الحدود الاخلاقية للأسواق

حاتم حميد محسن

 

كتاب (ما لا يمكن شرائه بالنقود، الحدود الاخلاقية للاسواق) هو تحليل دقيق وشامل لتأثير الاسواق الحرة على حياتنا للبروفيسور ميشيل ساندي استاذ السياسة في جامعة هارفرد. حجته، والتي يصعب مقاومتها في عدة جوانب، تركز على مسالة زيادة التسليع (تحويل كل شيء الى سلعة) في وجودنا ويعتبرها شكلاً من الفساد الذي يحطم علاقاتنا مع بعضنا البعض وعلاقة الفرد مع المجتمع.

الكتاب لا ينطوي على اسماء كثيرة، وللغرابة حتى ارسطو ذُكر فقط مرتين مع انه يشكل حجر الزاوية في تفكير ساندي على طول الكتاب. لكن عميد الليبرالية التقدمية، (جون رولس)، كان مختبئا بشكل واضح في ضلال الكتاب دون ان يُفصح عنه.

يبدأ ساندل بقائمة من الاشياء والتي، هي في امريكا على الاقل، يمكن شراءها – تتراوح بدءاً من التمتع الافضل بالرعاية الصحية، مروراً بما هو أغرب (ترقية زنزانتك في السجن)،وصولاً الى ما هو فاحش(الحق بقتل الحيوان المهدد بالانقراض). نقطته الاساسية هي ان في عالم فيه كل شيء يمكن شرائه وبيعه، نكون فشلنا بملاحظة لماذا بعض الاشياء لا يجب ان تكون كذلك. في النهاية، ما يعارضه هو شكل من الفساد جرى فيه اختزال قيمة كل شيء، بما في ذلك الجنس والصداقة والحب.

هذا الكتاب يُعتبر محافظاً، وسوف ينال اعجاب منْ هم على ضفتي الاطلسي الذين ينحون باللائمة على العولمة وتأثيرها المدمر للعلاقات وللجماعات التقليدية . هناك القليل من الايمان في الخيرية اللامرئية لآدم سمث نجدها في هذه الصفحات، وهناك ايضا لحظات تكون فيها ميول ساندل للمساواة واضحة تماما. في الحقيقة، هو يكشف عن ذاته كونه اكثر من رد فعل في تفضيل الجماعية على الفردية، وهو يعطي صورة لليبرالية كفلسفة اخلاقية وسياسية اكثر تنوعاً مما يسمح به نقادها. الليبرالية لدى ساندل هي قادرة على النقد الذاتي الذي يمكنه ابعادها عن جنون السوق مدركاً ان العدالة تتطلب وجود سلع خارج متناول شيكات اي شخص. وبعبارة اخرى، السوق يمكنه قمع الشخص وتحريره ايضا، وان مقدرته على التهميش الاقتصادي القاسي هو الذي يلهب النقد الذاتي لليبرالية.

لذا بالنسبة لساندل، الليبرالية ليست قدرا دراميا، وان بعض مؤيديها اعترفوا بالاثار السلبية للسوق وانهم يريدون كبح جماحه. مع ذلك، هؤلاء فشلوا بالإقرار بالخطر الذي يسببه الاغنياء حين يدفعون النقود لشراء مكانهم في مقدمة الطابور . ان حيادية السوق حول قيمة افضلياتنا- الحيادية التي تشترك بها كل انواع الليبرالية- تعني بالنسبة لساندل التراجع عن ثقافتنا.

الاقتصاديون لا يحبون الهدايا. فهم يرونها غير رشيدة. كل من يعطي هدية لا يستطيع معرفة اقصى رغبة لدى الآخر، واي هدية هي ليست اكثر من عمل طائش وبلا جدوى. الهدية الوحيدة التي يجب ان تُعطى هي المبالغ النقدية لانها الاكثر فعالية.(1)

مايكل ساندل، يطرح وجهة نظر مختلفة عن رؤية الاقتصاديين اعلاه. هو يرى مع ان اعطاء الهدية قد لا يخلق معنى اقتصادي ملموس، لكنها ذات معنى كبير بالنسبة لقيمنا الثقافية. هناك اخلاق اجتماعية طبعت الممارسة ولفترة طويلة، مثل تعظيم التعاطف، الكرم، الاكتراث، لفت الانتباه. القيمة المثلى، رغم ما يقوله لنا الاقتصاديون، ليست دائما هي الاعظم فعالية.

