وحدة الدعاء والبناء في وقف قطار الفناء

د. نضير الخزرجي

 

في غابر الأيام كنت ممن يواظب على قراءة مجلات الأطفال واقتنائها، وكباقي الصبيان تشدني القصص المصورة، ومما علق في الذاكرة قصة عالم الفلك الذي وقع، وهو في غابة نائية ضمن مهمة علمية، في أسر مجموعة بشرية غير متحضرة تقيم حفلات الرقص على وقع الطبول والنيران المشتعلة التي تنتظر الإنسان (الفريسة) ليُشوى ويؤكل، ولم يجد العالم مخرجاً لمحنته باستخدام القوة البدنية، فالكثرة تغلب الشجاعة، فكيف وهو ليس من شجعان الأبدان وحظه من الدنيا علم الأكوان ينفع به وينتفع منه، فهداه عقله الى استخدام علمه كوسيلة ناجعة للتخلص من وجبة طعام شهية لهؤلاء القوم سيكون هو ضحيتها، فكان يعلم وفق حسابات فلكية أن الشمس سيصيبها الكسوف عصر اليوم الذي وقع فيه فريسة لعبدة الشمس وآكلي البشر، فعندما فشل في اقناعهم لإطلاق سراحه بما أوتي من حكمة، وأنى له ذلك والقوم سيحتفلون مع غروب الشمس بوجبة عشاء شهية، طلب الحديث مع زعيمهم وهو معلق إلى جذع شجرة، وعندما أتاه متبختراً، قال له العالم أن ربكم (الشمس) الذي تتقربون إليه بي شديد الغضب وسيحل عذابه عليكم إن جعلتموني طعمة لبطونكم، فسخر منه زعيم القوم وقهقه بصوت عال، فكرر العالم قوله وأشار إلى الشمس مشدداً عليهم وبكل ثقة بأنّ ربهم سيصيبهم بأذاه مع حلول العصر، وطالبهم بحريته قبل أن يحلّ القدر المحتوم ولات حين مندم، فالتفت الزعيم إلى الملأ مستفسراً لكنهم أجمعوا على إعمال طقوسهم وشويه حيا مع حلول الليل، وتعالت من جديد أصوات الطبول والأبواق العاجية والقوم في حلقة يدورون حول النار منتظرين غروب الشمس وشوي الفريسة.

كان العالم مطمئناً مما يقول، والقوم يكذبونه، وبعد مرور ساعات عدة من الزوال أخذت الشمس بالكسوف وبان القلق على الزعيم وملئه وبدأت أصوات الطبول تخف رغم اشتعال النار، وهنا التف العالم الى حلقة القوم وكرّر عليهم طلبه قبل أن يأتيهم الموت الزؤام، وتشاوروا بالأمر والرعب قد نزل بساحتهم وحاروا في أمر الفريسة، ولم يطل مقامهم طويلاً فأشعة الشمس أخذت تتراجع وتبهت، وتعدى الكسوف من قرص الشمس نصفها، وقبل أن تأذن الشمس بالغياب المؤقت أعاد عليهم العالم تهديده وطمأنهم وبنبرة الواثق أن ربهم الذي غضب عليهم سيرضى عنهم ويرفع عذابه إن فكّوا عقدة وثاقه وتركوه وشأنه يؤوب من حيث أتى، فوثقوا بكلامه عن رحمة الرب ورضاه، بعدما أن بان لهم صدقه في غضبه وجزاه!، فأطلقوا سراحه، واستغل العالم الفرصة وانطلق هارباً لا يعقب، وبقية القصة معروفة، فالشمس عادت الى سابق عهدها، والقوم سار السرور في أوصالهم، وظلوا على عبادة الشمس ظناً منهم أنّ ربهم هو الذي يرحم إذا أشرق ويغضب إذا كسف، وهكذا نجى العالم بعلمه وخسر القوم وجبة شهية بجهلهم.

قصة من بقايا تاريخ غابر تعود الى مطلع السبعينات من القرن العشرين، لازالت خيوطها عالقة في الذاكرة، قفزت الى سطح الذهن وأنا أقرا كتيب "شريعة الآيات" للفقيه المحقق آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا في بيروت عن بيت العلم للنابهين في 72 صفحة انطوى على 122 مسألة مع مقدمة و42 تعليقة للفقيه القاضي آية الله الشيخ حسن رضا الغديري.

