لِمَاذَا يُعَادِيْ التَّكْفِيْرِيُّوْنَ تَارِيْخَنَا؟

مُحَمَّد جَواد سُنبَه

 

مَا مِنْ أُمَّةٍ، لا تَعتَزُّ بحضَارَتِها وتاريخِها، ولا تَهتَمُّ برمُوزِهَا، إِلاّ وكانَتْ أُمَّةً تَزرَعُ عناصِرَ انهيارِهَا داخِلَ ذَاتِها، وتُجبِرُ التَّاريخَ على نِسيَانِها. وبذلكَ يَندرِسُ قِسمٌ مِنْ مَاضِيها، ويَضيْعُ جَانِبٌ مِنْ فِكرِهَا وثقَافَتِها وتُراثِها. ومِثُلُ هَذهِ الأُمَّةِ يَذوبُ حُضُورُها تدريجيّاً، بَيّنَ وجُودِ الأُمَمِ الأُخرى، وتصبَحُ أَمَامَ مُفتَرَقِ طَرِيقٍ، أَمّا أَنْ تَكُونَ تَابِعَةً لأُمَّةٍ أُخرى، (أَو أُمَمٍ أُخرى). أَو أنْ تكونَ مُقلِّدَةً لها. وفِي كلتا الحالتينِ تَحكُمُ على نفْسِهَا بالتَّبعيّةِ للآخرين. وسِياقُ هذا الطّرحِ، لا يُفهَمُ مِنهُ بأَنَّهُ دَعوَةٌ للتَّمَسُكِ بالماضِي، ووَضعِهِ أَمَامَ الحَاضِرِ وتَطَلُّعَاتِ المُستَقْبَلِ، وأَنْ نَترُكَ الحَداثَةِ والتَطَوّرِ خَلْفَ ظُهورِنا، فهذا التَصَوّرُ يؤدي إِلى انتحارِ الأُمّةِ، على مسرحِ بنَاءِ حَضَاراتِ الأُمَمِ وتَطَوّرِها وتَقدُّمِها. لكنَّ الموازنَةَ بيّن التاريخِ والحداثَةِ، سَيكونُ مُحرّكاً يَدفَعُ الأُمَّةَ، لتَنتَهِجَ طريقاً يُميّزُ هويّتَها، ويُبرِزُ وجودَها بيّنَ الأُمَمِ الأُخرى، على أَساسِ مَا تَملِكُهُ، مِنْ قِيَمٍ وأَخلاقٍ وآدابٍ وفُنونٍ، وعُلومٍ ومَعارف وأَنماطٍ إِنسانيّةٍ، في السِلوكِ الاجتِمَاعيّ. بحيثُ يُنْتِجُ هذا المَزيجُ مِنْ تلكَ العنَاوينِ وتَفرُعاتِها، الثَقافَةَ العَامّةَ للأُمَّةِ.

مِنْ خِلالِ هذا المَنظُورِ المُتوازنِ، بَيّنَ احترامِ التاريخِ، ومُواكَبَةِ الحَداثَةِ، تكونُ الأُمَّةُ فِي حَالَةِ تَوازنٍ مَعَ الواقِعِ، وبعيدَةٍ عَنْ ساحَةِ التَناقُضِ مَعَ كُلِّ جديدٍ، يحصلُ فِي عالمِنَا المتَّسِمِ بالتغيُّراتِ، على مدارِ السَاعَةِ. وَلا يستطيعُ أَحَدٌ أَنْ يَجزِمَ، بأَنَّ الأُمَمَ المُتقدِّمَةِ تَتنَكّرُ لِتارِيخِها وقيَمِها ومُثُلِها وتُراثِها ورُموزِها. كَمَا يَتَوَهّمُ البعضُ، فيُعزِي أَسبَابَ تَقَدُّمِ شعوبِ الغَربِ، كانَ بِسَبَبِ تركهم لتاريخِهِم وتخلّيهِم عَن ماضِيهِم. ولو كانَ الأَمرُ كذلكَ لتوَقَفَ، مُفكّرو وزُعماءُ الغَربِ، وكِبَارُ السِّياسيّينَ فِي تلكَ الدُّوَلِ، عَنْ الحديثِ حولَ تاريخِ أَسلافِهِم، ولمَا وَضَعوا تماثيلَ رُمُوزِهِم، في الشَوارعِ تخليداً لذِكراهُم، ولأَحجَمَ البَاحِثونَ مِنْهُمْ، عَنْ دِارسَةِ التّاريخِ أَصلاً.