ما يقلق السيد ساندل هو انه، عبر الـ 30 سنة الماضية، بدأت الاولويات الاقتصادية بمزاحمة القيم الاخرى، واصبحت قيم السوق تتحكم بحياتنا على نحو غير مسبوق. لم يكن تركيز ساندل على الانهيار المالي عام 2008 وما بعده، وانما ركز على ما اعتبره خسارة عميقة في بوصلة الاخلاقية الجمعية. نحن نشهد تزايداً في شعبية صناعة "بطاقات الهدايا"، التي تستبدل الهدايا النقدية باخرى اكثر تقليدية. نحن باطراد نسير باتجاه ثقافة تُركت فيها قيمنا جانبا لمصلحة الرؤية باننا يجب دائما ان نعظم الفاعلية. وكما يلاحظ ساندل "بعض السلع نحن نوزعها حسب الجدارة، اخرى نوزعها حسب الحاجة، ولا تزال اخرى توزع بالحظ او اليانصيب". الطريقة المحددة تتقرر كثيرا بالعادة. وان العادات الاجتماعية تُبنى عبر تراكمات طويلة جداً.

ينظر ساندل الى امريكا ويلاحظ جميع انواع المواقف التي تحولت فيها القيم التقليدية في السنوات الاخيرة نحو اخلاقيات السوق.

 يأتي ساندل بمثالين حول شراء الطابور في جلسات الاستماع البرلمانية وفي مسارح الهواء الطلق المجانية. في كلتا الحالتين، الشركات تسمح للاثرياء باستئجار شخص مشرد للوقوف في الطابور الى حين حضور الفرد الغني. هذا مثال عن الاشياء المشتركة والمجانية التي جرى تسويقها وتحويلها الى نقود. هذه العملية يعتبرها ساندل غير عادلة وانها تفسد وتحط من قيمة الشيء المباع. هناك خطوط سريعة تسمح لنا بشراء طريقنا خارج زحمة المرور. العديد من المدارس حاليا"تحفز الآداء، تدفع للطلاب لو قرأوا كتب او عملوا جيدا في المدرسة، بعض المدارس حاليا تبيع اعلانات على بطاقات تقارير الاطفال. المدن بانتظام تبيع اماكن اعلانات في البنايات العامة، تتراوح من الحدائق العامة الى سيارات الشرطة. في كل من هذه الحالات، الافكار الراسخة منذ وقت طويل حول القيمة الفطرية والملكية المشتركة جرى استبدالها باخلاق السوق المبسطة. يلاحظ ساندل وجود مخاوف عملية في هذا التحول، تؤثر على مسائل جوهرية مثل المساواة . الخوف الاكبر هو خوف روحي وفلسفي، حول كيف يجب ان نقيّم ما يسميه ساندل "الاشياء الجيدة في الحياة".

 قيم السوق ليست فقط تضغط وتهزم القيم الاخرى- هي حالما تدخل، تميل لتتمدد نحو الافق. وعن تاريخ التأمين على الحياة، يبين ساندل كيف ان التأمين الذي قُصد به مرة آمان خالص للعوائل اصبح عربة استثمار شريرة. في امريكا، حتى عام 1850 كان التأمين لم يحصل على شرعية الاّ اذا كان مصمماً لحماية عائلة الشخص في حالة الموت غير المتوقع. لكن اخلاق السوق اكتسحت تدريجيا المعارضات القديمة، واليوم تقدم الشركات لمستخدميها بانتظام سياسات تأمين على الحياة لأنها تعطي عائداً ممتازاً. والسنوات الاخيرة شهدت زيادة في صناعة تسويات التأمين التي يشتري بها المستثمرون سندات التأمين على الحياة من كبار السن . كلما مات الناس بسرعة، كلما كان المردود أعلى. ربما من الصعب العثور على طريقة اكثر دناءة من هذه في الحصول على الربح.(2)

ما لم يقدمه ساندل هو العلاج لإعادة الامور الى نصابها. هو يبدو كناقد رقيق يطلب منا فقط ان نفتح عيوننا. يقول "الرشوة احيانا جيدة" وهي ربما في مناسبات معينة تكون الشيء الافضل. مع ذلك، هو يكتب،" من المهم ان نتذكر اننا متورطون في رشوة، وهي ممارسة لصفقة اخلاقية تستبدل المبدأ الاعلى بآخر ادنى".

مستر ساندل يشير ايضا الى تغيير يبدو بسيطاً في المجتمع لكنه عميق جدا. قبل جيل مضى، الاقتصاديون اعتبروا مهنتهم هي فهم الاسعار، الركود، البطالة، التضخم. كان الاقتصاد موضوعا كئيبا، لكنه على الاقل كان علما. غير انهم وسعوا مجالهم ليضم السلوك الانساني بأكمله. في عام 1976 كتب الاقتصادي (Gary Becker) الحائز على جائزة نوبل كتاب "الاتجاه الاقتصادي للسلوك الانساني". منذ ذلك الوقت زادت طموحات الاقتصاديين الى النقطة التي اصبح فيها موضوع الاقتصاد يشمل كل شيء. ومع صدور الـ"Freakonomic "(3) عام 2005 صرح ستيفن ليفت وستيفون دوبنر بان "الحوافز هي حجر الزاوية في الحياة الحديثة" وان الاقتصاد هو في الاصل دراسة الحوافز".

