العِرَاقُ واسْتِراتِيْجِيَّةُ بِنَاءِ المَحَاوِرِ

(الحَلَقَةُ الأُلَى)

مُحَمَّد جَواد سُنبَه

 

لقَدّْ اشْتَكى العِراقُ مِرَاراً وتِكرَاراً، مِنَ الجَفوَةِ العَربيَّةِ لَه، ولَكِنْ كُلَّ تلكَ المُحَاوَلاتِ، كانَتْ لا تَجِدُ لها آذانٌ صَاغيةٌ، بسبَبِ هَيمنَةِ القَرارِ السُّعوديّ، على دُوَلِ مَجلسِ التَّعاونِ الخليجيّ، (باستثناءِ سَلطنةِ عُمَانَ إِلى حَدٍّ مّا). وبسبَبِ تأَثُرِ بَقيَّةِ الدُّولِ العَربيَّةِ (غَيّرِ الخليجيَّةِ)، بهذا القَرارِ، وإِنْ كانَ بنِسَبٍ مُتفاوتَة. وبعدَ أَنْ نَفَضَ السَاسَةُ العِراقِيّونَ، أَيدِيهم مِنْ أَيّ تَعاونٍ، مُشترَكٍ خَليجيٍ عِراقِيّ. (باستثناءِ مُحاولاتٍ كويّتيَةٍ، لا تَعدو عَن كونِها خَطَواتٍ، على طريقِ تَطبيعِ العِلاقَةِ المُهشَّمَةِ، بيّنَ البَلدينِ، جرّاءَ سِياسَةِ نِظَامِ (صَدّامٍ) المقبُور). فَلَمْ يَبْقَ أَمَامَ العِرَاقِ إِلاّ أَنْ يَتَبَنّى، استِراتِيجِيَّةُ بنَاءِ المَحاوِر.

الفُتورُ فِي العِلاقَاتِ العَربيَّةِ العِراقِيَّةِ عُمومَاً، والعِلاقَاتِ الخَليجيَّةِ العِراقيَّةِ خُصوصَاً، وبَالأَخَصِّ العِلاقَاتِ السُعوديّةِ العِراقيَّةِ، والعلاقَاتِ القَطَريَّةِ العِراقيَّةِ (في الفَترةِ الّتي سَبقَتْ استلامَ السُلطَةِ مِنْ قِبَلِ الشَيخِ تَميم بن حمَد آل ثاني)، كانَ له أَثرٌ مباشرٌ، في رَسمِ مَعالِمِ السِّياسَةِ الخَارجيَةِ العِراقيَّة. وعلى سَبيلِ المثالِ لا الحَصّرِ، كانَتْ مُناسَبَةُ انعقَادِ قِمَّةِ جَامِعَةِ الدُّولِ العَربيَةِ في بغدادَ، للفَترَةِ مِن 27-29 آذار 2012، حَدَثاً يُمكِنُ مِن خِلالِهِ استِجلاءُ، عُمقِ أَو ضَعفِ عِلاقَةِ الدُّولِ العَربيَّةِ معَ العِراق. وفي هذهِ القِمَّةِ كانَ تَمثيْلُ السُعوديَّةِ، هو التَّمثيْلَ الأَفقَرَ فِيها. فَقَدّْ أَوفَدَتْ السُعوديَّةُ، مَندُوبَها في الجَامعَةِ العَربيَّةِ ومِصرَ السَفيرِ (أحمد قحطان)، لتمثيْلِها في قِمَّةِ بَغدَاد. وملاحَظَةٌ أُخرى، يُمكنُ أَنْ نَستَشِفَها مِن التَمثيْلِ العَربي في قِمَّةِ بَغدَادَ، فَقَدّْ حَضَرَ المؤتَمرُ نِصفَ عددِ رؤساءِ الدُّولِ العَربيَّة.

أَنَا أَعتقدُ أَنَّ دَولَةً مثلُ العِراقِ، تَلمَسُ بجلاءٍ؛ الكثيرَ مِن ضُغوطِ الدُّولِ العَربيَّةِ عليها، لا بُدَّ أَنْ تَنحى مَنحىً سِياسِياً، يتجسَّدُ في تَبني العِراق لإستراتيجيَّةِ بناءِ المَحاور. بُغيَةَ حِفظِ وجودِهِ ككيانِ دَوْلَةٍ، وكنظِامٍ سِياسِيٍّ، وكقوةٍ اقتصاديَّةٍ، وكوجودٍ اجتِماعيٍّ أَيضاً.

