الأمم المتحدة في العراق.. عشرة أعوام وصدى الانفجار يهزّ الذاكرة

 

شبكة النبأ: للأمم المتحدة غاية واضحة من الإبقاء على مشهد الدمار الذي لحق بفندق "القناة" ببغداد حيث مقر بعثة الأمم المتحدة، إثر انفجار سيارة مفخخة في التاسع عشر من شهر آب عام 2003. المكان أشبه بالنصب التذكاري للضحايا الذين ذهبوا على مذبح الديمقراطية والعملية السياسية في العراق. وفي حفل تأبين جرى في بغداد تزامناً مع زيارة مساعد الأمين العام للأمم المتحدة "جيفري فيلتمان" الى بغداد أمس الاول، استخدم المسؤول الأممي عبارات رقيقة وشجيّة، مشفوعة بالتصميم والعزم على مواصلة الطريق، وربما يتحول المكان الى رمز لما يمكن ان نسميه بـ "النضال الأممي" في العراق، حيث قتل (22) موظفاً في مقر البعثة، وكان على رأسهم رئيس البعثة البرازيلي "سيرجو دي ميلو"، في أسوء اعتداء تتعرض بعثات الأمم المتحدة في تاريخها. وقد تم غرس الأشجار التذكارية تخليداً للضحايا بالقرب من مكان الحادث، ووقف المئبنون دقيقة صمت على ارواح الضحايا.

والمثير في أمر البعثة الدولية في العراق، أن الشاحنة المملوءة بالمتفجرات، توقفت في جانب المبنى بعد مرور خمسة أيام فقط على تشكيل البعثة في العراق (يونامي) بموجب قرار مجلس الأمن الدولي رقم (1500). وفي الأيام الاولى من تولي الامريكي "بول بريمر" مهام عمله كرئيس للسلطة المدنية لقوات التحالف في العراق. وكان يفترض أن تكون أمام مهام كبيرة وواسعة النطاق في العراق، حيث العراقيون خرجوا للتوّ من سلطة ديكتاتورية، قمعية، الحقت أضراراً بالبنية التحتية الاقتصادية، ودفعت بالانسان العراقي لأن يعيش حالة الغربة والخوف واللا استقرار وهو في بلده. الى جانب تصدّع القطاع الخدمي بشكل كبير بعد انهيار النظام الصدامي، مما يجعل دور الأمم المتحدة استحقاقاً أكيداً، في مجالي التعليم والصحة على وجه التحديد. و اتذكر جيداً كيف كانت منظمة "يونيسيف" توزع القرطاسية على تلاميذ المدارس الابتدائية للسنة الدراسية 2003- 2004، وربما هذه إحدى إسهامات المنظمة الدولية في هذا القطاع، في وقت كان العراق يفتقد للجهاز الحكومي المتكامل، بل لم يمتلك بعد للسلطة التنفيذية والتشريعية، وكان يُدار من قبل شخص امريكي عينه رئيس الولايات المتحدة (بوش)، فكانت الرواتب والتخصيصات والاجراءات تخرج من مكتب بريمر. مما يمكن القول معه، إن مبرر تدمير مبنى البعثة الدولية وتحجيم دورها في العراق، كان جاهزاً، وهو مسايرة ومعاضدة "الاحتلال الامريكي".

نظرة الى الخلفية التاريخية

يعد العراق من البلدان الأعضاء المؤسسين للأمم المتحدة، وتقف في طليعة الدول العربية والاسلامية التي حازت على مقعد في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان له حضورٌ مميز منذ عقد الخمسينات بوجود الدكتور فاضل الجمالي، تلك الشخصية الدبلوماسية المحترفة، الذي شغل أول ممثل للعراق في الامم المتحدة. وقد شارك العراق في اعمال مجلس الامن كعضو غير دائم مرتين: الاولى في عامي 1957-1958، والثانية في عامي 1974- 1975.

تلك الفترة، يمكن عدّها بالذهبية ليس بفضل الأجواء الدولية ورعايتها للعراق، إنما للظروف الاقتصادية والسياسية التي كان يمر بها العراق في الحقبتين المذكورتين، إذ من المعروف أنهما تميزا بقدر لا بأس به من الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، بحيث اصبح بالامكان الظهور أمام العالم على أنه بلد مستقر ومقتدر، وبامكانه أداء دور فاعل على الساحة الاقليمية والدولية. فضلاً عن أن العراق، كان من بين نخبة الدول النفطية التي شملتها الطفرة الكبيرة أواسط السبعينات بعد الارتفاع الكبير لاسعار النفط، مما أهّل العراق ليكون داعماً مباشراً لعديد المشاريع والبرامج الدولية، وأحد الاعضاء المنتظمين في دفع اشتراكه للمنظمة الدولية، وبالمحصلة، فقد كان آنذاك عضواً مرغوباً فيه الى درجة كبيرة.

