منهجية الاستشارة في دولة المؤسسات

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: من المبادئ السياسية الكبيرة التي اعتمدها الاسلام في إدارة السلطة، نظام الشورى، حيث القائد والمسؤول الاعلى، لا يتفرد بصنع القرار، ولا يعتمد الارتجال والنزق الشخصي في اصدار القوانين او الاجراءات التي تنظّم حياة الناس، بل يلجأ الى الوسط الذي له حق التشاور، فيكون هؤلاء بمثابة المشاوِر الذي يناقش القرارات المهمة السياسية او سواها، ويسهم في تعديلها وتغيرها، وربما رفضها بصورة كليّة، وبهذا يكون دور الشورى منهجا سياسيا تعتمده الحكومة والحاكم، ويكون دور المستشار حاضرا دائما، ومشاركا بصورة فعالية وأساسية في اتخاذ القرارات المصيرية، او الاجراءات التي تنظم شؤون الحياة اليومية للمجتمع.

لذلك يقول الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الشورى في الاسلام)، في هذا المجال: (كانت الشورى من بين الأفكار العظيمة التي جاء بها الإسلام واستطاع بهذه الفكرة أن يُحطّم جدار الاستبداد والطغيان ويعيد للإنسان كرامته المفقودة، فبنى على ساحل هذه الفكرة أعـظم دولة في التاريخ البشري، حيـث كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يجمع المسلمين كلهم بلا استثناء ويستشيرهم في أمور بلادهم، والتراث الروائي خير شاهدٍ على ذلك).

الحاكم يخضع لرأي الأكثرية

من المناهج السياسية الجريئة التي تعاملت بها الدولة الاسلامية ابان نشوئها، أن يتدارس القائد الاعلى شؤون الدولة والمجتمع والقرارات والقوانين المقترحة ومضامينها مع مستشارين، لهم الحق في المشاركة والتغيير والاضافة، وهكذا لم يكن القرار في الدولة الاسلامية فرديا، بل من المفارقات الرائعة التي سجلها التاريخ السياسي الاسلامي، أن القائد الاعلى كان يستجيب لرأي الاكثرية بعد الاستشارة، والدليل على ذلك ما حدث في معركة احد، هذه المعركة التي شكلت نتائجها خطرا جسيما على الدعوة الاسلامية التي كانت لا تزال في اوائل نشوئها.

إذ يذكر الامام الشيرازي قائلا في هذا الشأن بكتابه المذكور نفسه: لقد (شاور الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، أصحابه في مواطن عديدة، في غزوة بدر، وفي غزوة أحد، ويوم الخندق، وفي الحديبية. وفي كل موقف وموقع لم ينس الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ان يستشير أصحابه، حتى ولو كلفته الاستشارة ثمناً باهظاً، كما حدث في واقعة احد، حيث استشار اصحابه، فأشاروا عليه بالخروج من المدينة، وكان رأي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم البقاء فيها وكان رأيهُ هو الاصوب، لكن تنازل عن رأيه واتبَّع آراء الأكثرية المؤيدة لفكرة الخروج، فكان ما كان من خسارة المسلمين للمعركة).

هكذا كان يحترم قائد الدولة الاسلامية الاعلى رأي الاكثرية، على الرغم من أن قراره كان هو الاصوب، ولكن طالما كان صوت المستشارين حاضرا، لابد من احترامه. وهذه الحالة تعكس احترام الحاكم لرأي الشعب، وهي تدل على التزام استشاري متطور في ذلك الحين، وهو درس مهم لحكام اليوم وحكوماتهم، إذ عليهم التشاور فيما يخص شؤون الشعب ثم عليهم الاستجابة لبوصلة الاكثرية اينما تتجه، وهذا ما حدث في السجال الذي دار بين المسلمين حول معركة أحد.

أشيروا عليَّ

الحاكم الحق، هو الذي يطلب المشورة، ولا ينفرد بالقرار والحكم، بل هو الذي يشرك اصحاب الشأن معه دائما، لاسيما فيما يتعلق باتخاذ القرارات المهمة، وقد اصبحت المؤسسات الدستورية تؤدي دورها في الوقت الحاضر، ولكن لابد أن يكون هناك دور قوي وواضح لمشاورة ذوي الاختصاص والكفاءات وذوي الخبرات من اجل تحقيق النتائج الافضل للمجتمع وفي مجال بناء الدولة.

يقول الامام الشيرازي في كتابه نفسه حول هذا الجانب: (إنّ للشورى مجالان، الأول: مشورة الحاكم المسلم للمسلمين في الأمور المتعلقة بهم، والثاني: مشورة المسلمين فيما بينهم على إدارة شؤونهم، فهي دعوة الطرفين إلى الشورى، طرف الحاكم وطرف الرعية). وهناك حالات قد لا تكون المشاورة فيها ملزمة، بمعنى قد تكون مستحسَنة أو مستحبة وغير ملزمة، كما في الشؤون الشخصية، أما ما يتعلق باختيار الحاكم وتنصيبه، فإن الامر لابد أن يكون وفق قرار المستشارين، او من يحق لهم القيام بهذا الدور المصيري، كونه يتعلق بحاضر ومستقبل المجتمع كله. لذا يقول الامام الشيرازي في هذا الشأن: (أمّا في سائر الشؤون الشخصية منها، فتستحب المشورة فيها؛ وفي الشؤون الاجتماعية تجب مشورة الحاكم مجيئاً إلى الحكم وتنفيذاً لأمرٍ دون أمر. أمّا وجوب المشورة في مجيء الحاكم إلى الحكم ، فلأنه نوع تسلط على الناس ، والناس لا يصح التسلط عليهم إلاّ برضاهم).

يتضح مما تقدم، أن هناك دورا مهما للمستشارين، أو لمن يحق لهم القيام بهذا الدور الحاسم، كما أن قادة المسلمين العظماء رسخوا هذا المنهج وشجعوا الناس على القيام بهذا الدور، فكانوا يطالبون الآخرين بالمشورة، ويحثونهم على المشاركة والتفاعل والقيام بهذا الدور الكبير، تعزيزا للمنهج الاستشاري وتشجيعا لمنهج المشاركة في صنع القرار.

لذا نقرأ في هذا المجال ما يذكره الامام الشيرازي حول دور القائد وطلبه للمشورة قائلا: (لعل ما روي من قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: - أشيروا عليّ-، وقـول الأمام علي عليه السلام بـأنّ - لهم المشورة عليه-، يعطيان كلا الأمرين من الواجب والمستحب كل في مورده حسب مقتضيات الحكم والموضوع، فانَّ الموضوع قد يكون قرينة الحكم، وقد يكون العكس).

وبهذا المنهج السياسي الاستشاري المتطور تم تشييد الدولة الاسلامية، وهي الدولة الاستشارية (الديمقراطية)، التي استطاعت أن تنشر مبادئ الاسلام في ربوع الارض، وتعزز النظام التحرري من خلال تكريس منهج المشاورة، وتشجيع التشاور بين الحاكم والمستشارين فيما يتعلق بصنع القرار، أو بجميع ما يخص شؤون الامة في حاضرها ومستقبلها، وهو درس ينبغي أن يتقنه ويتعلمه قادة اليوم في الدول الاسلامية كافة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 2/كانون الأول/2013 - 28/محرم الحرام/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م