الصورة بوصفها ترميزا للكراهية

(بي بي سي) نموذجا

حيدر الجراح

 

اسم (بي بي سي) له حضور كبير في الذاكرة العراقية، مثلما كان الحال مع اسماء اخرى كمونتي كارلو، تبعا لتوجهات المستمعين ايام ازدهار المذياع وثقافة الاستماع الى القنوات الاذاعية.

مثل كل الاشياء التي تغيرت، حل التلفاز بديلا عن المذياع، واصبحت الصورة هي الحاضر الابرز والتي تشغل المساحة الاكبر لوظائف العين في الابصار.

لإذاعة الـ(بي بي سي) توجهاتها في السياسة والثقافة، وغيرها، وهي لاتختلف عن بقية الوسائل الاعلامية الا بمقدار ما أمتلكته من حرفية عالية، اصبحت مصدرا للاستلهام من قبل الكثيرين.

هذه الحرفية انتقلت من المجال الاذاعي الى المجال التلفزيوني، وهي تطلق قناتها الناطقة بالعربية، مع بقائها ضمن توجهاتها المعروفة عنها في السياسة والثقافة، وهي توجهات تعتمد على المضمر في الخطاب وليس المعلن عنه، ولهذا اكتسبت مايظنه المستمعون وبعدها المشاهدون، انها الحقيقة والحيادية في نقل الخبر أو التقرير، دون غرض معين..

لكنها في الحقيقة ليست كذلك.

في احدى نشراتها الاخبارية، على سبيل المثال، القتال الذي اندلع في مدينة (غرداية) الجزائرية تم توصيفه بتعبيرين مختلفين، في الخبر الذي قرأه المذيع كان قتالا (عرقيا) وفي التقرير الذي قدمته النشرة الاخبارية كان قتالا (طائفيا)، وقد اختار كاتب السبتايتل اسفل الشاشة تعبير (عرقي) في ايراده للخبر..

تعبير (طائفية) روجت له الكثير من وسائل الاعلام العربية الاخرى، كقناة العربية، فيما اثرت صحيفة الشرق الاوسط، والاثنتان مملوكتان للعربية السعودية، اختيار تعبير (عرقية) في تغطيتها.

تقرير ال (بي بي سي)، اعتمد على الصورة، وهي في لغة الاعلام، وظيفة ودلالة، تفيد (التعبئة والتحشيد والتغذية)، وستبقى فترة اطول في الذاكرة، مع التوصيفات التي رافقت التقرير.

عرضت ال (بي بي سي) يوم الاثنين 17/3/2014 برنامجا حمل عنوان (أثير الكراهية: قنوات التحريض المذهبي في العالم العربي) لمعده ومقدمه عمر عبد الرازق، سبق ذلك تقريرا مكتوبا نشر على الموقع الالكتروني يوم السبت 15/3/2014 بقلم المعد والمقدم نفسه.

فكرة البرنامج تدور حول الفضائيات التي تقدم خطابا لكراهية الاخر المختلف، وتقود تلك الخطابات الى اعمال عنف تقع بين وقت واخر في المجتمعات المسلمة.

الصراع في سوريا ربما هو السبب الابرز في تنامي هذا الخطاب، وسبق ذلك صعود الشيعة السياسي في العراق بعد العام 2003..

البرنامج يبدأ لقطاته الاولى بتفجير ضد قوات الشرطة العراقية، وينتهي بمشهد الارملة العراقية الشيعية، التي قتل زوجها السني، وورث ابناؤها الكراهية ضد الشيعة، اخوالهم، بسبب مايعتقدون انهم وراء قتله.

الفضائيات التي غطاها التقرير، وعلى مدى ستة اشهر استغرق انجازه، توزعت على ست فضائيات، ثلاث سنية ومثلها شيعية.

السنية هي قناة صفا التي تبث من مصر، وشبكة وصال بلغاتها الست التي تبث من السعودية، وقناة الأنوار 2 الشيعية التي تبث من العراق، أما الثلاث الأخرى فتأتي عبر البحار، وهي قناة وصال فارسي السنية من لندن، وقناة فدك الشيعية من لندن وأهل البيت الشيعية من كاليفورنيا.

الشخصية المحورية في التقرير المكتوب والمتلفز، هي شخصية ثائر الدراجي، الناشط الشيعي الشاب، الذي يصفه المعد والمقدم بانه (أحد أكثر النشطاء الشيعة غلواً في العراق).

بقية وقت التقرير توزعت بين عدد من الشخصيات من الجانبين، الذين يقدمون مواد مثيرة للكراهية في برامجهم عبر تلك الفضائيات، مع شخصيات اخرى، توزعت ادوارها بين العمل الرقابي المستقل، ومستشارين لتلك القنوات.