لقَدّْ وُلِدَ العِراقُ، بعدَ انهيارِ الامبراطوريَّةِ العُثمانيَّةِ، ولادَةً صَمَّمَتها الإِمبريَاليَّةُ البريطانيَّةُ والفَرنسيَّةُ، بموجِبِ مُعاهَدَةِ (سايكس بيكو/مايو1916). شأنُهُ في ذلك، شأنُ جميعِ دُولِ المنطقَةِ العربيَّةِ، الّتي كانَتْ تُشَكِّلُ في مَجموعِها، مُمتلكاتَ العُثمانيّينَ في المنطِقَةِ العَربيَّة. وفيمَا بَعدُ، رَعَتْ الإِمبريَاليَّةُ الأَمريكيَّةُ، مُتابعَةَ تَنفيذِ مُعاهدَةِ (سايكس بيكو) على أَرضِ الواقِع. وإِلقَاءُ نَظرَةٍ فاحِصَةٍ مُتعمِّقَةٍ، على تاريخِ نُشوءِ الوَطنِ العَربيّ، نَجِدُ أَنَّ البريطانيّينَ والفرنسيّينَ، زَرَعوا في كُلِّ مَجالٍ، مِن مجالاتِ تواجُدِهِم السّياسيّ، بُؤَراً مِن التَّوتُرِ قابلَةً للإِنفجارِ، في أّيّ وقتٍ تَجِدَهُ تلك القِوَى مُناسِباً، تِبْعاً لمصَالِحِهم. ومُشكلةُ العِراقِ، متَفرعَةٌ مِن مَشاكلِ تلك التَّقسيمَات. وباختصارٍ شَديدٍ أَذكُرُ قِسماً مِنها فِيما يَلي:

أّوّلاً: مُشكِلَةُ إِقامَةِ نِظَامِ الحُكمِ، عِندَ تأسِيسِ الدَّوْلَةِ العِراقيَّة. فَقدّْ استطاعَتْ بِريطانيَا، مِن فَرضِ مَلِكٍ على العِرَاقِ، مُستَورَدٍ مِنَ الحِجَازِ، وهو المَلِكُ فيصلُ الأَوَّل. وهذهِ المُشكلَةُ لَها أبعَادٌ مُهمَّةٌ. فأُسرَةُ آلِ سُعودٍ تُعادِي أُسرَةَ الشَريفِ حُسَيّن، الّتي يَنتسِبُ إِليّها الملِكُ فَيصَلُ الأَوَّل. وبالنَّتيجَةِ جَعلتْ بريطانيَا مِنَ العِراقِ، دَوّلَةً مُعادِيَةً للسُعوديَّة. (العالم الإِسلامي في الاستراتيجيات العالمية المعاصرة/د. علاء طاهر/ باختصار من الكاتب).

ثَانِيَاً: مُشكِلَةُ البُعدِ المَذهَبيّ. إِنَّ أَغلبَ سُكّانِ العِراقِ، هُمْ مِنَ العَرَبِ الشّيعَةِ، والدُّوَلُ العَربيَّةِ المُجاوِرَةِ للعِرَاقِ (باسْتثناءِ إِيرَانَ)، واقِعَةٌ (نَوّعاً مّا) تَحتَ تَأثيرِ الاتِجاهِ الوَهَابيّ، بقيَادَةِ السُعوديَّةِ، سَواءً بصورَةٍ مُباشِرَةٍ أَو غَيْرِ مُباشِرَة. (نفس المصدر أعلاه/ باختصار)

ثَالِثَاً: مُشكِلَةُ الشَكْلِ الجُغرافِي للعِرَاقِ (اللاند سكيب). لقَدّْ تَمَّ هَندسَةُ شَكّلَ العِرَاقِ الجُغرافِيّ، لِيَكوْنَ مَخنُوقَاً داخِلَ مَساحَةٍ جُغرافيَّةٍ، لا تَمتلِكُ مَنفَذاً بَحريّاً، يَتناسَبُ معَ حَجمِهِ الجُغرافِيّ. وإِلقَاءُ نَظرَةٍ، على خَارِطَةِ العِرَاقِ الجُغرافِيَّةِ، ومُقارَنَتِها بخَارِطَةِ دَوْلَةِ الكُوَيّتِ، نَحصَلُ على المُعطيَاتِ التّالِيَة:

1. مَساحَةُ العِرَاقِ تَبلُغُ (384,446كم2).

2. نِسْبَةُ النِّطَاقِ البَحرِيّ إِلى النِطَاقِ البَريّ، تَبلِغُ (0,16). إِذَنْ فالعِرَاقُ يَمتلِكُ مسَاحَةً بَحريَّةً، قَدرُها (654كم2)، وبذَلِكَ تَكُونُ مَساحتُهُ الإِجمالِيَّةُ البَرِّيَةُ والبَحرِيَّةُ تُسَاوي(438,446كم2).