إلا ان هذا الخير والعطاء والصورة الحسنة، لم يجني منها العراق، بقدر ما جنت منه المنظمة الدولية، كما عديد بلاد العالم. فلابد من التذكير بأن الأمم المتحدة وتحديداً مجلس الأمن الدولي التزمت الصمت المريب إزاء شن صدام حربه ضد ايران في 22 ايلول عام 1980، واحتلاله أجزاء كبيرة من ايران، ولم يصدر من الأمم المتحدة إلا بيان مقتضب يدعو الطرفين الى وقف اطلاق النار..! واستمر هذا الصمت والحياد العجيب إزاء حرب ضروس ألقت بظلالها الكثيفة على المنطقة والعالم ايضاً، حتى عام 1987، عندما أصدر مجلس الأمن الدولي قراره الشهير رقم (598) بوقف إطلاق النار، وكانت صيغة القرار تخرج الطرفين المتحاربين بشكل "لا غالب ولا مغلوب".

لكن الموقف الأممي كان مختلفاً مع العراق تماماً، عندما أمر صدام قواته باحتلال الكويت في الثاني من آب عام 1990، حيث تحول مجلس الأمن الدولي الى ماكنة لإصدار القرارات بالحظر والعقوبة والمحاصرة، وصولاً الى حد السيف، وتجويز استخدام القوة في حال عدم انصياع صدام للنداء الدولي بالانسحاب من الكويت. وبالرغم من أننا لسنا بصدد انتقاد القرارات الدولية ضد صدام، لكن الملاحظ أن المنظمة الدولية عملت ليل نهار في تلك الأيام لاستصدار ما يمكن إصداره لتضعيف وتحجيم العراق، بدفع واضح ومباشر من امريكا وبريطانيا وفرنسا، الاعضاء الدائمين في مجلس الأمن. وهو الجهد الذي لم يشهده العالم، إبان الاحتلال الامريكي للعراق في التاسع من نيسان عام 2003، بل لم تتخذ أي إجراء قانوني للضغط على الامريكيين بوضع جدول زمني للانسحاب من العراق. وترك الأمور تسير وفق المخططات العسكرية والمخابراتية المعدة في واشنطن ولندن.

آفاق المستقبل

المراقبون والخبراء في هذا المجال، يشيرون الى شكاوى العاملين في الأمم المتحدة بتكبيل أيديهم وأرجلهم في العراق منذ الانفجار الهائل الذي ضرب مقر البعثة قبل عشر سنوات، ومذ ذاك فان مقر البعثة تتم حمايته من خلال محاصرته في المنطقة الخضراء..! في حين أن الصحيح، هو تشكيل فرق من المنظمة الدولية للتجوال في المناطق العراقية المختلفة، من الشمال وحتى الجنوب للوقوف على الوضع الخدمي والانساني وغيره، وإعداد تقارير ميدانية دقيقة لحجم المشاكل الموجودة ونوعية الحاجة الى المساعدة، وكيفية صرفها. كما يشير المراقبون ايضاً الى حاجة الأمم المتحدة الى تفاعل العراقيين مع البعثة، من خلال الزيارات المتبادلة، وايضاً الاتصال بمنظمات المجتمع المدني، وهذا متعذر الى حدٍ كبير في الوقت الحاضر، بسبب الحواجز الكونكريتية المتعددة والاجراءات الأمنية المعقدة، مما يجعل الانسان العراقي يمحي فكرة أي دور ملموس للأمم المتحدة في حياته. نعم؛ تقتصر علاقة البعثة الدولية على الساسة، من نواب برلمان ووزراء وقضاة وغيرهم.

