الطموحات السياسية وترحيل البناء الثقافي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: يشاع في الوسط الاجتماعي، أن "السياسة" أساس كل شيء.. وانها محور تستقطب كل جوانب حياة الإنسان، ابتداءً من حياته الشخصية وحقوقه الفردية والاجتماعية، ثم الحياة الاجتماعية والمسائل الاقتصادية وتفرعاتها، وحتى القضاء والأمن وغيرها، كلها تتأثر بشكل مباشر او غير مباشر بالسياسة، علماً أن اللفظ المجرد لمفهوم السياسة، له مدلولات عديدة، فمن التعريفات العديدة لهذا المفهوم، انها فن القيادة، وهذا قد يصدق على الحكومة والسلطة التنفيذية، كما انه يصدق على مشروع تجاري او مصنع او خطة أمنية، وحتى على الأسرة. فاذا كانت الحكمة مطلوبة لدى زعيم البلد، من رئيس جمهورية او رئيس وزراء او حتى قائد أعلى، فهي كذلك عندما يريد الانسان ان يحقق النجاح في مختلف ميادين حياته. بمعنى تكون الحاجة دائماً لرؤية شمولية متكاملة للحياة لمن يريد تحقيق التغيير والإصلاح.

وبما إن "السياسة" بمعناها الضيق والخاص، تتميز بحالة من التفاعل والحيوية، وتعني بالدرجة الاولى بالمسائل الآنية والامر الواقع، فانها تكون محط أنظار واهتمام الجميع، بمن فيهم الشريحة المثقفة والواعية، فضلاً عن عامة الناس الذين ينتظرون – عادة- القوالب الجاهزة ولا يهمهم كثيراً ما وراء السطور وما يخبيه المستقبل. صحيح؛ ربما هنالك من يتحدث عن آفاق المستقبل والتخطيط والإعداد او ما يعبر عن بالرؤية الإستراتيجية، إلا ان معظم ما يقال: لا يعدو صفحات الورق والاحاديث على طاولة البحث والمناقشة، ولن تلامس النظريات أرض الواقع الذي يعيشه الانسان، حيث تتشكل القاعدة التي على أساسها يمكن تحديد مدى نجاح عملية التغيير والإصلاح للواقع الفاسد.

وهذا ما تعرضت له معظم "التجارب الثورية" في بلادنا منذ قرن من الزمان. فالجهود الفكرية – التنظيرية والتشكّلات الحركية ودعوات المقاومة والتصدّي والكفاح من اجل التحرير والاستقلال وغيرها من المفاهيم السياسية، كانت تدور في محور واحد وهو الانتفاض على الواقع الفاسد ومحاولة تغييره.

لنلاحظ الجهود العظيمة التي بذلها مصلحون ومفكرون وثائرون طيلة القرن الماضي، وحتى قبله، سنجد ان انطلاقهم من ردود فعل على الاستبداد السياسي والتبعية، كان بنوايا حسنة لا تشوبها شائبة، فقد كانوا لا يغمضون عين، عندما يشعرون بوجود أعين لا تنم الليل بسبب الحرمان والتخلف الذي خلقه الحكام المتواطئون مع المصالح الاقتصادية والسياسية لقوى اجنبية. وهذا ما نلاحظه في مسيرة جمال الدين الافغاني، وعمر المختار، الميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين، والآخوند الخراساني في قضية إنشاء الدستور الايراني لأول مرة. كل هؤلاء وغيرهم كثير، أحدثوا حركة قوية في الواقع الفاسد الذي سعى الحكام للحفاظ عليه والاستمرار في حالة الصمت الجماهيري، ثم تمزق جدار هذا الصمت في بعض البلاد، واندلعت الانتفاضات الجماهيرية وتحقق بعض التغيير، فقد صُدمت الشركات البريطانية أما فتوى المجدد الشيرازي الاول، كما صُدم جنرالات الجيش البريطاني بقوة وعزيمة العراقيين في التصدّي لهم وتحجيم وجودهم العسكري في العراق، كما تمت كتابة أول دستور لبلد اسلامي في التاريخ، وتشكل اول مجلس للنواب، يحد من صلاحيات الملك، ويعطي الحق بالمشاركة السياسية في ايران مطلع القرن الماضي، لكن ماذا عن مستقبل هذه الانجازات.

