على من يحرص على سورية أن ينصب خيمة تجمع كل أبنائها، وتمد جسور الثقة بينهم، وتحد من لعب الأيدي الأجنبية التي تتاجر في دم وفي مصير الشعب السوري.

بكل ما قد يبدو عليه الموقف من سذاجة أقول: إن الشعب السوري لا يستحق أن يتفرج عليه “الأشقاء العرب” وهو يفرغ من دمه كل يوم، ويدور في حلقة عبثية من القتل، والترهيب، وتدمير الذات. تماما كما لا يستحق هذا الإذلال وهو يقف طوابير على تخوم الجغرافية العربية.

لقد فتح هذا الشعب قلبه وبيوته لمئات الأسر الجزائرية خلال الغزو الفرنسي، وفتح حدوده، مرة أخرى، في وجه الفلسطينيين بعد نكبة فلسطين، وتقاسم معهم رغيف الخبز، وفتح حدوده أخيرا في وجه العراقيين، مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، عربا وأكرادا، معارضين وموالين، بعد العدوان على العراق.

لقد كنت في سورية صائفة 2006، وشاهدت كيف فتح السوريون “السنة” في دمشق (إذا كانت التسميات ضرورية للدلالة) بيوتهم للبنانيين “الشيعة” (لمن يحبون التوصيفات الطائفية التي تعود إلى قرون خلت) المهجرين من الجنوب اللبناني بسبب العدوان الإسرائيلي، كما رأيت كيف فتحت الدولة السورية لهؤلاء المهجرين عددا من المرافق العمومية للإقامة، ووفرت لهم الخدمات العمومية، مستفيدة بوجه خاص من فترة العطلة الصيفية.

سورية لم تكن ملجأ للعرب فقط، ولكنها كانت موئلا لكل المعذبين، فقد استقبلت عشرات الآلاف من الأرمن، بعد حروب العثمانية، ومن الشركس بعد الثورة الروسية، بالإضافة إلى أجيال من الأكراد الذين فروا من جحيم الحرب في كردستان تركيا...

جميعا كنا متفائلين بالربيع العربي، وجميعا كنا نتطلع إلى الإصلاحات المتوقعة، بما في ذلك في سورية. لكن، وبالنهاية، وباستثناء النموذج التونسي، فإن المخرجات كانت كارثية بكل المقاييس، في مصر عاد الجيش إلى السلطة، وكر عداد الديمقراطية إلى الوراء، وفي ليبيا أصبح وجود الدولة، ووحدة ترابها على كف عفريت. أما اليمن فتعيش حالة غير مسبوقة من الفوضى، التي لا يبدو الحوار الوطني الأخير الذي شهدته اليمن قادرا على احتوائها.

كثيرون وجدوا إخراجا سهلا للحالة السورية، بتفسير الأحداث التي تعرفها البلاد داخل إطار طائفي مغلق، وكأنه المقترب الوحيد لفهم ما يجري. لكن، عندما ننظر بصورة أكثر عمقا، يبدو لنا بوضوح أن الطائفية ليست إلا الوعاء الذي تصب فيه الأحقاد، وتدفع فيه الكراهية إلى حدودها القصوى، لتغطية الفساد، والمصالح الضيقة، وطموحات الزعامة السياسية الأنانية التي لا تتردد في ركوب خيار شمشون للمحافظة على هذه المصالح الضيقة.

إن هناك سؤالا لا يملك كل متابع للشأن العام في سورية إلا أن يطرحه. كيف تحول الحراك السلمي، المدني، الديمقراطي إلى حرب طائفية؟ (لمن لا يذكر ذلك، فقد اعتصم حينذاك نشطاء مدنيون ديمقراطيون لا نرى أيا منهم اليوم بين الوجوه التي تنقل وكالات الأنباء صورها وتصريحاتها في العواصم الكبرى، أمام وزارة الداخلية السورية مطالبين بالإصلاحات) من يؤمن المال والمؤن والسلاح لعشرات الآلاف من رجالات المليشيات المحليين والأجانب؟ وهل من يغرق سورية في الدم، وفي الدخان والنار يريد بالفعل إنقاذ البلاد أو يقوم بذلك من أجل حرية وكرامة الشعب السوري؟

