فصل الكلام في شيعية مولاي عبد السلام

ياسر الحراق الحسني

 

يعتبر المولى عبد السلام بن مشيش (559 - 626 هـ) شخصية تاريخية مغربية مهمة عرفت بالورع والتقوى والعزلة. تجمع كتب التاريخ والأنساب على القول بميوله إلى التستر. ينسب إليه بعض النسابين التمذهب المالكي على أساس كونه تتلمذ على يد واحد أو إثنين من علماء المالكية. معلومات لم يدونها معاصروه، بل وتفتقد في النقل إلى حلقة تتصل بمعاصريه أيضاً.

يصفه المتصوفة بالقطبية ولم يذكر التاريخ له تلميذا أو مريدا سوى أبو الحسن الشاذلي، حتى أن جميع ما روي عن مولاي عبد السلام كان عن طريق رجل واحد. لا يوجد دليل على نزوله من جبل العلم - ملجأ أجداده الخمسة من الإضطهاد الأموي بعد آخر أمير للأدارسة الشيعة في فاس -، ولم يذكر له التاريخ سفراً لطلب العلم يدعم تتلمذه على يد شيوخ المالكية.

في المقابل تقول جل المراجع في علم الأنساب والتصوف أنه تتلمذ كذلك على يد أخيه الأكبر الحاج موسى الرضى الذي عاش بعد مقتل أخيه عبد السلام من طرف عصابة أبي الطواجن مدعي النبوة في شمال المغرب، ولا يحكي التاريخ عن تتلمذ موسى الرضى على يد أحد سوى ما توارثته هذه الأسرة العلوية من حفظ القرآن وإشاعة الفضيلة والتكتم. تكتم فسره صاحب كتاب الحصن المتين العلامة الطاهر اللهيوي بحالة "ضغط الرقابات" التي تلت إنهيار الدولة الإدريسية العلوية الدعوة. فكيف لا يصح القول بأن مولاي عبد السلام كان مالكيا؟ وكيف لا يصح القول بأنه كان قطباً صوفياً؟ وهل يصح القول بشيعية اخفاها من أخفى شيعية جده إدريس بن عبد الله ولنفس الأسباب؟ تساؤلات نعالجها في سياقها التاريخي بعيداً عن الخوارق والأحداث التي ترويها بعض كتب الصوفية كالقول بأن فلاناً حضرته الجذبة فأتاه آخر من المدينة المنورة إلى المغرب طائراً أو ما شابه من الروايات التي لا يمكن الإعتماد عليها من الناحية العلمية.

الإضطهاد والتكتم (التقية)

يذكر النسابة والمؤرخ الطاهر اللهيوي في كتاب الحصن المتين في طبعته الأولى (ج 2- ص 16) أن موسى بن أبي العافية المكناسي صاحب كبريات المجازر في حق الأدارسة بنسائهم وأطفالهم كان من دعاة عبيد الله الشيعي. نكث بيعة العبيديين وبايع عبد الرحمان الناصر لدين الله الأموي - حاكم الأندلس- ليدخل في حرب ضد العبيديين والأدارسة على حد سواء انتهت لصالحه. ومن المغالطات الشائعة تركيز عدد من المؤرخين على كون بن أبي العافية كان من دعاة العبيديين متعمدين إخفاء حقيقة بيعته للأمويين لإعطاء صورة تفيد بأن الشيعة حاربوا الأدارسة وبالتالي الأدارسة لم يكونوا شيعة. وهذا من جملة التلفيقات التي طالت تاريخ الأدارسة أصحاب الدعوة العلوية في المغرب خاصةً. تلفيقات نمهد بذكرها لفهم امتدادها إلى ما بعد محنة الأدارسة. أي فترة لجوء بعض ممن نجوا منهم إلى جبل العلم وفيهم خمسة من أجداد مولاي عبد السلام بعد آخر أمير ادريسي بفاس في أوائل القرن الرابع للهجرة.

يقول العلامة القاضي في حينه محمد بن علي حشلاف الجزائري في ملحق له لتأليفه في الأنساب المسمى "سلسلة الأصول في سيرة أبناء الرسول"(الطبعة الأولى لسنة 1352 هـ): " وكان خاتمة عهدهم (أي الأدارسة) بملك المغرب الخليفة الحسن كنون على يد المروانيين الأندلسيين بتاريخ 375 هجرية. وبموته تفرق أبناء عمه الأدارسة في قبائل المغرب ولاذوا بالاختفاء، وأسدل عليهم ستار الإهمال، إلى أن خلعوا شارة الملك وميزة الشرف، واستحالت صبغتهم إلى البداوة، ونشر عليهم ستار الإهمال من طرف الملوك المتعاقبين على المغرب ابتداء من عبد الله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين في آخر القرن الرابع الهجري إلى آخر القرن التاسع عهد الملوك السعديين. وخلال هذه المدة وذلك نحو خمسة قرون لم يجرأ أحد على إظهار نسب أحد من الأدارسة لا عالم ولا جاهل".