لذا يمكن القول: ان دور الأمم المتحدة في العراق بات محكوماً بالأجواء السياسية في العراق وفي المنطقة، وايضاً بأجواء العلاقة بين العراق من جهة، وبين العواصم الدولية المعنية من جهة اخرى، في مقدمتها واشنطن ولندن. حتى الإسهام في إنضاج التجربة الديمقراطية ومتابعة المبعوث الدولي "مارتن كوبلر" لمسيرة العملية الانتخابية في العراق، ومراحل التصويت والفرز وغيرها، ما هي إلا تحركات محسوبة ومعدة سلفاً، وإلا أين دور الأمم المتحدة من مسألة "المصالحة الوطنية"؟ إن الجميع في العراق وخارجه يصفق لتحركات وجولات "كوبلر" المكوكية هنا وهناك في فترة الانتخابات، لكن لا نلاحظ تقطيب الجبين وعبس الوجوه عندما يكون الحديث عن إخماد نار الصراعات الطائفية ذات الامتدادات الاقليمية بعلم يقين من الامم المتحدة. وهذا ما اراد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي التذكير به لـ "فيلتمان" خلال الاجتماع به مؤخراً، عندما أجاب على سؤال حول موقف العراق من الوضع في مصر وسوريا، بأن العراق "يدعم الجهود المبذولة لإيجاد حل سياسي للازمة في سورية وإنهاء معاناة الشعب السوري الشقيق"، داعيا الامم المتحدة والمجتمع الدولي ودول المنطقة الى "الضغط على الأطراف السورية للجلوس الى مائدة الحوار وإيجاد حل". وفي الوقت نفسه حذّر المالكي خلال اللقاء، من استمرار دعم التطرف والإرهاب من بعض الأطراف في المنطقة.. في اشارة واضحة الى السعودية. وربما اراد المبعوث الدولي موقفاً يتسم بالليونة أكثر إزاء المعابر الحدودية مع سوريا لتسهيل دخول اللاجئين السوريين، حيث تراقب الأمم المتحدة ومعها ايضاً امريكا ودول الغرب، التحركات العسكرية العراقية على الحدود مع سوريا لتشديد المراقبة والحد من دخول المتسللين والارهابيين الى العراق.

واذا ارادت الأمم المتحدة دوراً فاعلاً ومثمراً لها في العراق، ينبغي الابتعاد عن الظلال السياسية، والاعتماد على الجانب المهني حصراً. وتترك الباقي على السلطات العراقية لتتحمل مسؤولياتها. لا أن تتدخل في الشؤون الداخلية وكيفية تطبيق القوانين والتشريعات أو حتى سبب سنّ هذه القوانين، لاسيما ما يتعلق بالقضاء، بحجة متابعة "ملف حقوق الانسان". ففي آخر موقف من هذا النوع صدر في كانون الاول من العام الماضي، من ممثل رئيس بعثة الأمم المتحدة في العراق "جورجي بوستن"، انتقد عمل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضاء الأعلى في العراق، وذلك خلال حضوره المؤتمر الذي أقامته اللجنة الوطنية للتنسيق والمتابعة للخطة الوطنية لحقوق الإنسان في بغداد، بمعنى أن المبعوث الدولي أغمض عينيه عن الجرائم المريعة التي تمزق الجسد العراقي يومياً بسبب العناصر الارهابية والتكفيرية القادمة من خارج الحدود.

رغم ذلك، فان العراق يساهم حالياً بشكل اساسي في بناء المجمع الجديد لبعثة الامم المتحدة للمساعدة (يونامي) من خلال منحها قطعة أرض في بغداد ومنحها (25) مليون دولار عام 2010 و (25) مليون دولار اخرى محسوبة على ميزانية العراق لعام 2011 ليكون مجموع المنحة المقدمة (50) مليون دولار. وقد مدد عمل البعثة الدولية لسنة قادمة أخرى بطلب خاص الى مجلس الامن الدولي. على أمل مشاركة المؤسسات والمنظمات الدولية في مشاريع تنموية وعمرانية في العراق بالتنسيق مع الحكومة العراقية.

ومن المعروف أن هناك (16) منظمةً وبرنامجاً ووكالةً وصندوقاً تابعة للامم المتحدة تعمل في العراق: منظمة الامم المتحدة للاغذية والزراعة (فاو)، منظمة العمل الدولية، المنظمة الدولية للهجرة، بعثة الامم المتحدة للمساعدة في العراق (يونامي)، برنامج الامم المتحدة الانمائي، منظمة الامم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، صندوق الامم المتحدة للسكان، برنامج الامم المتحدة للمستوطنات البشرية، مكتب مفوضية الامم المتحدة لشؤون اللاجئين، منظمة الامم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونسيف)، منظمة الامم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو)، صندوق الامم المتحدة الانمائي للمرأة، مكتب الامم المتحدة لخدمات المشاريع، برنامج الاغذية العالمي ومنظمة الصحة العالمية.

كل هذه المنظمات بامكانها المساهمة في بناء ونهضة العراق بشرط الاستقلالية في العمل والقرار والتخطيط، وقبل ذلك التنسيق مع منظمات المجتمع المدني ودوائر الضغط الموجود في العراق، مثل الاحزاب والتنظيمات الجماهيرية والمؤسسات الدينية والنقابات وغيرها، مما يضمن لها وللعراق الثمرة الطيبة والنتيجة المرجوة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/آب/2013 - 13/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م