الشخصيات المشتركة في تقديم تلك المواد انقسمت من ناحية الاعمار الى قسمين:

قسم يغلب عليه الاعمار الشابة (ثائر الدراجي – ياسر الحبيب – حسن الله ياري) وهم شيعة.

القسم الثاني يغلب عليه الاعمار التي هي تجاوزت مرحلة الشباب تقريبا (محمد الزعبي – محمد صابر – ابو منتصر البلوشي) وهم سنة.

حاول التقرير، كما يبدو للوهلة الاولى، ان يكون موضوعيا ومحايدا في طرحه وتناوله للفكرة التي قام عليها، وهي ان تلك الفضائيات بخطابها الداعي للكراهية تحرض على العنف والذي يؤدي الى مقتل الكثيرين، كفعل او رد فعل، على الخطاب نفسه او على تمثلاته بعد ذلك.

استمعنا الى كلمات الشخصيات التي التقى بها المعد والمقدم، تشرح وتفسر وتبرر لخطاب الكراهية، وتحاول ان تدافع عن نفسها، وكل جهة تتهم الاخرى، ببدء الخطاب ورفع مستوى التوتر.

لم يظهر في خلفيات التقرير، اي شخصية دينية ذات وزن فكري أو عقائدي ينهل منها اصحاب خطاب الكراهية، مشروعية خطابهم او التأسيس على متبنياتهم.. الا في حالة واحدة، وهي برأيي كاتب هذه السطور، مقصودة ولا تخلو من غرض للاساءة، مضمر كخطاب موجه، وصارخ العلانية عبر الصورة، التي كما قلنا سابقا تؤدي وظيفة دلالية شديدة الخطورة في وسائل الاعلام، ومنها التلفاز، وهي (التعبئة والتحشيد والتغذية) عبر البقاء لفترة اطول في الذاكرة.

المواد الإعلامية المتنوعة، ومنها الاخبار والتقارير، وهي في اعتمادها على الصورة، ليست ببساطة مرآة تعكس العالم، انها وسيلة لنقل الأفكار والرموز، منتج صناعي يعزز مجموعات من الأفكار والايديولوجيات، وتقوم بناء على ذلك، بدور ثقل التوازن الاجتماعي، وان كانت في بعض الأوقات أيضا نذيرا للتغيير الاجتماعي، الاخبار والتقارير، كما يشير الى ذلك ارثر اسا بيرغر في كتاب (وسائل الاعلام والمجتمع وجهة نظر نقدية)، نسيج معرفي، فالعالم بشكل، ووسائل الاعلام تظهره بشكل اخر.

وكل مادة إعلامية في وسائل الاعلام، كما يشير الى ذلك، وليام ماكغواير في المصدر السابق، تتوفر على تأثيرات مقصودة وأخرى غير مقصودة، ففي المجال الأول:

1 – تأثير الإعلانات التجارية في سلوك الشراء.

2 – اثر الحملات الإعلامية السياسية في التصويت.

3 – فعالية إعلانات الخدمة العامة في تعزيز السلوك النافع.

4 – دور الحملات المتعددة الوسائل طويلة الأمد في تغيير أنماط الحياة.

5 – تأثيرات التلقين المتجانس في الأيديولوجيا.

اما التأثيرات غير المقصودة فتشمل:

1 – تأثير برامج العنف في العدوانية المعادية للمجتمع لدى المشاهدين.

2 – تقديم وسائل الاعلام كأحد محددات الرؤية الاجتماعية.

3 – عرض منحاز لوسائل الاعلام كمؤثر في الصورة النمطية العامة للجماعات.

4 – تأثيرات المواد الشهوانية على السلوكيات الجنسية المرفوضة.

5 – أساليب العرض في وسائل الاعلام التي تؤثر في الأنماط المعرفية.

6 – اثر ادخال وسائل الاعلام الجديدة في عمليات الفكر العام.

بالعودة الى التقرير حول اثير الكراهية، يمكن القول أن ما أضمره خلف ادانته لخطاب الكراهية، هو اتهام مبطن لاحدى المرجعيات الشيعية، عبر اظهار صورتها في خلفية مشهد اللقاء مع احد دعاة الكراهية.

كان بإمكان معد ومقدم التقرير ان يمتنع عن اظهار تلك الصورة في الخلفية، مثلما امتنع عن التطرق الى اي شخصية ذات وزن علمي وديني في التحريض، حين التقى بشخصيات تمثل الطرف الاخر، وهم الاحق بالمتابعة لما يمتلكونه من تأثير على اتباعهم، ويظهرون في الكثير من الفضائيات، ويتكلمون بصراحة ودون مواربة، عن تكفير الشيعة واعتبارهم دينا اخر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 26/آذار/2014 - 23/جمادي الأولى/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م