التربية بالحب

بدر شبيب الشبيب

 

يتحدث الدكتور ميسرة طاهر، وهو أستاذ الصحة النفسية والعلاج النفسي بقسم علم النفس في جامعة الملك عبد العزيز، ومن أبرز الداعين لتطبيق أسلوب التربية بالحب، يتحدث في أحد البرامج التلفزيونية عن امرأة متعلمة مثقفة جاءت إليه تشكو من أن ابنتها ذات الثلاثة والعشرين عاما تطردها وتمنعها إذا أرادت أن تدخل إلى غرفتها. يقول: سألتها عندئذ: متى آخر مرة قبّلتِ ابنتك؟ فكان السؤال صاعقا لها بشكل خشيتُ عليها أن تتكسر عظام قفصها الصدري من شدة ضربتها على صدرها.

كثيرا ما نظن أننا نمارس أفضل الأساليب التربوية لتنشئة أبنائنا وبناتنا، ولكننا نكتشف متأخرين أننا كنا نسير في الطريق الخطأ، وربما بعد فوات الأوان. وهذا يعود أولا إلى جهلنا بالأساليب التربوية الأمثل، والأدهى من ذلك، والأشد قسوة ومرارة، هو الجهل بالجهل. فالبعض يعتقد جازما أنه خبير تربوي، وأنه متخرج من مدرسة أبيه التي هي غاية في التربية، بدليل أنه هو نجح وشق طريقه في الحياة. وإذا سألته عن كيفية تربية أبيه له، سيمطرك بسيل من الوسائل الإكراهية والعنفية الشديدة التي كان يستخدمها معه، حتى إنه عندما أدخله المدرسة، قال لمعلمه الجملة المشهورة التي تختزل نظرته ورؤيته التربوية الثاقبة!: «خذوه لحم واعطوني اياه عظم»، ومع ذلك فإن الابن المسكين يعتقد أن أباه أفهم من جان جاك روسو!!.

الجهل بالجهل أعظم من الجهل نفسه، لأنه جهل مركب، أي أن تجهل وتجهل أنك تجهل. وذلك يمنعك من أن تتقدم خطوة للأمام، إذ تكتفي بما لديك من المعارف والمهارات والخبرات، وتزهد فيما لا ينبغي ولا يُحمد الزهد فيه، أي الانتهال من النتاج العلمي التربوي الرصين.

لم يعد كافيا اليوم استنساخ تجارب الآباء وتطبيقها على الأبناء، وقد نبه لذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين قال: «لا تقسِروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم». وهو ما يعني ضرورة مواكبة الظرف الراهن، والاستفادة من معطيات العلوم الحديثة.

حين نتأمل وصية الإمام علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) التي كتبها إليه بعد معركة صفين، أي في أخريات حياته الشريفة، نشم من كلماتها رائحة الحب الفواحة التي لم تفارق حروفها أبدا رغم مرور السنين، وكأنها دهن عود معتق من عهد آدم (عليه السلام).

كلما أمعنت النظر في قوله (عليه السلام) في مقدمة الوصية: «وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي حتى كأن شيئا لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي، فكتبت إليك كتابي هذا مستظهرا به إن أنا بقيت لك أو فنيت».

أقول: كلما أمعنت النظر في هذا المقطع وجدتُني أغيب فيه حبا، لأنه نص فريد يصلح أن يكون لوحده معلقة على أستار القلوب.

فالمنطلق الأساس للتربية بما تتضمنه من رعاية وتوجيه وإرشاد هو الحب أولا. وليس المقصود به أي حب، بل الحب في درجاته العليا، حين يشعر الوالد أن ولده بعضه بل كله، وبالتالي فإن أي سوء يصيب الولد يصيب الوالد أيضا للقرب الشديد بينهما البالغ مرتبة الاندكاك. هذا ما نستفيده من قوله  بعد ذلك: فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي.

أمر آخر يمكننا استفادته من تلك المقدمة وهو أن المكاشفة بالحب ضرورية في نجاح التربية، وهذا ما نحتاجه كثيرا في علاقاتنا مع أبنائنا. إذ نعاني في مجتمعنا من صعوبات في التعبير عن مشاعرنا تجاه من نكن لهم الحب، أو نكتفي بلغة واحدة من لغات الحب، قد لا تكون اللغة الأنسب التي تصيب الهدف المنشود.

قبل أن تقدم النصيحة لابنك أو ابنتك، اطرح على نفسك بعض الأسئلة وأجب عليها بأمانة:

- متى آخر مرة أثنيتَ فيها على ابنك أو ابنتك؟

- هل تركز دائما على الجوانب المضيئة في شخصية كل منهما؟

- خلال الخمسة أيام الماضية كم مرة قبّلت أو ضممت ابنك أو ابنتك؟

- ماذا عن قضاء وقت ممتع معهما؟ هل كان ذلك منذ زمن قريب؟

- كيف كان اختيارك لهديته أو هديتها، وبأي مناسبة؟ أم أن لغة الهدايا معدومة بينكما؟

- ما هي الخدمات التي تحرص على تقديمها له أو لها والتي تترك أثرا إيجابيا في ذات كل منهما؟

هذه بعض النماذج من الأسئلة التي تدور في فلك لغات الحب الخمس التي تحدثنا عنها سابقا، تكشف إجاباتها مستوى التعبير عن الحب لديك، والذي يمكنك من تحقيق قدر عالٍ من التأثير التربوي في الآخر.

ليس المطلوب أن تكون «الأب الهليكوبتر Helicopter parent» أي الذي يحوم دائما فوق رؤوس أبنائه، وهو ما يسمى بنمط الحماية الزائدة. ويشمل قيام أحد الوالدين أو كلاهما نيابة عن الطفل بالمسؤوليات التي يمكنه القيام بها مثل حماية الطفل عند صعود الدرج خوفاً عليه من السقوط، والقلق الزائد على الأولاد والذي يحرمهم من التفاعل مع بيئتهم المحيطة وأقرانهم، وهذا النمط ينتج شخصية خائفة خاضعة معتمدة على الغير يسهل استمالتها للفساد، غير مستقرة على حال، غير ناضجة، غير طموحة، ترفض المسؤولية.

وليس المطلوب أن تكون «الأب رقيب المطافئ Drill sergeant parent» أي النمط التسلطي، حيث تكتفي بإصدار الأوامر وانتظار التنفيذ. فالأب والأم المنتميان لهذا النموذج يمليان على الأولاد ما يفعلونه دون استماع لآرائهم أو إفساح مجال للمناقشة. هذا النمط ينتج شخصية خائفة من السلطة خجولة غير واثقة من نفسها ويؤدي إلى الشعور بالعزلة الاجتماعية والجنوح.

المطلوب هو «الأب المستشار Consultant parent» الذي لا يهمل أبناءه، بل يرعاهما حق الرعاية دون تدليل زائد، وفي نفس الوقت يمنحهما المساحة الكافية لإدارة حياتهم بالاعتماد على أنفسهم، مع تقديم الاستشارة اللازمة لهم، دون تسلط أو فرض رأي. وهذا النمط ينمي شخصية الطفل الاعتمادي ليصبح صاحب شخصية استقلالية مع تقدم العمر.

الأب المستشار هو الذي يمكن أن تصل رسالته إلى ابنه أو ابنته دون عوائق تذكر، لأنه يتقن فن التربية بالحب.

دمتم بحب.. جمعة مباركة.. أحبكم جميعا.

http://www.facebook.com/profile.php?id=692249194

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 4/كانون الأول/2013 - 30/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م