الدخول الانتخابي العراقي

د. علي محمد ياسين

 

ترتبط كلمة (الدخول) في المخيلة الشعبيّة العراقيّة بأعياد النيروز ودورة السنة الربيعيّة الجديدة ودخولها حياة الناس وابتهاجهم بها إلى درجة ارتكزت معها في تلك المخيلة أفكارٌ ومفاهيمٌ قد تبدو ضربا من ضروب الخيال، وهي أفكار ومفاهيم تتعلق بدرجة تفاؤل الناس أو درجة تشاؤمهم بالترجيحات التي يتوقعها الفلكيون فيما تدخل عليه السنة الجديدة من حيوان له علاقة بما خزّنته الذاكرة البشرية عنه من صور ومعتقدات، فدخول السنة الجديدة على حيّة يختلف عن دخولها على حوت أو على ثور، وهكذا دواليك.

وبالموازاة مع هذا الدخول يعرف المجتمع العراقي (دخولات) أخرى مغايرة كدخول العام الدراسي الجديد، وما يقتضيه من استعدادات تشغل بال الأسر وتستنزف جهودهم وجيوبهم لتلبية مطالب البنين والبنات في تهيئة مستلزمات العام الجديد من حقائب وأقلام ودفاتر وملبوسات تتلاءم وموضة العصر ومستجداته التي يحرص عليها الأبناء ويُجبر على توفيرها الآباء مع البوادر الأولى لدخول ذلك العام.

وهناك دخول من نوع آخر يستدعيه قادم ثقيل قاس هو الشتاء الذي يحتّم على أرباب الأسر أن يحسبوا حسابه ويأخذوا تهديدات تقلّباته على محمل الجدّ، فهو دخول وإن كان أكثر هونا على ربّ الأسرة من دخول العام الدراسي إلّا أنّه أكثر إرباكا لحساباته وتخطيطاته، لا سيما إذا لم يحالف الحظ ربّ الأسرة في الحصول على حصته التي تضمنها البطاقة التموينيّة من النفط الأبيض لأسباب تتعلق بأمزجة مختار المحلة وبمدى احترامه لمسؤولياته أمام أبناء محلته.

ولا نريد الوقوف على دخول الصيف الذي سيطرق أبوابنا بعد حين، فهو دخول له ترتيباته الخاصة التي تتطلب جهودا مضاعفة للحدّ من شدة الحر التي تميّز صيف العراق الساخن، فتجعل البيت الفاقد لوسائل التبريد أشبه بالتنور.

 ومع التحول السياسي الجديد الذي شهده العراق بدأ دخول آخر من نوع جديد لم نألفه من ذي قبل، وأعني به الدخول الانتخابي الذي أصبح عند مرشحي الانتخابات ومريديهم من الناس طقسا من الطقوس المفروضة على يوميات الحياة العراقية الجديدة، بسلبيّاته وإيجابيّاته.

أبرزت هذه الطقوس الانتخابية سلوكيات اجتماعيّة وثقافيّة تؤكد أغلبها ضرورة إعادة النظر في الطريقة الانتخابية التي يروّج من خلالها المرشحون لأنفسهم وسط غياب وعي بلدياتي (نسبةً إلى البلديّة) حضاري ووسط غياب مسؤولية مجتمعية لتعزيز القيمة الجمالية المدينية.

منظر المرشحين بتصاويرهم المتسلّقة للمباني والجسور وأعمدة الكهرباء سيأخذ مع دخول الموسم الانتخابي بأنواعه المحليّة والوطنيّة سمتا بصريا يذكّر بالعشوائية والفوضى التي تنتظم العملية الانتخابية تحت سلكها، فالكيانات السياسيّة مختزلة بالصور المداهِنة والمعلّقة في مواجهة الشمس والغبار والريح، والعبارات المنتقاة للتسليع الدعائي تحت هذه الصور لا تعبر عن رؤى اقتصاديّة وسياسيّة وثقافية تنهض بالبلد وتنتشله من قيء المستنقع الطائفي، ومن خطر ارتكاز الاقتصاد العراقي على مصدر واحد، ومن شبح التصحر، وانتشار بيوت الصفيح، وسوى ذلك من مخاطر حقيقيّة قد تهدّد بالمجتمع وتفتك به، قدر ما تعبّر عن توق الوصول إلى مراكز القرار والانتفاع من مردودات مادية كالجاه والمال والسلطة من خلال يافطات لا تحمل سوى صور نصفيّة لأشباح أو أشخاص شبه مجهولين، فيما تترصع أكتافهم بأرقام محتشدة بتراتبيّة واضحة للعيان، وخاضعة لسلطة الرقم الأم الذي تلوذ خلفه كلّ أرقام الكتلة السياسيّة.