فهنا يتضح أن مولاي عبد السلام ووالده (سليمان مشيش) وأجداده (أبي بكر بن علي بن بوحرمة بن عيسى بن سلام العروس بن أحمد مزوار) عاصروا زمن الإضطهاد الأموي، ليأتي بعده زمن أقل ما قيل فيه أنه كان زمن "الرقابات" على حد تعبير العلامة اللهيوي. وإذا كان الأدارسة عامةً كانوا يخفون أنسابهم من خشية الإضطهاد في هذه الأزمنة، فما بالك من الأدارسة المتحصنين بجبل العلم! ولا يعقل أن الذي يخفي نسبه يظهر عقيدته المخالفة لعقيدة السلطة، خاصةً إذا علمنا أنها كانت تحمل الناس على مذهبها بالقوة. إذا كان في زمننا هذا زمن حقوق الإنسان في المواثيق الدولية نجد في المغرب من المواطنين الشيعة من يخفون تشيعهم خشية المكروه، فما البال وكيف الحال بزمن المرابطين حلفاء العباسيين ثم الموحدين!؟ زمن كان قطع الرؤوس فيه عادة وتقديمها للخليفة على الصحن عبادة. إن هذه المعطيات تؤدي إلى فهم المعنى الحقيقي ل "التكتم" و"العزلة" التي يوصف بها مولاي عبد السلام في كتب الصوفية والتي توظف في سياق الخلوة والزهد وما إلى ذلك؛ في حين اننا إذا وضعناها في سياقها التاريخي نجد أنها ممارسة للتقية للحفاظ على الحياة.

في نفي المالكية والظاهرية والطرقية

لقد أشار القاضي حشلاف الجزائري إلى نقطة مهمة تعمد تجاوزها جل المؤلفين الذين إعتنوا بشخصية مولاي عبد السلام، وهي (كما أشرنا سابقاً) وجود تهديد له ولباقي الأدارسة بالإبادة جعلهم يتسترون على أنسابهم ما يجعل التستر على عقيدتهم المخالفة لدعوة حكام زمانهم تحصيل حاصل. وهذا أمر متحقق في حقبة اللاجئين الأوائل من الأدارسة إلى جبل العلم التي ساد فيها بن أبي العافية المكناسي المبايع لبني أمية في الأندلس، ومتحقق في حقبة اللاجئين الذين عاصروا حكام المرابطين. ومعلوم أن الدولة المرابطية كانت تعترف بالخلافة العباسية وجعلت إسم الخليفة العباسي على دينارها وسايرت سياسة العباسيين. فحاربت كما هو معلوم الأمويين في الأندلس وتبنت مذهب مالك الذي كان مذهب الخليفة العباسي واستمرت في مطاردة الأدارسة. فلما جاء زمن مولاي عبد السلام كان الموحدون يحملون الناس بالقوة على مذهب ابن حزم الظاهري (نقل هذا عليش المالكي مفتي الديار المصرية في فتاويه: " فتح العلي المالك في الفتوى على مذهب مالك" ج 90-91).

ولقد تبرء في نظري مولاي عبد السلام من ظاهرية الموحدين في المناجاة المنسوبة إليه المشهورة ب"الصلاة المشيشية" في قوله: " وَزُجَّ بِي فِي بِحَارِ الأحَدِيَّةِ، وَانْشُلْنِي مِنْ أوْحَالِ التِّوْحِيد". قول يشرحه الصوفية في سياق الإتحاد، في حين أننا لو وضعناه في سياقه التاريخي الذي عرف حملات "التوحيد" التي سعت من خلالها الدولة الموحدية فرض مذهب إبن حزم الظاهري، يتضح أن مولاي عبد السلام تبرء من هذا التوحيد قائلاً:"وإنشلني من أوحال التوحيد" -أي حملات التوحيد-، وليس بطبيعة الحال التوحيد المتعلق بتوحيد الله والذي كان مولاي عبد السلام نفسه يدعو إليه. يقول مولاي عبد السلام " إلزم بابا واحدا تفتح لك الأبواب، واخضع لسيد واحد تخضع لك الرقاب، قال تعالى:" وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إلاّ عِنْدَنَا خَزَائِنُه"، "فَأَيْنَ تَذْهَبُون".(سلسلة أعيان من شيوخ الشاذلية بالمغرب ص 104).

