فقه الدولة: في الموارد المالية للدولة الإسلامية وتعيين مصارفها

الشيخ فاضل الصفّار

 

هذه مسائل مهمة جدا في السياسة الاقتصادية للدولة من المسائل المهمة جداً التي ينبغي البحث عنها مفصلا، وقد تم البحث في أربع مسائل وهي:

المسألة الأولى: في وجوب الاهتمام بالاقتصاد، المسألة الثانية: في مستحقات الدولة المشروعة، المسالة الثالثة: في التطبيق التدريجي للقوانين، مسألة الرابعة: في جواز تحديد أسعار السوق، المسألة الخامسة: في بيت المال وبيان مصارفه

وفيما يلي المسألة السادسة:

المسألة السادسة: في الموارد المالية للدولة الإسلامية وتعيين مصارفها

لا يخفى أن التكافل الاجتماعي من ثوابت الشريعة الإسلامية التي يجب على الدولة أن تسعى لتحقيقه، وهو من موارد الوجوب الكفائي في مجالات كثيرة من حاجات الفرد والمجتمع؛ إذ لا يجوز من الناحية النظرية التشريعية أن تكون في المجتمع المسلم أسرة أو شخص لا يجدان كفايتهما من الحاجات الحيوية بحسب المستوى المتعارف في المجتمع، وقد وضع الإسلام نظاماً مالياً حقوقياً يضمن هذا التكافل.

فأول تكليف في الحقوق المالية هو وجوب الخمس والزكاة، وكلاهما أمر مالي يأخذه الإسلام ممن له مال خاص ليصرفه عادة في أمرين:

الأول: في مصالح المسلمين.

الثاني: في الفقراء والمعوزين.

والخمس يتعلق بأمور سبعة هي:

1 غنائم دار الحرب.

2 أرباح المكاسب.

3 الغوص.

4 الكنوز.

5 الحلال المختلط بالحرام.

6 في أرض الذمي التي اشتراها من مسلم.

7 المعدن.

والزكاة تتعلق بأشياء تسعة هي: الغلات الأربع أي الحنطة والشعير والتمر والزبيب، والأنعام الثلاثة أي الإبل والبقر والغنم، والنقدان أي الذهب والفضة. والخمس عشرون في المائة، والزكاة أعلاها العشرة في المائة، وهو فيما سقت السماء من الغلات، وأدناها الواحد في المائة نصاب الشياه؛ إذ في كل أربعين شاة، شاة واحدة، وهذان الحقان يشكلان العمود الفقري للمالية الإسلامية، وعادة ما يشكلان ربع الموارد، أي إذا جمعنا الخمس والزكاة معاً يصبح في الميزانية العامة مايقارب الخمس والعشرين في المائة.

هذا ويقسم الخمس إلى قسمين: الأول للإمام المعصوم (عليه السلام) ونائبه في عصر الغيبة، وهذا ما يسمى بسهم الإمام، الثاني لذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويسمّى بسهم السادة، وقد ورد ذكر ذلك في الآية الشريفة في قوله عز وجل: {واعلموا أن ما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}[1] فما كان لله والرسول والإمام المعصوم هو سهم ذوي القربى، أي قربى الرسول (صلى الله عليه وآله)، ويسمى بسهم الإمام، ويعطى له في حالة حضوره، وفي حالة غيبة الإمام (عليه السلام) يعطى إلى نائبه وهو الفقيه الجامع للشرائط ليصرفه في مصالح المسلمين، وما كان لليتامى المعوزين والفقراء المساكين وأبناء السبيل المنقطعين يسمى بسهم السادة، ويصرف في مصرف هؤلاء ممن لا يقدر على العمل ولا وارد له.