عندما نمعن النظر في هذا المشهد نجد أن الحالة السورية لا تختلف كثيرا عن المشهد العراقي، في بداية تسعينيات القرن الماضي. أهداف العدوان والحصار على سورية هي نفسها التي كانت على العراق. هناك ثلاثة متغيرات شكلية في هذا المشهد، وهي بالتأكيد سوف تنعكس على مخرجاته: الاستخدام المبالغ للورقة الطائفية لعزل النظام السوري، وحرمانه من تعاطف الشارع العربي، واستبدال الخطر الصهيوني الداهم بالخطر الشيعي الواهم (علما أن مذهب الطائفة العلوية الكريمة في سورية هو على نفس المسافة تقريبا عن المذهبين “الجعفري” و”السني”) وأخيرا انقشاع الخلل الدولي السابق في موازين القوى، والذي كان سائدا زمن الحرب على العراق. لحسن الحظ، لقد تجاوز العالم وضعية أحادية القطب السابقة، وأصبحنا اليوم في عالم تتعدد فيه الأقطاب.

نعم، إن السذج والمرضى النفسيين، والمتطرفين يمارسون القتل اليومي في سورية باسم الطائفة، وباسم الدين، وهم يعتقدون أن ذلك يقربهم من الله، وهم ليسوا في النهاية إلا أحجارا يجري تحريكها على رقعة المصالح الدولية. إنهم يتصورون أنهم بتفجير ذواتهم يفتحون لأنفسهم أبواب الجنة، وهم إنما يفتحون مسالك عريضة لمصالح الدول، وللقوى الإقليمية، ويجعلون إسرائيل تفرك أيديها فرحا وسعادة بما يجري على الأرض العربية.

إن الطائفية ليست سببا للحرب في سورية، وهي لا تفسر الفتنة التي تعيشها البلاد، ولكنها مجرد وقود لها. أليست دمشق، أكبر مدن “السنة” في سورية، هي الحاضنة الشعبية ل: “نظام” بشار الأسد؟ ألم تحافظ حلب “السنية” على ولائها للدولة السورية طيلة الحراك السلمي، ولم تسقط إلا بعد دخول جحافل المقاتلين الأجانب؟ ألم تعاقب هذه المدينة على ولائها للدولة السورية بتدمير نسيجها الصناعي؟

إن الآفاق القريبة لا تبدو مبشرة، والحرب سوف تستمر في سورية ما دام هناك من يرسل المقاتلين الأجانب، ومن يزود هؤلاء المقاتلين بالسلاح والذخيرة والعتاد، ومن يحجز الفنادق، ويمول منتديات لمعارضة تعمل بالوكالة، ويحاصر ويضيق على المعارضة الوطنية الحقيقية في داخل سورية، التي يعاني عدد من قادتها من الاعتقال والمتابعة، وفي الخارج كهيئة التنسيق الوطني.

نعم، إن هناك حضورا إيرانيا قويا يفسر قدرة دمشق على الصمود إلى حدود اليوم، ومن يصف هذا التحالف بالمذهبي جاهل بالمذاهب والأديان، وبتاريخ العلاقة الاستراتيجية بين دمشق وطهران. لقد تقاطعت المصالح الإيرانية السورية في قضايا كثيرة (مثل الموقف من إسرائيل) ولكنها اختلفت في السابق في أشياء أخرى، مثل الموقف من المقاومة العراقية بعيد الاحتلال الأمريكي للعراق، ومن الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران. إن ما يوجه السياسة الإيرانية في منطقة الشرق الأوسط ليس، كما يعتقد بعض السذج، بأن علياً أحق من معاوية بالخلافة. إن إيران قوة إقليمية لها مصالحها الكبرى، وهي تعرف جيدا ما هي هذه المصالح؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟

بالمقابل، إذا كان هناك من مجال إقليمي سائب، فهو المجال العربي. وهو ما يجعل الآخرين يرون فيه امتدادا لمصالحهم الحيوية. إن العرب لم يأخذوا المبادرة لسد الفراغ الأمني لا في سورية، ولا في ليبيا، ولا في اليمن، بل زادوه تعقيدا، وهم في هذه الوضعية، وفي هذه الحالة لا يستطيعون منع الاخرين من تمديد دائرة مصالحهم، كما أنهم لن يستطيعوا، والحالة هذه، أن يمنعوا النار المشتعلة لدى الجيران من أن تمتد إلى ما بين أقدامهم.

* كاتب وأستاذ جامعي في المملكة المغربية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/نيسان/2014 - 6/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م