جوهرة الإمام علي (عليه السلام) وسر عظمته

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

(يا أيها الذين آمنوا! من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم: يحبهم ويحبونه، أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم، ذلك: فضل الله يؤتيه من يشاء، والله واسع عليم* إنما وليكم: الله، ورسوله، والذين آمنوا: الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون* ومن يتولّ: الله، ورسوله، والذين آمنوا، فإن حزب الله هم الغالبون*).

[ سورة المائدة: 54ـ 56]

 

ـ 1 ـ

هذه.. آيات أحكمت كما تحكم الجلاميد، ثم فصّلت كما تفصل الجبال: تحسبها متبعثرة متباعدة، وهي متماسكة متواصلة، تشد كرة الأرض، وتطمئنها أن تميد بأهلها.

فـ (يا أيها الذين آمنوا)، وتسربلوا بالإيمان فكراً وقولاً وعملاً! ليس هذا الإيمان كل ما هو مطلوب منكم، ولستم الفائرين الناجين لمجرد أنكم آمنتم بضمائركم وألسنتكم وجوارحكم. لأنكم – وكل المؤمنين السابقين واللاحقين – معرّضون لتجارب تنفض وتعتصر، لتتبلور الحقائق، وتنقشع الزيوف: فمن عركته التجارب فلم يتراجع، فهو المؤمن الحق، الذي يتعامل مع الحياة من مظلة المؤمنين.

و(من يرتد منكم عن دينه)، لبارقة خوف أو بارقة أمل، فليطمئن إلى أنه لا يطبع أي أثر سلبي على ظاهرة الأمة، ولا يترك أي فراغ في الهيكلية الإيمانية، وإنما يستقيل من نفسه ليملأ موقعه مؤمن، لا يتراخى للآمال ولا يهتز للآلام. بل إن ارتداده إلى الخطوط الخلفية، يزوّد المؤمنين بزخم إضافي، يدفعهم إلى الخطوط الأمامية، لا ليملؤوا فراغه فحسب، وإنما ليغسلوا عاره، ويفكروا عن تواجد مثله بينهم:

(فسوف يأتي ا لله بقوم) من نوع يخترق الخوف والطمع، فلا تثبطه مخاوف الدنيا ومغرياتها، عن الاستمرار في الخط الجهادي:

 (يحبهم) الله، لتجردهم له.

(ويحبونه) الحب الكامل الصحيح، الذي يعلو على كل حب.

وهؤلاء.. حيث يخلصون لله، لا يستنكفون عن: مسح كآبة مكروب، وهدهدة دمعة يتيم، ولا عن أي عمل إنساني في المجتمع الإسلامي... حتى تراهم كـ:

(أذلة على المؤمنين). ولنفس السبب، وبذات المقدار، يتصلبون خارج المجتمع الإسلامي، حتى تراهم أقوى:

(أعزة على الكافرين):

فـ (يجاهدون في سبيل الله) بلا هوادة. (ولا يخافون) في ذات الله (لومة لائم)، ولا عتاب عاتب، إنما ينفذون أوامر الله مهما كانت النتائج.

وهذه المواصفات الفريدة، التي يحظى بها بعض المؤمنين، ليست مكتسبة بجهودهم بمقدار ما هي موهوبة من الله لهم بمقتضى استعدادهم لقبولها.

(ذلك فضل الله يؤتيه) بلا مقابل، ولكنه لا يؤتيه من لا يتحملها ويرفضها، وإنما يؤتيه (من يشاء) هو – بمقتضى استعداده – هذا الفضل من الله.

(و) كما أن الله آتى هذه المواصفات، لأولئك المؤمنين، هكذا.. يؤتي مثلها كل من توفر فيه الاستعداد، لأن (الله واسع) لا يضيق بأحد، ولكنه – في الوقت نفسه – (عليم*) بدرجات الاستعداد: فلا يضع شيئا في غير محله، ولا يؤتي أحداً أكثر من طاقته.

وهذا النمط المتفوق من المؤمنين، هو الذي يتحمل الولاية على المؤمنين. لأنها ولاية أورثها الله رسوله، فلا يورثها – بعد رسوله – غير النمط الأفضل من المؤمنين:

(إنما وليكم: الله) ولاية ذاتية، (ورسوله) بتخويل مباشر من الله، (والذين آمنوا). ولكن لا كل المؤمنين، وإنما النمط الأفضل.

وإذا كان لا بد من علامة مشخصة تحصر الولاية في شخص معين بعد الرسول، فالعلامة: أنه لا يفوته شيء من الخير، وكمثال لذلك: أنه (الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون*).

ولعل التعبير بـ: (الذين) عن الواحد، لبيان النوعية المنحصرة في فرد. كالتعبير بـ:(الأمة) عن الواحد، في قوله تعالى:

(إن إبراهيم كان أمة....)(28).