وأما الزكاة فتقسم الى ثمانية أقسام كما ذكرت الآية الشريفة مواردها في قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والغارمين وفي الرقاب وفي سبيل الله وابن السبيل}[2] فإن الأول: الفقير ويراد به من له حاجة لا يتمكن من سدها، والثاني: المسكين، وهو من أقعده الفقر وأسكنه عن فعل شيء، فهو أسوأ حالاً من الفقير، والثالث: وهو العامل عليها اي من يجبي الزكاة للإمام المعصوم (عليه السلام) أو الفقيه الجامع للشرائط، والرابع: المؤلفة قلوبهم، وهم الكفار؛ إذ يعطون المال لأجل تقريبهم إلى الإسلام، ويشمل أيضاً المسلم الضعيف الإيمان، فيعطى المال لأجل تقوية إيمانه، والخامس: الغارمون، وهم الذين لهم دين لم يصرفوه في عصيان الله، ولا يقدرون على أدائه أحياءً كانوا أو أمواتاً، كما ليس لهم ما يصرفه الورثة في أداء ديونهم، السادس: الرقاب، وهم العبيد الذين هم تحت الشدة من جهة الأسياد، فيشترون من الزكاة ويعتقون، السابع: وهو في سبيل الله عزوجل، والمراد به كل ما كان فيه مصلحة للإسلام والمسلمين مما ينطبق عليه عنوان سبيل الله سبحانه، والثامن: هو ابن السبيل، والمراد به من انقطع في السفر فلا يجد ما يوصله إلى أهله.

وأما المال الثالث الذي يأخذه الإسلام ابتداء وبحسب الحكم الأولي هو الجزية، وهي تؤخذ من الكفار في مقابل الخمس والزكاة اللذين يؤخذان من المسلمين، وإنما سمي هذا المال جزية لأن معناها الاقتطاع، وفيه نوع ضغط نفسي او اجتماعي او ادبي؛ لأن الزكاة معناها النمو، والخمس معناه الجزء من المال، وأما الجزية فمعناها القطع من الكافر، وكأن ماله لا احترام له فيقطع منه، وهذا نوع من الضغط كسائر الضغوط المحرجة لأجل أن يرجع عقلاؤهم إلى أنفسهم، ويلتفتوا إلى بطلان عقائدهم بواسطة فتح الحوار مع المسلمين، فبالحوار يتوصّلوا إلى أن عقيدتهم خرافة، وان نظامهم ليس صحيحاً، ولو كانوا من المنصفين لتوصلوا إلى احقية الإسلام وصحة عقيدته وعدالة نظامه، ويكون لهم الداعي في الإيمان بالإسلام.

هذا والذي ربما نستظهره تبعاً للسيد الأستاذ أعلى الله مقامه الشريف في كتاب الجهاد من الفقه أن الجزية تؤخذ من سائر الكفار أيضاً حتى وإن لم يكونوا من أهل الكتاب، إذ لا دليل يعتمد عليه في لزوم تخيير سائر الكفار بين القتل والإسلام[3]، وعلى هذا فالإسلام يأخذ من المسلمين الزكاة والخمس ومن الكفار الجزية، وذلك في مقابل توفير الحماية لهم والقيام بمصالحهم، وقدر الجزية كما يقرره الإسلام بدون أن تؤخذ من النساء والأطفال والرهبان والمقعدين والفقراء منهم، بحسب ما يراه الحاكم الشرعي من المصلحة.

وفي صحيح زرارة قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما حد الجزية على أهل الكتاب؟ وهل عليهم في ذلك شيء موظف لا ينبغي أن يجوزوا إلى غيره؟ فقال: «ذلك إلى الإمام ان يأخذ من كل إنسان ما شاء على قدر ماله بما يطيق»[4].

هذا ولا يخفى أنه لا خمس ولا زكاة على الكافر، كما يدل عليه ما رواه ابن مسلم عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال: «وليس للإمام أكثر من الجزية»[5].

وأما المال الرابع الذي تأخذه الدولة هو الخراج والمقاسمة، وهما ليسا شيئين وإنما شيء واحد باسمين وباعتبارين، وهو ما تأخذه الدولة في قبال إجارة الأراضي المفتوحة لمن استأجرها منها.

وعليه فإن قدرت الدولة مقداراً خاصاً من المال في مقابل الإجارة سمي ذلك خراجاً؛ لأنه خرج من كيس الزارع ونحوه إلى كيس الدولة، وإن قدرت الدولة نسبة خاصة ولم تعين مقدارا كالثلث والربع والنصف من الأرباح سمي حينئذٍ مقاسمة؛ لأن الدولة والعامل يتقاسمان الربح.