المؤيدون لأخلاق السوق يدّعون انها لا تفرض نظاماً عقيدياً معيناً، فانت حين تضع خيار تعظيم المنفعة في جوهر نظامك العقيدي ذلك لا يختلف عن اختيارك اي مبدأ ايديولوجي موجّه. كل مشكلة لها حل مرتكز على الحوافز، كل توتر يمكن حله بالبحث عن اعظم نتيجة فعالة ممكنة.

للاسف، هذه رؤية اختزالية محبطة للتجربة الانسانية. الناس يموتون لاجل الله او الوطن او القرابة او الارض. لا احد رفع البندقية ومات لأجل تعظيم المنفعة الاجتماعية. الاقتصاديون ليس بوسعهم تحمّل المسؤولية عن هذه الحقيقة الاساسية للانسانية. لكنهم افترضوا دوراً في المجتمع كان يمارسه الفلاسفة والثيولوجيون طوال الـ 4000 سنة الماضية. هم جعلوا حياتنا اكثر تحررا وكفاءة. لكننا اصبحنا الاكثر فقراً نتيجة لذلك.

* كتاب (ما لا يمكن شرائه بالنقود: الحدود الاخلاقية للاسواق) لمايكل ساندل استاذ السياسة في جامعة هارفرد، صدر عن دار بنغوين عام 2013 بـ 256 صفحة.

................................

المصادر:

1- Philosophy Now،عدد سبتمبر/اكتوبر 2013.

2- The Wall Street Journal، عدد 20 أبريل 2012.

3- The Guardian، عدد الخميس 17 مايو 2012.

هوامش توضيحية

(1) يتألف الاقتصاد من مشترين وبائعين. في الاجراءات العادية، البائع يحصل على سعر يتجاوز الكلفة والذي يمثل الربح، بينما المشتري يحصل على سلعة يجب ان تكون القناعة الناتجة عن استهلاكها فوق سعرها وهو ما يسمى"فائض المستهلك". السوق الفعال هو الذي يعظّم الفائض لدى كل من المشتري والبائع. في حالة الهدية، البائع لايزال يستلم ربح، لكن المستهلك النهائي (مستلم الهدية) يحصل على سلعة تعطي قناعة أقل مما لو اشترى بنفس مبلغ الهدية حاجة اخرى لنفسه. السوق الفعال يجب ان تتوفر فيه "معلومات تامة" عن ظروف البيع والشراء. مستلم الهدية لا يمكنه قياس مدى القناعة لديه لأنه حصل عليها مجاناً.

(2) يوضح ساندل كيف ان التأمين على الحياة الذي برز في الاصل من فكرة الحاجة للتخفيف من العبء الاقتصادي على المتوفي وعائلته، اصبح شكلا فاسداً من المراهنة على حياة الناس. وكمثال على ذلك ما يسمى Stoli)) وهو نوع من التأمين فيه يتم اصدار بوليصة التأمين على حياتك لكنها ليست لمصلحتك وانما لمصلحة طرف اخر هو المستثمر. صاحب العمل عادة يشتري بوليصة التأمين على حياة العاملين لديه ويصبح بذلك هو مالك البوليصة والمستفيد منها. هذه البوليصة المشتراة هي ذات قيمة نقدية. يستطيع رب العمل اقتراضها، وهي ستنمو بسرعة بسبب ما تتمتع به من مزايا ضريبية، وحينما يموت العامل الحالي او السابق فان صاحب العمل يستلم منافع الوفاة معفاة من الضريبة. سند التامين على الحياة هذا لا يشترط موافقة العامل عليه وهو يبقى صالحا حتى عندما لم يعد العامل موجودا في الشركة.

(3) وهو كتاب يستكشف الجانب المخفي من كل شيء، صدر عام 2005 عن دار وليم مورو في امريكا للكاتبين Steven Levitt و Stephen J. Dubner.الكتاب مزيج من ثقافة الجماهير والاقتصاد وفي عام 2009 بيعت منه اكثر من اربعة ملايين نسخة، وهو يتألف من سلسلة من المقالات يوضح فيها المؤلف كيفية تطبيق المبادئ الاقتصادية على العالم الواقعي بطراز غير تقليدي، البيانات التي يعرضها تكشف حقائق مذهلة عن الكيفية التي يعمل بها العالم. المؤلف يعرّي طبقة او اكثر من سطح الحياة الحديثة لينظر ما تحتها، انه يفتح ذهن القراء على فكرة ان الاشياء هي ليست حقا ما يبدو لنا او ما قيل لنا. يطرح الكتاب الافكار الاساسية التالية:

– الحوافز هي حجر الزاوية في الحياة الحديثة.

– الخبراء يوظفون معلوماتهم لخدمة مصالحهم الخاصة.

– الحكمة التقليدية عادة خاطئة.

– التأثيرات الدراماتيكية عادة تعود لاسباب بعيدة واحيانا ماكرة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 26/شباط/2014 - 25/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م