سكة الخوف والرجاء

هناك مائز بين الخوف واللاخوف وما يقابله من الشجاعة، فالخوف أمر تكويني، والشجاعة عملية مكتسبة تصقلها التجارب، ويستطيع المرء عبرها الحد من دائرة الخوف حتى تقترب من الصفر، وهي درجة لا ينالها إلاّ ذو حظ عظيم، فالخوف واللاخوف أمران قائمان مع الإنسان، والدرجة تختلف من واحد لآخر، فالبعض يصل به الخوف مبلغاً حتى يُقال هذا يخاف من ظله وتلك تخاف من ظلها، والشجاعة هي الأخرى درجات تتجلى في الحياة اليومية عبر ممارسات ومماحكات، ومبلغ الشجاعة النبيلة ما كانت في طريق الحق وصلاح العباد وخير البلاد، ومن الشجاعة الخوف من رب الأرباب وكسب رضاه، ومن الدناءة الجرأة عليه والتذلل لما عداه، فتلك شجاعة الأحرار وهذه شجاعة العبيد.

من الشجاعة أن لا يخاف الإنسان عدواً أو ظالماً، ومن الشجاعة أن يخاف من ذنب اقترفه، ومن الشجاعة أن يذعن للحقيقة، ومن الشجاعة أن يتقرب إلى بارئه في ساعة اليسر والعسر، وقد يكون للخوف في بعض العبادات مدخلية في الأداء، مثل وجوب اتيان صلاة الآيات عند حصول الكسوف والخسوف والزلازل وبعض الكوارث الطبيعية التي توجب الخوف العام في المجتمع، في مثل هذه الحالة كما يؤكد الفقيه الكرباسي: (توجب الصلاة بشرط أن يستولي الخوف معظم أبناء المنطقة، فلو خاف لوحده أو ضمن عائلته فلا تجب)، فعدد غير قليل من مسببات وجوب صلاة الآيات مقيدة بالخوف، فالشارع المقدس كما يضيف الفقيه الكرباسي: (ربط وجوب مثل هذه العبادة بالخوف، فعندما يتحقق الخوف وجبت، ولكن يُلاحظ في أنَّ بعضها لم يقيّد بعامل الخوف بل جاءت محدّدة بالآية نفسها كالكسوف والخسوف).

ومن الطبيعي أن الإنسان بشكل عام يتقرب إلى الله عندما تضيق عليه حلقات الضراء، كالذي لا يؤمن بالغيب وقد هاجت من حول مركبه أمواج البحر تقلبه يمينا ويساراً فيتوجه قلبه إلى قوة غير مرئية بحثاً عن الخلاص، فالإنسان يتهادى بمركبه في الحياة الدنيا بين الخوف والرجاء، وهو أمام الحوادث الكونية والكوارث الطبيعية لابد أن ينشد الأمن والأمان، بالصلاة والدعاء، ولذا ورد في الحديث الشريف عن الإمام محمد بن علي الباقر(ع): (ما بعث الله ريحاً إلا رحمة أو عذاباً، فإذا رأيتموها فقولوا: اللهم إنّا نسألك خيرها وخير ما أُرسلت له، ونعوذ بك من شرّها وشرّ ما أُرسلت له، وكبّروا وارفعوا أصواتكم بالتكبير فإنه يكسرها)، ولاشك أن قربه من الله عند حصول النوازل يشدّه إلى تفعيل عقله في اتخاذ الخطوات اللازمة لتلافي أضرار الكوارث والحوادث من خلال تحصين مباني المدن الواقعة على خط الزلازل أو القريبة منها، أو وضع السدود لتجاوز الفيضانات وارتفاع مناسيب الأمطار، وهكذا، فاذا اجتمع البناء مع الدعاء تحقق للمجتمع الهناء.

ويتحقق وجوب صلاة الآيات بوقوع الآيات التالية: الكسوف، الخسوف، الزلزال، والكوارث الطبيعية الأخرى، ومن مظاهر الأخيرة: الرعد القوي، البرق الشديد، العواصف الشديدة، الأعاصير الشديدة، السيول الجارفة، هجوم الحشرات، أحداث الفضاء، الخسف الأرضي، إنفجار البراكين، الصاعقة، سائر الأمور الأخرى من قبيل الأوبئة التي تهلك الحرث والنسل.

وتجب صلاة الآيات إذا حصلت واحدة من الآيات الثلاث الأُوَل: (سواء سبب الخوف أم لم يسبب الخوف)، وفي الآيات الاخرى وبشكل عام، فإن حضور الخوف العام طريق الى تحقق الوجوب، لكن الكرباسي في الحوادث المفتعلة له رأيه: (إذا علم الإنسان أنَّ الحادثة كالزلزال مثلاً من عمل القوى الكبرى الذين يقومون بتجارب كتفجير القنابل، فلا يجب عليه إقامة الصلاة).

