رؤية في افكار كنز المتجددة

حاتم حميد محسن

 

منذ ان نُشر كتاب جون ماينرد كنز (النظرية العامة للاستخدام، الفائدة والنقود) عام 1936 ارتبط اسمه بقوة بفكرة ضرورة استخدام التحفيز المالي (سياسة الانفاق العام والضرائب) كوسيلة لمعالجة الركود الاقتصادي. هذه الافكار سيطرت على الاقتصاد في فترة الثلاثين سنة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ولدرجة دفعت الرئيس الجمهوري ريجارد نكسون عام 1971 للإعلان "اننا جميعاً كنزيون الآن".

وعلى الرغم من ان الافكار الكنزية سارت بالضد من الرغبات في اعوام الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، الا انها عادت لتساير الموضة السائدة حينما انفجرت الازمة المالية بين الاعوام 2007-2009. استخدام المحفزات المالية لتخفيف الركود في امريكا واسيا دفع احد ابرز كتّاب سيرة كنز، روبرت سكادلسكي، للإعلان عن "عودة السيد". السمعة السيئة لكنز بين الجماهير تزايدت لدرجة قادت لنشر فيديو عن كنز يجادل فيه مع خصمه (اف اي هايك) حول افضلية المحفزات المالية، وهو الفيديو الذي ذاعت شهرته عبر اليوتيوب عام 2010.

غير ان مدى انسجام وبساطة افكار كنز كما يرى بعض الاقتصاديين الكنزييين المحدثين هي مسألة خضعت للمزيد من النقاش. لاحظت الايكونومست منذ الستينات في القرن الماضي ان افكار الرجل كنز قد انحرفت عن الاقتصاديات الكنزية المعاصرة. ومع ان كنز اكّد على سياسة التقشف في الاوقات الجيدة بنفس مقدار التأكيد على المحفزات اثناء الاوقات السيئة، الاّ ان العديد من الكنزيين في الستينات والسبعينات اعتبروا المحفزات "طريق باتجاه واحد". حيث ان كنز ذاته كتب عام 1937 "ان الرخاء الاقتصادي وليس الانكماش هو الوقت الملائم للتقشف الحكومي".

وحتى اثناء حياته كان كنز قلقا من ان بعض الناس يقبلون استنتاجات "النظرية العامة" دون نقاش. في عام 1940، كتب احد كبار الاكاديميين في الاقتصاد في جامعة كامبرج وهو A.C. Pigou الى كنز شاكيا من ان كلا الطلاب والتدريسيين كانوا يتقبلون معظم اعماله بحرفية مفرطة.

وبالنسبة للقارئ الحديث، كانت "النظرية العامة" تجسد كثيراً كتاب ذلك الزمن. انها كُتبت في عالم يواجه مشاكل مختلفة جدا عن مشاكل اليوم. لقد طور كنز الافكار النظرية في عمله لكي يبرر ادارة عجز الموازنة فقط بمقدار 3% من الناتج المحلي الاجمالي GDP خلال فترات الركود في بريطانيا حين كانت مسؤولية الدولة تقتصر فقط على 25% من الاقتصاد.

وبالمقارنة مع اليوم يبدو الموقف مختلف كليا. العجز في وقت السلم بلغ نسبة 13% من الناتج المحلي الاجمالي في امريكا عام 2009، و في الدانيمارك وبلجيكا وفرنسا بلغت نسبة الضرائب 50% من الناتج المحلي الاجمالي.

حتى كنز ذاته، كان في نهاية الحرب العالمية الثانية يعتزم تأليف كتاب جديد ليصحح الكثير من الافكار التي لم يكن مقتنعا بها في كتاب النظرية العامة. ولكن بسبب موته المفاجئ كان جون روبنسن هو منْ تبنّى توسيع الكنزية نحو المستقبل، معطياً لها مسحة يسارية عبر مزج افكار كارل ماركس وذلك في كتابه (تراكم رأس المال).