لقَدّْ أَبهرَنِي أَنَّ رِسالَةَ نيّلِ دَرَجةِ المَاجِستيرِ، لوَزيرِ الخارجيّةِ الأَمريكيّةِ الأَسبَقْ (هنري كيسنجر)، كانَتْ دراسةً تاريخيّةً تحليليّةً، لشخصيتيّنِ سياسيّتيّنِ تاريخيتيّنِ، هُما وزيرُ خارجيّةِ المانيا (مترنيخ 1773- 1859م)، ووزيرُ خارجيّةِ بريطانيا (كاستلري 1812- 1822م.). اللذانِ حقّقا حالةَ توازنِ القِوَى في أَوربّا، خِلالَ القرنِ الثامنِ عشر. ومنَعا انّدِلاعَ العديدِ مِنَ الحروبِ فيها، لمُدَّةِ قرنٍ مِنَ الزَمنْ. (طَبعَ (كيسنجر) هذه الرسالةَ وأصبحتْ كتاباً عنوانه (دَربُ السَلامِ الصَّعب)).

كَمَا ظلَّ فِي ذاكِرَتِي مُجْمَلُ حديثٍ للمرحومِ الدّكتور حُسين علي محفوظ، عندَما كانَ يتكلمُ عَنْ احترامِ الأُمَمِ لتاريخِها ورُمُوزِها، فقالَ مَا مضمُونُهُ: أَنّهُ زارَ إِيطاليا وشَاهدَ فِي أَحدِ مَعالِمها الأَثريّةِ، شَخصَاً يَلتَقِطُ الأَحجَارَ الصّغيرةِ، الّتي تتسَاقَطُ مِنْ جِدارِ ذلكَ الأَثرِ، جَرّاءَ الرّياحِ وحركةِ الطّيُورِ علَيّهِ. ويقومُ هذا الشَخصُ بثَقْبِ هذهِ الأحجارِ، ونَظْمِها فِي خَيّطٍ ليَعملَ مِنها قَلائِدَ وأَساوِرَ. قالَ الدّكتورُ حسين علي محفوظ: (لقدّ أثارَ اهتمامي عَملُ هذا الشَخصِ. فقلتُ لهُ: لماذا تقومُ بذلك؟. فقالَ الرجلُ: إِنّي أَحفظُ تاريخَ بَلَدِي. قلتُ: بعملِ الأساورِ والقَلائِدِ؟. قَالَ: نَعمْ. فَأِنَّ كُلَّ حَصاةٍ وحَجَرٍ صغيرٍ، مِنْ هذهِ الأَحْجارِ تُمَثِلُ حُقبَةً مِنْ تاريخ بلدي)(انتهى). أَقولُ: إذا كانَ هذا الشَخصُ يَعتَزُّ بالأَحْجارِ، فكَيّفَ سَيَكونُ اعتِزازُهُ بمفكِرِي ورُمُوزِ بَلَدِه؟.

مِنْ خِلالِ مَا تقدّمَ، أَرى أَنَّ هناكَ مفارقةً كبيرةً فِي واقِعِنا الإِسلاميّ، تتمَحوَرُ فِي انبهارِنَا بالغَربِ، وهو يستحقُ ذلك، لمنجزاتِهِ العلميّةِ الّتي أَسهمَتْ في تغييّرِ وَجهِ العَالَمِ، ومعَ ذلكَ ظَلَّ الغَربُ يَحترمُ تاريخَهُ. والمُفَارَقَةُ أَنَّ الكثيرَ مِنّا، يَدعونَ لنَحذُو حَذْو الغَربِ في الحَداثةِ، لكنَّهُمْ معَ الأَسفِ، يَحتقرونَ تاريخَنا.

وعِندَنا مُفَارَقَةٌ عَجيبَةٌ أُخرَى، أَنَّ أَتباعَ الفِكْرِ السَلَفِيّ التَكْفِيرِيّ، يَحتَرِمُونَ السَلَفَ الصَالِحِ قوّلاً، ولكنّهُم بالوقتِ نَفْسهِ، يحتقرونَ كُلَّ مَعلَمٍ مِنْ مَعالِمِ السَلَفِ الصَالِحِ فِعلاً. عِلماً أَنَّ تلكَ المَعالِمَ تُذَكِّرُ الإِنسانَ المُسلمِ، بتاريخِ ذلكَ السَلَفِ الصَالح. وهذا الاتّجاهُ مِنَ التَفكيرِ المُنحرِف، يَتَضَمَّنُ الإجابَةَ على السُؤالِ: لماذا أَقدَمَ آلُ سُعودٍ، على هَدمِ قُبُورِ أَئِمّةِ البقيعِ في الثامِنِ مِنْ شَهرِ شوّال عام 1344ه - 20/4/1926، عندَ سيطرَتِهم على المدينَةِ المُنوّرة؟.