في حرمة الضرائب

عرفت أصل الحقوق المالية والموارد المنصوص عليها في الإسلام بمقتضى الحكم الأولي، وبعد هذه الحقوق فقد حرم الإسلام الضرائب الزائدة على ماذكر التي تضعها الدول على الناس بعناوين مختلفة، فلا يجوز للدولة وضع الضرائب من ناحية الحكم، بل لاحاجة الى وضع الضريبة من ناحية الموضوع؛ لأن الدولة الإسلامية تقوم على نظام عادل ومتوازنٍ في سلطاتها ودوائرها بحيث ينتفي الموضوع للحاجة إلى الضرائب، ولذا قلنا فيما سبق: إن مصارف الدولة الإسلامية قليلة جداً، فلا تحتاج معها إلى وضع الضرائب، وذلك لأنها:

 أولاً: توفر للناس كل الحريات الممكنة فلا حاجة لها لمزيدٍ من الدوائر والموظفين لتطبيق القرارات والقوانين وإجراء الروتين الكثير في المجتمع الذي في مجموعها تشكل كبتاً وخنقاً للجميع.

 ثانياً: أن الدولة تشتغل بالتنظيم الاجتماعي وإقامة العدل وإعطاء الحوائج الضرورية والتقدم بالأمة إلى الأمام، فتترك التجارات والصناعات والزراعات وغيرها للأمة، فلا تحتاج إلى موظفين كثيرين يستهلكون المال، ويقومون بهذه العمليات.

ثالثاً: أن إيمان الناس بالله تبارك وتعالى واليوم الآخر يوجب استقامتهم، مما يجعل الدولة في غنىً عن تكثير أجهزة الشرطة، كما أن الدولة العادلة تتجرد عن الغموض والكبرياء الموجب لصرف الكثير من المبالغ لأجل تظاهرها بالقوة، كما أن الإسلام يحرم الجاسوسية والتجسس ومراقبة الناس، ومعها تبطل الحاجة إلى الكثير من أجهزة المخابرات والأمن على ما يعبرون عنه، والذين عادة ما يثقلون خزائن الدول بما يضرها كثيراً.

رابعاً: أن أفراد الدولة من مسؤولين وموظفين يعيشون عيشة بسيطة مساوية لعموم الأمة، فلا تشريفات زائدة لهم تستنفذ المال، ولا إسراف ولا تبذير في الصرف، وبعد هذا وذاك لا تبقى حاجة إلى وضع الضريبة، وعلى فرض الحاجة في الطوارئ والاستثناءات فإنه يحق للدولة وضع الضريبة لكن مؤقتاً؛ لأنه ضرورة، وهي تقدر بقدرها، كما ورد ان مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) اخذ الزكاة من الفرس، وجعل بعض الأئمة (عليهم السلام) في بعض السنين خمسين مكان خمس واحد[6].

هذا بالإضافة إلى أنه في الطوارئ وخصوصاً في مثل الحروب والكوارث يجب على عموم المسلمين الجهاد بالأنفس والأموال، وهذا ما ربما يكفي عن وضع الضريبة، ومن الواضح أن القدر الذي تحتاج إليه الدولة في غير حالة الاضطرار احتياجاً لأجل موظفيها القليلين والمصالح العامة كالشوارع والجسور والمدارس ولأجل المصالح الخاصة كالفقراء والمحتاجين ليس أكثر من ربع وارد الناس على الأغلب، وإنما قلنا: «على الأغلب» لأن ربع الوارد ليس على كل الوارد؛ إذ ليس الزكاة على غير التسعة، كما ليس الخمس على غير السبعة؛ ولذا ورد في الأحاديث الشريفة كفاية ضرائب الإسلام لحاجات الدولة والمجتمع. ففي صحيح محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: «إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم، ولو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة الله، ولكن أوتوا من منع من منعهم حقهم، لا مما فرض الله لهم، ولو أن الناس أدوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير»[7].

وعن معتب مولى الصادق (عليه السلام) قال: قال الصادق (عليه السلام): «إنما وضعت الزكاة اختباراً للأغنياء، ومعونة للفقراء، ولو أن الناس أدوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيراً محتاجاً، ولاستغنى بما فرض الله له، وإن الناس ما افتقروا ولا احتاجوا ولاجاعوا ولا عروا إلا بذنوب الأغنياء، وحقيق على الله تعالى أن يمنع رحمته من منع حق الله في ماله»[8].