آيات ودلالات

مهما بلغ الإنسان من العلم درجة، وتعامل مع الظواهر الكونية والحوادث الطبيعية على أرضية علمية، فتبقى أن للآيات والعلامات دلالاتها في تقويم حياة الإنسان بما تخلق توازناً في علاقاته مع الطبيعة، ولذلك جاءت تسمية العبادة بصلاة الآيات للإشارة إلى آيات الله فيما خلق من سماوات وكواكب وأرض وإنسان وحيوان، وبتعبير الفقيه الغديري في تعليقه: (الظاهر أن تسمية هذه العبادة الإلهية بصلاة الآيات نظراً إلى أهدافها الملحوظة والمقصودة فيها ومن جملتها إلفات أنظار الخلق إلى قدرة الله تعالى ومشيئته على الإطلاق ولا يمكن تحديدها في العقاب والعذاب، فإن الله سبحانه رحيم وسعت رحمته كل شيء قبل عذابه وعقابه، ويمكن أن يكون وقوع الحوادث والكوارث أيضا من موارد الرحمة الإلهية التي لا نُدرك كنهها)، ولذلك يضيف بأن الحوادث والكوارث و: (القول بكونها علامات السخط والعذاب والعقاب على أفعال العباد تعيينا فلا دليل عليه، ويردّه وقوع تلك الحوادث والكوارث في المناطق التي أكثر سكانها من المسلمين والمؤمنين بالله تعالى والمتعبّدين بأداء التكليف الإلهي والملتزمين بإتيان الواجبات وترك المحرّمات وامتثال الأوامر الإلهية والإجتناب عن النواهي التي وردت في القرآن والسنّة، فلا يُقال بكونها من العذاب والعقاب، أو كذلك القول بكونها من الإمتحان، ولعلّه لأجل مصلحة هامة أخرى لا يعلمها إلا الله والراسخون في العلم نزلت هذه الآيات..).

والمصالح العامة بشكل عام واحدة من الامور المهمة في حياة المجتمع، وتؤخذ في التشريعات الدينية والمدنية، وربما لا يدرك الإنسان المصلحة العامة من بعض الحوادث والكوارث، فالرياح والأغبرة في بعض المواسم من العام، لها فائدتها على الصحة والبيئة والزراعة يرى فيها الإنسان شراً ويرى أهل العلم والمصلحة خيرا، وبتعبير الفقيه الكرباسي: (ولضيق أفق الإنسان يستعطفه موقف المصاب ولا يلتفت الى المصلحة العامة من هذا الحدث كما هو الحال في البراكين فإنها ربما تكون ضرورة حياتية لاستمرارية البقاء البشري والحيواني والنباتي وغيرها، فإذا ما وزنت هذه المصلحة بإصابة ثلة من الناس تجدها لا تعد شيئا لدى المحاسبة الدقيقة).

ومهما قيل عن الحوادث الكونية المحسوبة الوقوع أو المفاجئة، فإنها جزء من عملية تربية الإنسان وصقل شخصيته وإعمار الأرض، على أن بعض الحوادث هي من عمل الإنسان نفسه، أو من تداعيات أعماله، فالإحتباس الحراري على سبيل المثال الناتج عن الإستخدام السيء للطاقة بأنواعها، له تأثيره المباشر على حصول كوارث في الكرة الأرضية، وهي بارتفاع عاماً بعد آخر، بخاصة مع اتساع رقعة فتحة جدار الأوزون الواقية للكرة الأرضية من الأشعة الكونية المضرّة.

ولا يخفى أنَّ تفهّم هذه الحقيقة وإدراك ما ينتج عنها من كوارث، وإداء صلاة الآيات دفعاً ورفعاً للأذى، بمجملها مدعاة بنظر الفقيه الكرباسي الى ضرورة حضور عبرتين وقيام توجهين، فالعبرة الأولى: (الكف عن مزيد من الفساد في الأرض والذي هو واجب شرعي لتسلم البلاد والعباد)، والثانية: (العِبرة بالقدرة الإلهية وقوانينها الدقيقة، والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى، وأن التوجه والإنابة إليه هو الذي يمكن أن يوقف مثل هذه الكوارث). وأما التوجهان: فهناك: (توجه علمي، ليقوم العبد بدراسة هذه الآيات ويكتشف حقيقتها ويتعامل معها تعاملاً علمياً يستفيد منها في مسيرة حياته)، والثاني: (توجه عبادي، ليتوجه العبد إلى مولاه ويصلح نفسه وفعله إيماناً بالقدرة الإلهية المطلقة، وهذا هو محور هذه الصلاة التي فرضت على العباد عند حدوث مثل هذه الكوارث والآيات).

فهذا الوجيز الذي يشكل واحداً من ألف عنوان من عناوين التشريعات العبادية والعملية اليومية يدأب آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي على طبعها تباعاً ما أسعفته المادة، يقدم المعالم المشرقة للتعاطي مع الآيات الكونية والأرضية، لا من جانبها التشريعي فحسب، بل من جانبها العملي وتنظيم علاقة الإنسان مع الطبيعة بما فيه سعادته في الدارين.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/nazeeralkhazraji.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 18/أيلول/2013 - 11/ذو القعدة/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م