هذا خلق حالة من الارباك للانطباع السائد عن حقيقة افكار كنز، ولكن حتى مع ازالة الطلاء الخارجي لأفكاره فانها تبقى عصية على التعريف الدقيق. القراءة الدقيقة لعمله اثناء فترة الحروب الداخلية تجعل من كنز ظاهريا كانه مفكر غير منسجم ابدا. هو يبدو ايّد سياسات الانكماش في بداية العشرينات ومن ثم سياسات التضخم في الثلاثينات. هو صرف معظم اوقاته كداعم لحرية التجارة، لكنه في الثلاثينات دعم الحواجز الكمركية ومن ثم دافع بعنف عن السياسة البريطانية في استخدام العوائق الكمركية ضد امريكا في الحرب العالمية الثانية. ثم غيّر افكاره عدة مرات حول قضايا اخرى، مثل استخدام الضرائب ووسائل السيطرة على رأس المال.

غير ان هناك فكرة بقيت على حالها طوال عمله وهي البحث عن الاستقرار الاقتصادي الكلي. طبقا لـ سكادلسكي في جامعة وارك، الكثير من اعمال كنز كانت متحفزة بالرغبة في العودة الى الاستقرار والنمو السائدين قبل عام 1914 والذي تحطم بفعل الحرب العالمية الاولى. وعلى الرغم من انجازات مستوى الذهب الفيكتوري والايجواردي الا ان تلك النجاحات انهارت في عام 1919.

كانت أعمال كنز اثناء فترة الحروب الداخلية تمثل ردة فعل للفوضى السائدة في ذلك الوقت. (ورقة الاصلاح النقدي عام 1923) هاجمت السياسات التي تسببت في التضخم المفرط او الانكماش في الاقتصاد. (النتائج الاقتصادية للسيد تشرشل عام 1925) عرض مراجعة نقدية للحكمة من عودة بريطانيا لنظام الذهب بسعر صرف مثبت عشوائيا. وحالما تحررت من اغلال الذهب، اصبحت سياسات الحوافز وسيلة متاحة لإحداث الاستقرار في الناتج المحلي اثناء فترات الركود – كما ورد ذلك في (رسالة في النقود عام 1930) وفي (النظرية العامة عام 1936). جميع هذه الاعمال تشترك في خاصية اساسية وهي ان الاستقرار الداخلي للاقتصاد (الاسعار والاستخدام) يجب ان تكون له اولوية قبل المبادئ المجردة التي وُضعت لأجل الحفاظ على الاستقرار الخارجي (سعر الصرف او الحركة الحرة لرأس المال) باي كلفة كانت.

كان كنز اكثر تجريبية مما ادّعى منتقدوه. هو لم يعتبر نفسه مرتبطا باي عقيدة اقتصادية. فمثلا، هو اشار بان النظرية الاقتصادية الاكثر فعالية وملائمة في فترة معينة ستتغير لاحقاً لأن هيكل الاقتصاد العالمي يتغير ويتطور بمرور الزمن وبسرعة اكبر من العالم الطبيعي وانظمته:

(الاقتصاد هو علم التفكير بالنماذج models وبفن اختيار النماذج الملائمة للعالم المعاصر. انه مجبر ليكون هكذا لأنه، على عكس العلوم الطبيعية المعروفة، المواد التي يُطبّق فيها الاقتصاد، هي في عدة جوانب، ليست منسجمة على مر الزمن... الاقتصاديون الجيدون هم نادرون لأن الموهبة في استخدام "الملاحظة الحذرة"عند اختيار النماذج الجيدة، مع انها تتطلب تكنيكات ذكية عالية التخصص، لكنها تبدو موهبة نادرة جداً.)

لذا هل ان الرؤى الكنزية المتناقضة ظاهريا حول الاقتصاد تعطي رسالة لصانعي سياسات المستقبل؟ ربما تساهم تلك الرؤى كثيراً في الرؤية العامة للعلم الكئيب(الاقتصاد) بدلاً من ان تكون محرضة على اختيار اي وسيلة معينة للسياسة. وكما ترى جامعة كامبرج اعتاد كنز الرد على منتقديه بالقول: "حينما تتغير الحقائق، سأغير افكاري والاّ ماذا ستفعل سيدي؟"

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 5/كانون الثاني/2014 - 3/ربيع الأول/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م