وإذا كان القول بإستحالة أخذ مولاي عبد السلام بمذهب مالك الذي كان يدعوا بالعز لهارون العباسي الذي إغتال جده قولاً لا يكفي لإقناع البعض، فإن مولاي عبد السلام فيما أثر عنه تجد الدليل الكافي والجواب الشافي. ومن جملة ما تجد قوله بنورانية الرسول وأهل بيته وتفضيلهم بالصلاة عليهم في مقدمة مناجاته. الشيء الذي يتنافى مع تفضيل مالك للخلفاء قبل علي. وفي ذلك قال في الصلاة المشيشية:"اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَنْ مِنْهُ انْشَقَّتِ الأسْرَارُ. وَانْفَلَقَتِ الأنْوَارُ"، وقال: "اللَّهُمَّ إِنَّهُ (أي الرسول) سِرُكَ الْجَامِعُ الدَّالُ عَلَيْكَ، وَحِجَابُكَ الأعْظَمُ الْقَائِمُ لَكَ بَيْنَ يَدَيْكَ؛ اللَّهُمَّ ألْحِقْنِي بِنَسَبِهِ، وَحَقِّقْنِي بِحَسَبِهِ". ويتبين معنى الأنوار المنفلقة من الرسول في قوله "االلَّهُمَّ ألْحِقْنِي بِنَسَبِهِ". ومع علمه وعلمنا بأنه من سلالة النبي ومن أشهر أشراف المغرب، فإن طلبه الإلتحاق بنسبه دليل عن طلبه الإلتحاق بالموصوفين بالأنوار من نسب الرسول.

 وهذه الكلام يكاد يطابق كلام الإمام جعفر الصادق في الكافي (ج 1- ص 442) حيث تجد: " إن الله أول ما خلق خلق محمداً وعترته الهداة المهتدين، فكانوا أشباح نور بين يدي الله. قلت: وما الأشباح؟ قال: ظل النور، أبدان نورانية بلا أرواح، وكان مؤيداً بروح واحدة وهي روح القدس، فبه كان يعبد الله. وعترته، ولذلك خلقهم حلماء علماء بررة أصفياء، يعبدون الله بالصلاة والصوم والسجود والتسبيح والتهليل، ويصلون الصلوات، ويحجون ويصومون". في المقابل تجد مذهب مالك وأهل المدينة يقدمون ابا بكر وعمر على الإمام علي وفيه إشتهر عن مالك قول: "ما أدركت أحدا ممن أقتدي به يشك في تقديم أبي بكر وعمر". واللبيب يرى هنا جلياً حجم الإختلاف في الرؤى بين مالك ومولاي عبد السلام فيما يخص الآل والأصحاب.

لقد أفتى كبار المالكية بعدم جواز البناء على القبور أخذاً برأي مالك كما جاء في المدونة (1 -189) حيث قال: "أكره تجصيص القبور والبناء عليها وهذه الحجارة التي يبنى عليها". وقال القرطبي المالكي في تفسيره (ج 10 ص 380): "وقال علماؤنا - أي المالكية-: ويحرم على المسلمين أن يتخذوا قبور الأنبياء والعلماء مساجداً". في مقابل هذا بنى الحاج موسى الرضى مزاراً لأخيه الأصغر مولاي عبد السلام وكان يزوره في كل يوم جمعة. وهذا خبر معروف وصل تداوله في كتب الصوفية وكتب الأنساب حد الاستفاضة. فلا مولاي عبد السلام أوصى بألا يبنى فوق قبره وهو الذاكر للموت دائماً، ولا أخوه واستاذه الحاج موسى الرضى أخذ بالرأي السائد آنذاك عند المالكية.

