السلم والأمان في العراق من رؤية الإمام الراحل

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما نفكر بالأمن في الشارع نهاراً، ولدى استقرارنا في بيوتنا ليلاً، لابد ان ترتسم في اذهاننا مشاهد سيارات الشرطة والجيش بفئاتها وتشكيلاتها المتعددة، وبعدتها وعددها، على أنها هي المسؤولة عن مطاردة الارهابيين والسهر على الشوارع والمناطق العامة، لمراقبة من تسول له نفسه زرع عبوة هنا، وسيارة مفخخة هناك، ليحصد بها الارواح ويسفك الدماء. لكن الملاحظ للجميع، أن كل الاجراءات والاموال الطائلة على الأمن في العراق، نتيجتها سقوط المئات من المدنيين بين شهيد وجريح. فهل المشكلة في "السونار"؟ أم في اجراءات التفتيش؟ أم في الرواتب والامتيازات التي يتقاضاها أفراد القوات المسلحة بشكل عام، والمنتشرون بأسلحتهم وسياراتهم الفخمة في كل أنحاء العراق؟

في ذكرى رحيل المرجع الديني الكبير الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره الشريف- نستذكر الأخطاء العظمى والقاتلة التي ارتكبت في العراق بعد الاطاحة بنظام صدام في التاسع من نيسان عام 2003، فتثور الشجون وتستعر الآلام.. ونستذكر بمزيد من الأسى والأسف تلك الأيام التي كان من المفترض أن تكون بداية نهضة كبيرة وشاملة نحو الاستقرار والأمان والتطور والرفاهية، بعد إزالة أنقاض الديكتاتورية والجهل والحرمان.

الإمام الراحل في كتابه "السبيل الى إنهاض المسلمين"، يؤكد أن منهج العنف والترهيب، لن يحقق الأمن والأمان للمجتمع. هذا المحذور هو عينه الذي سقط فيه أهل الحكم في العراق طيلة السنوات الماضية. ربما يعلل البعض المآلات الراهنة، الى حقبة الإحتلال الامريكي للعراق، وأنه كان السبب في تمزيق المجتمع، وخلق حالة الاصطفاف الطائفي والعرقي، وإشاعة روح الانتقام والخوف من الآخر. وهي سياسة تتبعها معظم الجيوش والدول المستعمرة مع البلاد التي تسيطر عليها، وليس بوسعنا وعظ الامريكيين بأن يكون مسالمين وينشروا ثقافة السلم والمحبة والتآلف بين ابناء المجتمع العراقي المتعدد الأعراق والمذاهب. لكن من واجبنا التذكير بأن أمامنا قوى اسلامية حاكمة قرأت تاريخ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، والأئمة المعصومين عليهم السلام، في كيفية التعامل مع الأزمات السياسية والاجتماعية، فقد كانوا دائماً مصدر إلهام للأمن والاستقرار لجميع ابناء الأمة، رغم قسوة الظروف والمنغّصات والمضايقات التي تعرضوا لها من الأمويين والعباسيين. ولم تقتصر أنوارهم وعطاءهم العلمي والثقافي والديني على شيعتهم ومواليهم، إنما لجميع ابناء الأمة، وهذه عين النظرة الشمولية الأبوية المستلهمة من نهج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وهذا تحديداً ما يؤكد عليه سماحة الإمام الراحل في الفصل الخاص عن "منهج الحكم" على يد الإسلاميين، فيشير الى ضرورة " استيعاب الناس السريع منهم والبطيء والمتوسط، البعيد والقريب، باتجاهاتهم المختلفة ومشاربهم المتنوعة، ومن في البلاد جميعاً من المسلم الكافر والكتابي".

