الإمام علي وعودة الجاهلية.. الغدير أنموذجاً

جاسم فيصل الزبيدي

 

العرب.. امة لا تفهم لغة سوى لغة الصحراء، لغة السيف والحرب، ولغة موحشة توارثتها منذ آلاف السنين، وتربت عليها وحصنت نفسها بأعراف وتقاليد استنبطتها من البيئة التي انصهرت بها.

لم تعرف عرب ماقبل القرآن ماهي الدولة المدنية، ولا كيفية الاسس التي تنهض فيها، فكل شيء ترده الى لغة الحرب والتحكيم لزعمائها، فهي لا تعترف باي شيء مقابل اعترافها بكل شيء الا التقوقع في اتجاه واحد.

حين ولد الإسلام القرآني في مكة، كانت عرب ما قبل القرآن تنظر الى محمد بسخرية وازدراء، لانها لم تستطع استيعاب ماجاء به، رغم ان حديث المنظومة القرآنية كان سلساً وواضحاً، ولكن ما كان يمنعها هو التقاليد والاعراف التي لا ترغب في الرحيل عنها.

محمد كان نبياً في مكة، وبعد تشديد الخناق السياسي والاقتصادي على الدعوة القرآنية، كان من الضروري الانتقال الى مكان اكثر تفهماً لجواء المنظومة القرآنية، فكانت طيبة/يثرب قديماً/هي المكان الذي يستطيع محمد ان يبدأ رحلته لتأسيس الدولة المدنية.

كان لزاماً على محمد ان يستحصل الشرعية البشرية لغرض النهوض ببناء الدولة، فهو يمتلك الشرعية السماوية باعتباره رسول الله ونبي الله، ولكن كان يعوزه شرعية الناس، وهو ماتحقق خلال لقاءه بقبائل طيبة/ يثرب/في موسم الحج والذين منحوه الثقة والشرعية ليكون رئيساً للدولة القرآنية المدنية.

قبيل وفاة محمد كان لابد من تهيئة الارضية لرجل يستطيع قيادة وبناء الدولة القرآنية، رجل يفهم روحية القرآن وليس القرآن بحروفه، بمعنى روحية النص القرآني الماضية والحاضرة والمستقبلية من النص القرآني.

الدولة القرآنية لا تحتاج الى رجل حرب ولا الى رجل عبادة، بل تحتاج الى رجل ينصهر مع المجتمع، رجل يدخل الدوامة ويخرج منها بمصالح بعيدة المدى.

كانت الترجيحات السماوية تشير الى ترشيح علي ابن ابي طالب الى رئاسة الدولة بسبب امتلاكه العديد من المقومات والعناصر القيادية، التي نشأ عليها وتربى عليها في حجر محمد قبل وبعد الدعوة القرآنية.

كانت خطوة محمد لإعلان الترشيح الذاتي هو يوم الحج وبالذات بعد رحيل الناس الى منازلهم، ولهذا اختار منطقة غدير غم والذي يتفرع الى ثلاث طرقات ومنها تنطلق الجموع الى منازلهم حين استوقفهم محمد في ظهر احد ايام فصل الصيف الحار ليعلن ان علي ابن ابي طالب هو الخليفة من بعده.

لا يعتقد أحد ان عرب الصحراء ستؤمن بهذا الامر بسهولة ويسر، لأنها لم تؤمن بعد بالقرآن كمنظومة حقوقية تخالف عاداتها وتقاليدها، ولأنها آمنت مرغمة وفق نظرية البقاء للأقوى.

تشير الروايات ان عدد من اصحاب محمد اعلنوا تأييدهم لخلافة ورئاسة علي ابن ابي طالب، بالإضافة الى الحجيج الذين توافدوا الى المكان وسط حر الصحراء ولهيب الشمس الحارقة.

بعد وفاة محمد حصل تسابق قبلي للحصول على رئاسة الدولة فيما كان علي يتهيأ لمراسيم دفن محمد، تاركاً امر الخلافة لحين انتهاء تلك المراسيم كما هي عادة عرب ماقبل القرآن.

خلال بحثي في المصادر وجدت ان هناك شخصا كان يتحرك بشكل خفي بين جموع وقادة الدولة، وهو ابو سفيان بن حرب زعيم مكة السابق، حيث كان يحاول ان يسحب بساط الشرعية البشرية من تحت اقدام علي ابن ابي طالب مستغلاً ظروف مراسيم دفن محمد، ويعيد مكانة قريش من جديد، لأنه خسرها بشكل قاس.

بعد انتهاء مراسيم الدفن وجد علي ان ابو سفيان نجح في تغيير فكرة الخلافة لعلي وفق اسلوب القبلية الذي عاد بشكل متسارع وكأنه كان مسجون داخل تلك النفوس كما تؤكد فاطمة بنت محمد في خطبتها.

حاول علي تذكير كبار القوم وزعاماتهم بالعهود التي قطعوها على انفسهم، الا انه وجد ان آذانهم لم تعد تسمع الى صوت ابي سفيان ابن حرب الممثل الشرعي الوحيد لزمن الجاهلية.

لم يحاول علي احداث انشقاق بين صفوف مواطني الدولة، من خلال الزحف العسكري او اعلان التمرد العام، لانه كان يفوقهم تطوراً معرفياً، وفهماً لمعنى الدولة المدنية الجديدة المهددة بالزوال بسبب عودة ظاهرة الجاهلية من جديد ولكن هذه المرة بقالب قرآني جديد.

من هنا حاول علي جاهداً ان يصحح الاوضاع من خلال بث ارائه وافكاره والمعرفية في روحية النص حتى اصبح المرجع الروحي للدولة رغم العداء المبطن له من قبل القوى القريشية.

مات محمد وانتهت الدولة المدنية، فقد أصبح الانسان أرخص الاشياء في الدولة القادمة، واصبح السيف لغة تلعب وفق منظور/حرب المرتد/رغم ان المحققين لا يؤيدون تلك الروايات التي تقول ان قادة الدولة قاتلوا المرتدين بسبب غموض العديد من عناصر الرواية وبخاصة الرواية السورية والعراقية المختلفتان بشكل كبير.

مات علي بسيف جاهلي يرتدي جلباب القرآن.

مات علي.. بسبب شغب العرب وعنادهم على التمسك بجاهلية الصحراء والتقاليد.

مات علي.. ومات معه كل شيء.. ولم يبقى الا شيء يقبع على رفوف المسلمين اسمه القرآن.

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/JasimFaisaZubaidi.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 24/تشرين الاول/2013 - 19/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م