يقول العلامة المغربي عبد الله كنون: "في هذا العصر (عصر الموحدين الذين عاصرهم بدوره مولاي عبد السلام) كان جل الاعتماد على الحفظ والاستظهار..وهذا الشيخ ابومحمد عبد الله بن محمد بن عيسى التادلي الفاسي الفقيه الحافظ (ت 623هـ) يذكر المؤرخون في ترجمته ان المدونة كتبت من حفظه بعد ان احرقها الموحدون."(النبوغ المغربي: ص122). ولم يذكر التاريخ دفاع مولاي عبد السلام بن مشيش أوأخوه واستاذه الذي عاش في نفس الحصن الجبلي معه أو اتباعهما عن المالكية في مواجهة الحملة الموحدية التي أتت حرقاً على كتب المالكية. في حين أن الثابت هوأنه قام ضد أبي الطواجن الذي ادعى النبوة شمال المغرب وكان له جنود وأتباع كثر. فما يستفاد من ذكر هذا هو أن مولاي عبد السلام الذي واجه الطاغية الأقرب منه جغرافياً بحملة تربوية دعائية -إذ لا يوجد دليل على حمله السلاح ضده- أدت إلى استشهاده، كان شخصاً شجاعاً لا يهاب الموت. فلوكان مالكياً كما يزعم أهل الرؤى والخروقات لقام ضد من كان جنودهم أبعد منه جغرافياً للدفاع عن المالكية كما قام ضد أبي الطواجن.

يذكر العلامة التليدي في "المطرب في مشاهير أولياء المغرب" أن قبر الشيخ عبد السلام لم يكن معروفا حتى عرفه الشيخ عبد الله الغزواني تلميذ عبد العزيز التّباع، عندما قدم إلى جبل العَلَم لنشر الطريقة الجزولية. وهذا يعني أن أهل جبل العلم معقل مولاي عبد السلام لم يكونوا على الطرق الصوفية التي هي أصلاً تنسب إلى مولاي عبد السلام مثل الجزولية والشاذلية. ولو كانوا كذلك لما كان الغزواني في حاجة لتبشيرهم. ويؤيد هذا حقيقة أن كل الذين كتبوا عن التصوف وشيوخه ممن عاصروا مولاي عبد السلام لم يشيروا إليه لا من قريب ولا من بعيد. فمنهم ابن الزيات التادلي، وهو ممن عاصره لم يذكره ولم يشر إليه أصلا في كتابه " التشوف إلى رجال التصوف ". ولم يذكره ابن عربي الحاتمي في كتبه وهو ممن عاصره وجال في المغرب شرقا وغربا. ولم يذكره ابن قنفذ في "أنس الفقير وعز الحقير"، وفي هذا الكتاب كثير من الأعلام الذين عاصرهم مولاي عبد السلام. ولم يذكره البادسي في "المقصد الشريف والمنزع اللطيف في التعريف بصلحاء الريف"، وهو الذي اختص بأعلام وأولياء شمال المغرب حيث مجال مولاي عبد السلام بن مشيش. ولوكان موافقاً لهواهم لذكروه.

أما إنفراد الشاذلي وحدة بالكتابة عن مولاي عبد السلام ليأتي بعد ماشاء الله من الصوفية آخذين ذلك أخذ المسلمات فهو أمر لا يصح علمياً؛ خاصةً إذا علمنا أن الشاذلي غر معصوم وثبت إضطرابه في عدد من الأخبار على رأسها الإضطراب في مشجرة نسبه. قال الصفدي عن الشاذلي:" وقد انتسب في بعض مصنفاته إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال: بعد يوسف المذكور بن يوشع بن برد بن بطال بن احمد بن محمد بن عيسى بن محمد بن الحسن بن علي بن أبي طالب. قال الشيخ شمس الدين الذهبي:" هذا نسب مجهول لا يصح ولا يثبت، وكان الأولى به تركه، وترك كثير مما قاله في تآليفه من الحقيقة " (نكت العميان للصفدي: ص213 ط:1404). ولربما كان الشاذلي يحدث آخر من عايشوه عن كونه من سلالة الحسين لا الحسن، لذلك نجد اليوم على قبره مشجرة تصل إلى الحسين بن علي بن أبي طالب. فليست هناك قيمة علمية لما جاء به الشاذلي عن مولاي عبد السلام مما يتعارض مع الوقائع والأحداث التاريخية.

في الختام

إن نموذج مولاي عبد السلام بن مشيش واحد من عدد من النماذج لشخصيات تم تحريف تاريخها وتوجيهه ليلائم ثقافة السلطان أو الثقافة الشائعة في حقبة من الحقب التاريخية. وقد ساعدنا الحظ في دراسة هذه الشخصية ذات البعد العالمي لدى الصوفية ما جعل المأثور الذي كتب عنها يتجاوز الحدود الجغرافية ويصعب الحجر عليه أو التحكم فيه. ومثل الصوفية مع مولاي عبد السلام كمثل الأحناف مع الإمام الصادق، أخذ أئمتهم العلوم عن رموز شيعية، فمنهم من أسس المذاهب ومنهم من أسس الطرق.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 7/كانون الأول/2013 - 3/صفر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م