هنا؛ لابد من التذكير بأن "السلام" أو "السلم" مفهوم ديني وحضاري أهداه الاسلام الى البشرية جمعاء بفضل الوجود المبارك والحكيم للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، فهو الذي يوجد الاستقرار والطمأنينة في النفوس، أما "الأمن" فهو نتيجة وولادة طبيعية لأجواء السلم الاجتماعي، فيكون دوره مكملاً، أو بالأحرى يكون سوراً وحصناً ويخلق الأجواء لتشييد الحصن المنيع يحفظه من عبث العابثين، وكيد الطامعين والأشرار. وهنا تكمن مسؤولية الدولة والنظام الحاكم. لذا نجد الإمام الراحل يحمّل المسؤولين في الدولة مهمة "الاستيعاب"، لتحقيق السلم الاجتماعي، وبالنتيجة تحقيق أقصى حالات الأمن والاستقرار للبلد، انه يفكر في أن يكون "منهج الحكم جذاباً إلى أبعد حد، حتى يفكر كل فرد في أنه يستطيع أن يعيش في ظل هذا الحكم في رفاه وسعة وحرية وكرامة واطمئنان".

ويحذر سماحته من مغبة سلوك غير هذا النهج، لأن النتيجة ستكون القطيعة بين أهل الحكم والشعب، ثم التنافر والتقاطع، واخيراً الانهيار، لأن "أي حكم لا تحمله القلوب لابد وأن يتهاوى بسرعة.. والمنهج الذي نريد بإذن الله تعالى إقامته هو منهج يتمكن أن يستوعب كل المسلمين في كل بلادهم، ثم يستهوي غير المسلمين حتى يدخلوا تحت ظل هذا الحكم وهذا النظام".

ويذكرنا سماحته دائماً في محاضراته، فضلاً عن هذا الكتاب القيّم الذي صدر في أوائل الثمانينات، بالتجربة الرائدة والرائعة للرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في استيعاب المجتمع المكّي بعد الفتح الكبير وكسر شوكة المشركين في مكة الى الأبد. ويؤكد سماحته على أن رسالة السلام هي التي جمعت القلوب حول الإسلام، وليس السيف والرعب. فاضافة الى الاجراءات الاستيعابية العظيمة التي قام بها صلى الله عليه وآله، في اللحظات الاولى من فتح مكة، فانه تقدم خطوة حضارية أخرى، عندما وفّر السلم لمن بقي على الشرك، وينقل سماحته أن رسول الله صلى الله عليه وآله، لما فتح مكة جعل عليها حاكماً شاباً يسمى "عتّاب"، وقرر له راتباً متواضعاً ـ في كل يوم أربعة دراهم أي مثقالين من الفضة تقريباً ـ وقال له الرسول: "أحسن إلى محسنهم وتجاوز عن مسيئهم". ويكفي أن نلمس عظمة هذا النهج الانساني والحضاري، أن نتصور حجم الأذى والضغوطات التي تعرض لها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، على يد المشركين، فقد أوغلوا في الدماء والتجاوزات والتعديات، وأبرز جرائمهم استشهاد عمّه حمزة، وعدد كبير من الأصحاب، وتهديم دورهم ومصادرة ممتلكاتهم بعد الهجرة الى المدينة. ويشير سماحته الى حقيقة تاريخية مثيرة؛ وهي العدد القليل من أهل مكة من أسلم لدى دخول النبي مكة، وكان في المقدمة أعيان قريش ورموز الشرك، بغية الحفاظ على ارواحهم وممتلكاتهم، فيما بقي السكان العاديين، وربما يكونوا بالآلاف، بقوا لفترة من الزمن على عبادة الأصنام.

وهكذا نشر النبي صلى الله عليه وآله، رسالة السلم والأمان والاستقرار في ربوع مكّة، لتصل أصدائها الى سائر الجزيرة العربية، ثم الى العالم بأسره. فالجيش والشرطة لا توجه اسلحتها واستخباراتها الى السكان، مهما كانت انتماءاتهم وتوجهاتهم، وإنما الى الاعداء، فاذا كان الشعب مستهدفاً بإجراءات أمنية ذات صبغة قمعية، كيف سيكون مهيئاً ومستعداً لمعاضدة ومؤازرة الحكم على تحدي المؤامرات الخارجية. بل نرى العكس من ذلك في بلادنا، فالتمنّي والترجّي نحو القادم من الدول الاجنبية، على أنه هو الأمل للخلاص من الأزمات والمنغّصات والمحن التي يواجهونها من لدن حكامهم المهزوزين.