ومقبرةُ (بقيع الغَرقد) تَضُمُّ رُفاتَ أَربعةٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيّتِ(ع)، ورُفَاتَ عَددٍ مِنْ الصحابةِ والتابعين(رض). فهذا المكانُ يوجَدُ فيهِ قبورُ الرُموزِ التّاليَة:

1. قبر الإمام الحسن(ع). 2. قبر الإمام علي بن الحسين(ع). 3. قبر الإمام محمد الباقر(ع). 4. قبر الإمام جعفر الصادق(ع). 5. قبر فاطمة بنت أسد أم الإمام علي بن أبي طالب(ع). 6. قبر العباس عمّ الرسول(ص). 7. قبر إبراهيم بن رسول الله(ص). 8. قبور اُمهات المؤمنين زوجات رسول الله(ص). 9. قبور بنات رسول الله(ص) زينب وأم كلثوم ورقيّة. 10. قبر إسماعيل بن الإمام الصادق(ع). 11. قبر عثمان بن مظعون. 12. قبر حليمة السعدية. 13. قبر أم البنين قاطمة الكلابية زوجة الإمام علي بن أبي طالب(ع). 14. قبري عمتي رسول الله (ص) صفية وعاتكة. 15. قبور جرحى شهداء معركة أُحد. 16. قبور شهداء واقعة الحَرّة. 17. قبر عقيل بن أبي طالب. 18. قبر عبد الله بن جعفر بن أبي طالب. 19. قبر نافع (مولى عبد الله بن عمر). 20. قبر مالك بن أنس. 21. قبر الخليفة عثمان بن عفان. 22. قبر أبي سعيد الخدري. 23. قبر عبد الله بن مسعود. 24. قبر سفيان بن الحارث. 25. قبر محمد بن زيد. 26. قبر المقداد بن الأسود. 27. قبر عبد الرحمن بن عوف. 28. قبر أسعد بن زرارة. 29. قبر الخنيس بن حذافة. 30. بيت الحزان بالبقيع وهو مسجد اُبي بن كعب. ((باختصار) من معجم المؤلفات الاسلامية في الرد على الفرقة الوهابية / عبد الله محمد علي/ ص/127).

 وَلَمْ يقِفْ الحِقدُ التكفيريّ الوهابيّ عندَ هذا الحدِّ، بَلْ تَجَرَّأَ أتباعُهُ على هَدمِ بيّتِ النَّبي(ص)، والذي كانَ يُطلقُ عليه اسمُ بيّتَ خديجة(رض) في مكةَ المكرّمة. وكانتْ في هذه الدّارُ، حِجرةً صغيرةً يَجلسُ فِيها رسولُ الله(ص) عندَما كانَ يأتيهِ الوَحي.

وهلْ يَعلمُ المسلمونَ أَنَّ آلَ سعودٍ، بَنُوا مرافقَ صحيّةٍ وحمّامَاتٍ، على بيّتِ خديجة (رض)؟. (للمزيدِ مِنَ المعلوماتِ عَنْ هذا الموضوع، الاستماعُ لتسجيلات الفديو، للمهندس المعماري الدكتور سامي العنقاني، الموجودة على شَبكةِ اليوتيوب).

ختاماً: أَنَّ الغايةَ الخفيّةَ، التي تقِفُ وَراءَ مقاصدِ الفِكْرِ الوهابيّ التكفيريّ، هو تغييبُ كلّ ما يُذكّرُ الأُمَّةَ برموزِها. ومحاولةُ قَطْعِ علاقَةِ تفكيرِ الإِنسانِ المُسلمِ، بالاتّصالِ مع أَفكارِ ومواقِفِ تلكَ الشَخصيّاتِ، ويَقعُ أَئِمّةُ أَهلِ البَيّتِ(ع)، فِي مُقدِّمَةِ قائِمَةِ الحَظرِ الوهابيّ. التي يخافُ التكفيريونَ مِنْ رُمُوزِها، لأَنَّ مبادِئَ أَئِمَّةِ أَهلِ البَيّتِ(ع)، وأَخلاقَهُم وسلوكيّاتَهُم، تتناقضُ تماماً معَ سلوكيّاتِ وأَفكارِ التّكفيريّين.