ولعل ما يفيدنا في هذا المضمار، المقارنة الدقيقة التي أجراها الكاتب المصري المعروف محمد حسنين هيكل، بين الثورة الايرانية  وبين القوة العسكرية في ميدان المعركة، فهذه الثورة كان لها "مدافع" قصفت مواقع العدو وقضت عليه، لكنها تفتقد للمشاة ليحافظوا على المواقع التي انسحب منها العدو. طبعاً؛ هذا لايعني بأي حال من الاحوال، خطأ تلكم "التجارب الثورية"، فقد قدمت التضحيات الجسام وبذلت جهود جبارة لتحقيق اهداف كبيرة سطرها التاريخ، بل كان لها تأثيرات على الصعيد المستقبلي في السياسة البريطانية على وجه التحديد. وربما تكون الظروف غير المؤاتية هي التي سببت في توقف تلكم التجارب عند نقطة المواجهة العسكرية والسياسية.

من هنا يبدو أن مسألة الحفاظ على مكاسب ومنجزات الثورات او الحركات التغييرية، لن يكون دائماً من اختصاص القادة ورجال تلكم الحركات، انما هي مسؤولية جماعية، طالما ان التغيير يعني بشعب باكمله ولا يقتصر على جماعة او تنظيم او منطقة بعينها، وإذن؛ فالدور المستقبلي للجماهير وللشباب والعقول والمبدعين والمثقفين. هؤلاء هم الذين يشكلون القاعدة الرصينة التي من خلالها تنطلق عملية التغيير الحقيقية والمتواصلة في شعب أو بلد وحتى في الأمة بأكملها.

ربما ينتصر شعب ما على حاكمه الديكتاتور والمستبد، ويستبدله بنظام ديمقراطي – تعددي، من الذي يضمن عدم عودة هذه "ثقافة الديكتاتورية" الى الحزب او الرئيس او حتى النائب في البرلمان..؟ وربما يحصل شعب ما على الحرية الكاملة بعد عقود من الكبت والصمت، فمن الذي يضمن المعايير الصحيحة لهذه الحرية بشكل يستفيد منها جميع افراد المجتمع وينطبق عليهم الحديث الشريف والقاعدة الرائعة: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام"؟ وهكذا سائر الامور والقضايا في الدولة والمجتمع.

نعم؛ هناك من يقول: لابد في بداية الأمر من حسم الامور مع "عملاء الاجنبي" أو مع "معارضي الثورة الجماهيرية"، أو مع "اعداء العملية السياسية"، وحديثاً مع "الارهاب". وفي مرحلة لاحقة هنالك متسع من الوقت للعمل الثقافي وتحديد الأطر والمعايير من خلال صحافة حرة ومؤسسات مجتمع مدني تحظى بقوانين رصينة، لكن هل الاستغراق في التجاذبات السياسية لفترات زمنية غير معلومة سيضمن سلامة الوضع الثقافي والاجتماعي للشعب؟. وهل سيبقى الناس ينتظرون الساسة والنواب والقادة حتى ينتهوا من تقاسمهم كعكة الحكم، وتحديد المكاسب السياسية او حتى "لإنضاج العملية الديمقراطية"، حتى يتعرفوا على المنظومة الثقافية الأمثل والأفضل لحياتهم..؟.

الاجابة يمكن اكتشافها من الواقع العراقي والمصري وغيره من البلاد الاسلامية التي شهدت من قبل وتشهد اليوم تجربة التغيير السياسي الكبير، لكنها ما تزال على اعتاب تجربة التغيير الثقافي الكبير، مع علم الشريحة المثقفة والواعية والمتصدية حالياً لأمر التغيير السياسي، ما خلفه الحكام السابقون طيلة اكثر من قرن من الزمان، من ثقافة العنف والكبت والاستئثار وكل ما يمتّ بصلة الى المفاهيم المدمرة لحياة الانسان والشعوب. ولعل المسؤولية كبيرة وعظيمة ليس فقط على أهل الحكم، إنما تشمل كل الشريحة المثقفة والواعية من اهل العلم والأدب والقلم ومن له التأثير على الاذهان والعقول بأن يتداركوا الموقف الصعب الذي تعيشه شعوبنا التي ربما تكون مهددة بعملية اجترار لحالة الطغيان والديكتاتورية والانحراف وهي مشغولة بحياتها اليومية ودونما وعي منها.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 19/شباط/2014 - 18/ربيع الثاني/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م