بيد أن النبي صلى الله عليه وآله: طرح عدة آليات عملية بسيطة لا تعقيد فيها لتحقيق السلم والاستقرار الاجتماعي وحتى  السياسي، منها اتخاذه الآية الكريمة، شعاراً كبيراً وعالياً: "عفا الله عمّا سلف"، وايضاً القاعدة التي أرساها في الشريعة والأحكام الاسلامية: "الإسلام يجبّ ما قبله". بمعنى أنه صلى الله عليه وآله، لم يفتح أبواب المحاكم التي يدّعي اليوم بعض دعاة الدين أنهم يقيمونها (شرعية)، ويستبيحون الأعراض والدماء، ولم يفتح طريق الانتقام والقصاص، وقصته معروفة مع أولئك النفر القليل مهدوري الدم من قبله، عندما وصل مكّة، فقد قبل الوساطات بالعفو عنهم، ولم يقتل ولا واحد منهم.

وهنالك فقرة أخرى أرى لزاماً تسليط الضوء عليها ونحن نعيش أجواء الرعب والارهاب واستباحة الدم العراقي بكل سهولة. ففي هذا الكتاب ينبه سماحة الإمام الشيرازي الى مسألة اجتماعية أخرى ، وهي اغتصاب الاملاك. فقد توقع سماحته حصول المشادات والمطالبات العنيدة بالأملاك في العراق، بعد التهجير الظالم الذي ارتكبه النظام الصدامي بحق العوائل العراقية التي ضمّت افراد في صفوف المعارضة. ثم قام ذلك النظام ببيع الدور وحتى الأثاث بالمزاد العلني..! وبعد سقوط النظام الصدامي، كان ما يسمّى بـ "دور المسفرين"، أكبر شاغل وهمّ أمام العراقيين على صعيد السكن. وقد حصلت حالات انتقام و إراقة دماء في غير مدينة في الوسط والجنوب. وما فعلته الحكومة، أنها تحولت الى وسيط بين صاحب الدار الأصلى وبين مشترى الدار المغصوبة، لإرضاء الطرفين.. لكن لنلاحظ متابعة سماحة الإمام الراحل هذه المسألة الحساسة في ضوء النهج النبوي، ويقول: "لما فتح الرسول صلى الله عليه وآله مكة قيل: يا رسول الله.. ألا تنزل في بيتك..؟ فقال: "وهل لنا بيت..؟! بمعنى أن الرسول أعرض حتى عن بيته الذي صادره الكفار قبل وصوله إلى مكة. إنه لاحظ أن الكافر الذي صادر بيته صلى الله عليه وآله، لا بد من أنه أسكن أناساً في هذا البيت- إيجاراً أو قرابة أو ما أشبه ـ فإذا استرجع صلى الله عليه وآله، هذا البيت فمعناه أنه يخرج هؤلاء الذين سكنوا هذه الدار، فلم يرد الرسول ـ وهو صاحب الحق ـ ذلك حتى لا يقول البعض: إن الرسول لما سيطر على مكة كنا ساكنين في هذا البيت، فأخرجنا من مسكننا ومأوانا".

ويذكرنا سماحته بموقف مماثل على النهج الرسالي النبوي، عندما وصل أمير المؤمنين عليه السلام، الى  الحكم بمبايعة المسلمين، فإنه لم يسترجع "فدك" التي كانت ملكاً شخصياً له ولأولاده بالإرث من فاطمة الزهراء، عليها السلام، ـ مع أن فدكاً في ذلك اليوم كانت تحت قدرة الإمام عليه الصلاة والسلام، وقيل له في ذلك بأن يسترجع فدك، فأجاب بأنه لا حاجة له في فدك وغيرها، في قصة مذكورة في نهج البلاغة". وغاية الإمام عليه السلام، من غضّ الطرف عن فدك، كما يوضح ذلك الإمام الشيرازي، أنه لو "استرجع فدكاً فلا بد وأن الذين كانوا ينتفعون بها ـ في زمان عثمان ـ سيحرمون من الانتفاع بها في عهده، فيقولون: لو لم يكن علياً لكان أحسن لنا.."!