وتزداد خطورة الاختزال حين يسوّق التمثيل الدعائي نفسه مركزا على الوتر الطائفي أو العشائري أو الفئوي الضيق، ضاربا بذلك عرض الحائط كلّ مفاهيم الديمقراطية وأعرافها، فحينما تتحول ساحات الانتخابات التي أول ضحاياها الأبنية الحكومية، وما يرتبط بها من مرافق شبه رسمية إلى مناطق نفوذ تتسابق عليها الكيانات السياسية زرافات ووحدانا يتبادر إلى الأذهان مشهد الدول المتحضرة أثناء اقتراب الموسم الانتخابي، والحضور المكثف للتنظيم البَلَدياتي وترتيباته التي تجعل المدن لحظة احتدام المعركة الانتخابيّة وكأنّها في عرس حضاري (بَصَري) يجمّل ما هو جميل، ويتوّج المفهوم الإنساني للديمقراطية بوصفها لحظة توق أبدي للرقي والازدهار، في حين ظلّت مدننا الكبيرة وحتى قرانا بعيدة عن هذا كله، فبعد تجربة اقتربت من إكمال عقدها الأول. هل عكس الحضور البصري العشوائي الطاغي لمرشحينا بيافطاتهم ووسائلهم الدعائيّة لدخول الحملات الانتخابيّة شيئا سوى غياب رؤيتهم السياسية وغياب استراتيجهم الموحّد تحت قبة الوطن.

وربّما لا يكون القصد من وراء هذا الحديث تصيّد الهنات والأخطاء والسلبيّات لذاتها، فالديمقراطية علّمت الأمم الأخرى، وستعلمنا رغما عن أنوفنا، أن الصدور التي لا تكون رحبة لتقبّل النقد لا تستطيع أن تتجاوز الأخطاء والهنات التي لا يسلم منها بنو آدم أيّا كانوا، وأينما كانوا. لكن مثلما للدخول الانتخابي في العراق هناته وعيوبه الكثيرة، فهو له حسانته وإيجابيّاته أيضا!

فمع دخول الموسم الانتخابي تنشط ذاكرة بعض المرشحين من الكتل المختلفة فتستعيد بعضا من بقايا ألقها الإنساني مستذكرة أن هناك آلاف العراقيين يفتقدون أبسط مقومات العيش الآدمي في (بيوت التجاوز) وأن زيارتهم وتفقد أحوالهم يأتيان وفاءً لتلك البقايا من ذلك الألق لا جزءا من الترويج الدعائي الذي يأخذ طابع الترويع أحيانا، غير أن تلك الذاكرة التي لا تنشط إلّا في وقت معلوم هو لازمة من لوازم تنشيطها قد يصيبها نوع من الخمول والكسل الذي يدفع أصحابها إلى سلوك يصعب تفسيره أحيانا، كما فعل أحد المرشحين مثلا، في موسم انتخابي صيفي عندما كرّم حيّا كاملا من أحياء التجاوز ببطانية لكلّ عائلة، وكما فعل آخر غيرُه هذه الأيام في شباط الأزرق عندما أهدى مروحة سقفيّة لبعض العوائل في حيّ آخر!

ومع الدخول الانتخابي أيضا، تتجلّى الحكمة الإداريّة، ولاسيّما عند الذين لا زالوا أصحابا للقرار والتنفيذ من المرشحين، فتبدو هذه الحكمة ملفتة للنظر، وباعثة على التساؤل عن السرّ الذي يدفع إلى تنشيط حركة الأعمال الخدمية والعمرانية خلال أيام الانتخابات دون سواها حتى يرى الرائي في أسبوعين ما لم يره في عامين! أهي رشى تقدّم للمواطنين لإطالة أيام وجودهم، أم هي صحوة ضمير ومحاولة لمطاردة الوقت الذي صار رملا يتسرب من بين الأصابع أيام الدخول الانتخابي؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 24/شباط/2014 - 23/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م