إِذَنْ هِي عمليّةُ عزلٍ فكريّ وثقافيّ وعقائديّ وقِيَميّ مُمَنهجَةٌ، استخدَمَها السلفيّونَ التكفيريّونَ، لمنعِ أَبناءِ الأُمّةِ مِنَ التَواصلِ معَ أَفكارِ تلكَ الرُموزِ، الّتي تدعو الإِنسانَ للتحرُرِ، مِنْ عبوديّةِ الطّواغيتِ، واشاعَةِ روحِ العَدلِ والمساواةِ بيّنَ الجميع. ومِنَ البَديهيّ، أَنَّ فَتوَى (ابن بليهد) لهدمِ قُبُورِ مَقبَرَةِ البَقيعِ، جاءَتْ بإيعازٍ مِنْ رأس السُلطةِ، (عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود 1876- 1953)، الّذي أَسّسَ مَملكتَهُ، تحتَ رِعايَةِ ودَعمِ المخابراتِ البريطانيّةِ.

إِنَّ تَغييبَ مَقبرَةِ (بقيع الغَرقَدْ) عَنْ عُيُونِ المُسلمينَ، هِيَ فُرصَةٌ لِتَضْييعِ جُزءٍ مِنَ التَاريخِ الإِسلاميّ عَنهُم. هذهِ هيَ سيَاسَةُ الاستعمَارِ لتَجهيْلِ الشّعُوبِ، ومَحو أَيِّ أَثرٍ قَيّمْ مِنَ الذّاكرةِ الجماعيّة للأُمَّةِ، وعَزلِهَا عَنْ حَضَارَتِها. كلُّ ذلكَ جُزءٌ مِنْ مُخَطَطٍ يَرمي، لتكونَ أُمَّةُ الإِسلامِ أُمَّةً مُنهزِمَةً مُتخاذِلَةً مُتصَارِعَةً فيمَا بيّنَها، مُتنَازِلَةً عَنْ حقوقِها، غَارِقَةً في استهلاكِ كُلِّ مَا يُقدَّمُ إِليّها، مُتمَسِكَةً بالمَظهرِ تَارِكَةً الجَوهَرَ، مُنقَطِعَةٌ عَنْ جُذُورِها وتارِيخِها وحَضارَتِها، وهذا مَا تَمَّ فِعلاً.

والآنْ؛ ينبَغي على المُثقَّفِينَ والمُفكرينَ مِنْ أَبناءِ الإِسلامِ، أَنْ يقُودوا حملةً للمطالبَةِ بإِعادَةِ بناءِ آثارِ مقبرةِ البَقيعِ، ويُناشِدُون مُنظمةَ الأُمَمِ المُتّحدَةِ للتربيةِ والعِلمِ والثَّقَافَةِ (اليونسكو)، لدَعمِ كُلِّ جُهدٍ يَرمي، لإعادَةِ بِنَاءِ أَضرِحَةِ أَئِمَّةِ البَقيْعِ(ع). باعتبارِهَا إِرثاً حضاريّاً إِنْسانيّاً، أَسهَمَ المَدفُونُونَ فِيها، فِي صِنَاعَةِ الحَضَارَةِ الإِسلاميّةِ خَاصَةً، والحَضَارَةِ الإِنسانِيّةِ عَامّةً، في مرحلةٍ تاريخيّةٍ مُعيّنةٍ. لا سيّما أَئِمَّةُ أَهلِ البَيّتِ(ع)، الّذينَ أَسّسوا مَدرسَةَ الحِكمَةِ والتَّسَامُحِ والانْفتَاحِ عَلى الآخرين ونَبذِ العبوديّةِ والكراهيّةِ بيّنَ البَشَر.

هذهِ المَدرسَةُ احترمَتْ آدميّةَ الجَميع، كمَا جَاءَ فِي قَوّلِ الإِمامِ عليّ(ع): (الناسُ صنفانْ، أَمّا أَخٌ لكَ فِي الدِّينِ، أَو شَبِيْهٌ لَكَ فِي الخَلْق). ويَجِبُ أَنْ لا يَنسَى العَالَمُ، أَنَّ العَدِيدَ مِنَ العُلومِ، قدّ أَسْهَمَ فِي إِرساءِ دَعائِمِها أَئِمَّةُ أَهلِ البَيّتِ(ع)، ومِنْها عِلْمُ الكِيْميَاءِ، الّذي وَضَعَ أُسُسَهُ الإِمامُ الصَّادِقُ(ع)، وتَعَلَّمَ مِنْهُ(ع) جابرُ بن حيانَ الكوفيّ، قوانينَ هذا العلم. ومِنَ اللهِ تَعالى نَرجُو التّوفِيق.

* كاتِبٌ وَبَاحِثٌ عِراقيّ

[email protected]

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/mohamedjoaad.htm

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/آب/2013 - 13/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م