وبذلك يظهر حرمة أخذ الجمارك والمكوس التي تسمى في الأخبار بالعشر؛ لأنه كان يؤخذ العشر من الأموال في ذلك الزمان، ولذا يجب على الدولة الإسلامية رفع مثل هذه الضرائب. نعم إذا كان في رفع الحجر لدخول البضائع الأجنبية أو خروج البضائع خوف تحطم اقتصاد الإسلام بسبب الهيمنة الأجنبية أو بسبب الضعف والاختلاف الاقتصادي أو غير ذلك من الأضرار الكبيرة كان اللازم على الحاكم الإسلامي المنع من ذلك؛ لأنه المكلف بعدم تضرر المسلمين، فإن أمكن ذلك الرفع بالتعزير كان مقدماً، لأن المحرمات فيها التعزير، وإن لم يمكن بالتعزير فالظاهر أن للحاكم حق الحبس أو المصادرة، وجعل الضريبة عليه من باب الأهم والمهم، لكن كل هذه العقوبات ينبغي أن تكون بقدرها ومؤقتة؛ لأنها ضرورات، وإنما قلنا بجواز السجن لأن المستفاد من روايات السجن المختلفة التي ذكرها الفقهاء في باب القصاص أن على الحاكم الحبس إذا رآه رادعاً أو موجباً لأداء الحق؛ ولذا ذكر الفقهاء حبس الحاكم للقاتل حتى يأتي الولي الغائب أو نحو ذلك، مع أنه ليس فيه نص بالخصوص[9]، إلى غير ذلك من الموارد التي ذكرت في الروايات[10] والفتاوى[11].

وأما المصادرة وجعل الضريبة فلأن الإضرار يعطي للحاكم حق الإتلاف والمصادرة، وجعل الضريبة أهون، فيفهم منه بالفحوى والأولوية، كما هدم رسول الله (صلى الله عليه وآله) مسجد ضرار وذلك لإضراره [12]؛ ولذا سمي بمسجد الضرار، كما أمر الأنصاري بأن يقلع شجرة سمرة ويرمي بها وجهه[13] مع أن قيمتها مقلوعة قليلة جداً بالنسبة إلى قيمتها مغروسة، إلى غير ذلك.

لكن من الواضح أن الحكم بذلك ليس أولياً، بل هو حكم اضطراري ثانوي، والضرورات تقدر بقدرها، ومن مسائل المكوس يعرف البحث في سائر الضرائب التي تضطر الدولة أحياناً إلى وضعها، فإنها أيضاً ينبغي أن تخضع إلى الضرورات التي تقدر بقدرها. هذا وللسياسة الاقتصادية في الدولة الإسلامية موارد ومسائل كثيرة أعرضنا عن ذكرها لضيق المجال.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

...................................................

[1] سورة الانفال: الآية 41.

[2] سورة التوبة: الآية 6.

[3] الفقه كتاب الجهاد: ج48 ص 28 – 30.

[4] الكافي: ج3 ص566 ح1 ؛ الوسائل: ج15 ص149 ح20185 باب 68 من ابواب جهاد العدو.

[5] المصدر نفسه.

[6] انظر الفقه كتاب الاقتصاد: ج2 ص 43.

[7] الكافي: ج3 ص496 – 497 ح1 ؛ الوسائل: ج9 ص10 ح11388 باب 6 من ابواب ماتجب فيه وما..

[8] الوسائل: ج9 ص12 ح11392 باب 1 من ابواب ماتجب فيه وما..

[9] الفقه كتاب الاقتصاد: ج108 ص33 – 46.

[10] انظر الوسائل: ج29 ص160 ح35378 باب 12 من ابواب دعوى القتل ؛ والمصدر نفسه: ج27 ص300 باب 32 من ابواب كيفية الحكم.

[11] المختلف: ج8 ص415.

[12] مجمع البيان: ج5 ص73 تفسير الآية 107 من سورة التوبة.

[13] الفقيه: ج4 ص243 ح777.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 21/تشرين الاول/2013 - 16/ذو الحجة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م