هنا لنتوقف مليّاً ونتأمل التجربة الراهنة.. ثم لنلاحظ حجم الإدعاء بقراءة ومعرفة نهج النبي الأكرم وأمير المؤمنين صلوات الله عليهم، لكن العبرة في النتائج، فأين التطبيق على ارض الواقع..؟ وهذا ما لاحظه سماحته من أن "كثيراً من الجمعيات والحكومات والأحزاب ترفع شعارات لكن وراء تلك الشعارات أشياء أخرى، مناقضة لتلك الشعارات..."

ففي بدايات التغيير الكبير في العراق، كان الجميع يردد: "لا للطائفية"، و "التلاحم الوطني"، وغيرها من الشعارات، لكن على أرض الواقع، كانت علمية التمزيق الاجتماعي تقام بشكل منظم في مختلف أنحاء العراق، وإن ليس على يد العراقيين، إنما على يد الامريكيين، وما يزال العراقيون يتذكرون حالات عديدة لاختراق عناصر عسكرية ومخابراتية امريكية للمجتمع العراقي، وفصل السنّي عن الشيعي في المناطق ذات التعايش السلمي، أو محاصرة مناطق شيعية، أو أخرى سنية، بدعوى عدم حصول اشتباكات بين الجانبين. والأخطر من ذلك إرساء دعائم "المحاصصة السياسية" المقيتة والسيئة الصيت، يكفي أن نعرف أن وزارة الداخلية للشيعة، ووزارة الدفاع للسنّة، وعلينا أن ننتظر تحقيق السلم والاجتماعي، أو نجاح خطة أمنية في العراق..!!

ما أحوجنا اليوم في الفكر السديد والمضيء للإمام الراحل – قدس سره- وهو يكتب لنا منذ حوالي ثلاث عقود، الشروط العملية والصحيحة لخلق السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي لنظام الحكم في العراق، فالقضية ليست مجرد تنظير، إنما حقائق على الأرض يأخذها الإمام الراحل بعين الاعتبار، وهو بعيد عن الوطن، فينصح الحاكمين الإسلاميين (الحركة الاسلامية)، من أن الناس لو عرفوا أن شعارهم "عفا الله عما سلف"، "وإنهم لو وصلوا إلى الحكم لا يتخذوا من أسلوب الانتقام والتشفي منهجاً لها، فإنهم يلتفون حول هذه الحركة من ناحية، ومن ناحية ثانية لا يخاف الذين كانوا في الحكم السابق على أنفسهم حتى يضعوا العصي في عجلة الحركة لكي لا تتقدم، وإنما يفكرون في أن الحركة إذا انتصرت لا تنهب أموالهم ولا تصادر أراضيهم وثرواتهم ولا تزجّهم في السجن والتعذيب، ولا تقابلهم بالإساءة، ولا تعدم من يستحق الإعدام منهم، ولذا فهم يتحولون تدريجياً إلى أنصار للحركة وأنصار للحكم الإسلامي".

ولا أجانب الحقيقة اذا قلت: أن الفرصة ما زالت قائمة أمام المعنيين بأمر السلم والأمن في العراق، بأن يوجهوا خطاباً جديداً الى جميع العراقيين دون استثناء، بأنهم آمنون في مناطقهم ومساكنهم، إلا من اقترف ذنباً يعاقب عليه القانون، وأول نتيجة تتمخض من هذا النهج الجديد، الثقة الكبيرة التي تثلج صدور جميع العراقيين على اختلاف انتماءاتهم ومذاهبهم. وهو ما يحتاجه كل نظام حكم، لاسيما نظام الحكم القائم في العراق الذي يحمل الشعارات الإسلامية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 13/آب/2013 - 5/شوال/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م