3. العِرَاقُ يُصَنَّفُ كَدَوْلَةٍ مُتَوَسِطَةٍ، حَسَبَ مِعيَارِ (بوندز) الجُغرافِيّ، لِتصنِيفِ الدُّوَلِ جُغرافِياً. وهذا المِعيَارُ قَسَّمَ الدُّوَلَ إِلى ثَمانِيَةِ أَصنَافٍ، تَبدَأُ بالدُّوَلِ العِملاقَةِ وتَنتَهيَ بالدُّوَلِ الصَّغيرَة.

أمّا مَا يتَعلَّقُ بخُصُوصِ الكُوَيّْت، فَهو كالآتي:

1. مَسَاحَةُ الكُوَيّْتِ تَبْلُغُ (17,818كم2).

2. نِسبَةُ النِّطاقِ البَحري إِلى النِّطاقِ البَرّي تبلُغُ (67.3). فتكونُ المسَاحَةُ البحريَّةُ قَدّرُها (12,000كم2)، وبذلك تكونُ مَساحَةُ الكُويّْتِ الاجمالِيَةِ، البريَّةِ والبحريَّةِ تُساوي(29,818كم2). (أَخَذْتُ هذه الارقام والنسب من كتاب/ خريطة القوى السياسية وتخطيط الأَمن القومي/ د. فتحي محمد مصيلحي).

مِن خلالِ مَا تَقدَّمَ، وللمقارنَةِ العِلميَّةِ فَقطّ، ولإِظهَارِ مُعاناةِ العِرَاقِ الجُغرافيّة. نَجدُ أَنَّ دَوّلَةَ الكُويّْتِ، الّتي تُساوي نِسبَةُ مساحَتها (0,04) مِن مَساحَةِ العِرَاق، أُعطيَتْ لها (12 ألف كم2) مِنَ الميَاهِ البحريَّة. والعِرَاقُ الّذي تَبلُغُ مسَاحَتُهُ (24.6) مَرَّةٍ بِقَدرِ مَساحَةِ دَوّلَةِ الكوَيّْتِ، أُعطيَ (654 كم2) فَقَطّ، مِنَ الميَاهِ البَحريَّةِ. وهذا يَدُلُّ، على خُبْثِ التَخطِيطِ الإِمبرياليّ، والّذي انعَكسَ سَلبيّاً على أَمْنِ المَنطِقَة.

وعَنْ طريقِ هذه المُقارنَةِ، نُلاحِظُ أَنَّ العِرَاقَ، يُعَانِي مِن حَالَةِ الخَنّْقِ الجُغرافِيَ، الّتي تُعرقِلُ انسيَابِيَّةَ نشاطه الإِقتصَادِيّ، معَ الأَسواقِ العَالميَّة. وفي مُقدَّمَتِها تَصدِيرِ النِّفطِ العِرَاقيّ، الّذي يُشَكِّلُ 90%، مِن دَخلِهِ الوَطَني. لِذا يَضطَرُ العِرَاقُ، إِلى مَدِّ أَنابيْبٍ، عِبْرَ دُوَلٍ مُجَاورَهٍ لهُ، لنَقلِ النَّفطِ المُصَدَّر، كتُركيَا والأَردُن وسُوريا (سابقاً)، لِغرَضِ فَكِّ طَوّقِ الحِصَارِ الجُغرَافي الخَانِقِ لَه.

وهذهِ المَنافِذُ لا تُقَدِّمُ خَدَمَاتَها مَجّاناً للعِرَاقِ، وإِنّما مُقابِلَ أُجورٍ، تُحدِّدُها اتّفاقِيّاتٌ بَيّن الطَّرفين. وهذا يَعني أَنَّ جُزءً مِن ثَرواتِهِ، تَذهَبُ للدُّوَلِ الأُخرى، تَحتَ عِنوانِ خَدَماتِ نَقْلِ النِّفط. إِضَافَةً لاسْتِغلالِ الدُّوَلِ الّتي، تَمُرُّ بأَراضِيها أَنابيْبُ نَقْلِ النِّفطِ العِراقِيّ، لهذهِ الحَاجَةِ، كوسيلَةِ ضَغطٍ ضِدَّ العِرَاقِ، في أَيّ وَقّتٍ تُريدُه. وإِذا أَخذنا بنظَرِ الاعتِبَارِ، مُستَقبَلَ إِقليْمِ كردُستانَ، الّذي يُنْبِئُ باستِقلالِ الإِقلِيمِ عَن العِرَاقِ، عَاجِلاً أَمْ آجِلاً، فإِنَّ هناكَ أُجوراً إِضافِيَّةً أُخرَى، سَتتَحَمَلُها فاتورَةُ تَصدِيرِ النِّفطِ العِراقيّ.

* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12/كانون الأول/2013 - 8/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م