وبعد تصنيف المؤمنين إلى نوعين: نوع عادي ونوع مفضل، وبعد حصر الولاية في الله ورسوله ومؤمن واحد من النوع المفضل، يأتي دور تصنيف المتظاهرين بالإيمان إلى حزب الله وحزب الشيطان.

فالذين يتولون أصحاب الولاية، هم حزب الله:( ومن يتول: الله، ورسوله، والذين آمنوا) المذكورين أعلاه، وينحصرون – بمقتضى الآية السابقة – في فرد أعطى الزكاة وهو راكع، (.. فـ...) أولئك حزب الله، و(إن حزب الله هم الغالبون*).

ولا داعي لبيان حزب الشيطان، فكل من عدا حزب الله يكون حزب الشيطان.

ويلاحظ التسلسل في الآيات والتوالد بين الأفكار التي تتابعت فيها، بأسلوب عفوي يدع كل مقولة ثابتة، لا تبحث عن دليل.

 

ـ 2 ـ

هذه الآيات، تعرض للقيادة البشرية العليا العامة، فتفيد:

1ـ القيادة العليا العامة على البشرية جمعاء، أولاً وبالذات، هي لله سبحانه وتعالى. لأنه خلقهم، ويرزقهم، ويحييهم ويميتهم... فهو أولى بهم من غيرهم، وله أن يقودهم: فيأمرهم وينهاهم، كما تقتضي حكمته العليا.

2ـ القيادة تلك – ثانياً وبالعرض، وبتخويل من الله – للرسول، لأن الله – تعالى – ائتمنه على خلقه، فقال:

(النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم...)(29) ثم وجهه بوحيه، لئلا يتخطى حكمته العليا. وتخصيص الخطاب بالمؤمنين، لم يكن لأن النبي ليس أولى بغير المؤمنين من أنفسهم، وإنما لأن المؤمنين هم الذين يلتزمون بنداء القرآن فعليهم أن يضعوا أنفسهم تحت تصرف النبي، فكأنما الآية تقول: (أيها المؤمنون! ضعوا أنفسكم تحت تصرف الرسول)، بدليل أن النبي كان يتصرف في غير المؤمنين، متى ما اقتضت مصلحة السماء.

3ـ القيادة تلك ـ ثالثاً وبالنيابة عن الرسول – لرجل من المؤمنين، يقيم الصلاة ويتصدق وهو راكع.

فهذه الآية، جعلت علامة الشخص الذي يتولى قيادة البشر بعد الرسول، إعطاء خاتم واحد في حالة الركوع.

فالتصدق بخاتم واحد حالة الركوع، أصبح العلامة الكبرى للقائد الأعلى للبشر جميعاً.

وعلائم الأمور الكبيرة – عادة – تكون أشياء كبيرة، فكيف أصبح التصدق بخاتم واحد – مهما كان ثمنه فهو محدود – علامة لمثل هذا الأمر الواسع العظيم؟

والجواب يحتاج إلى تمهيد مقدمة، هي:

أن الأشياء المادية – مهما كانت ضخمة هائلة – لا قيمة لها عند الله: فهذه الكرة الطائرة المشرقة، التي نسميها: (الشمس). وتلك الجزيرة المعلقة، التي نسميها: (القمر). والملايين من أمثالها، والحياة الكونية العامة؟ كلها لا قيمة لها عند الله، لأنها – جميعاً – وجدت بإرادة بسيطة من الله، والله يستطيع محوها وإنشاء أكوان ثانية بإرادة بسيطة ثانية. والذي يوجد بإرادة ويفنى بإرادة، لا قيمة لها عند صاحب الإرادة تلك، مهما كانت عظيمة وجليلة عندنا.

فالعظم عندنا، ليس دليل العظم عند الله. لأن مقاييسنا تختلف عن المقاييس عند الله.

كمثال: أن الدمية البسيطة موضع اهتمام كبير عند الطفل، يفرح إذا نالها ويبكي إذا انتزعت منه، بينما هي ليست موضع اهتمام أبيه. وإنما هو موضع اهتمام أبيه. بمقدار ما الدمية موضع اهتمامه، فيفرح إذا رزقه ويبكي إذا افتقده.

والمواد الكونية محترمة وكريمة عند الإنسان، وليست محترمة وكريمة عند الله، وإنما الإنسان هو محترم وكريم عند الله، بفارق: أن الإنسان يحتاج إلى الكون وليس بإرادته، والله لا يحتاج إلى الإنسان وهو بإرادته. والإنسان ليس – بذاته – محترماً عند الله، وإنما هو – بمقدار اتجاهه إلى الله – محترم. وإذا جرد من الاتجاه إلى الله، لا يختلف عن سائر المواد الكونية، في عدم كونه محترماً عند الله.

فجوهر احترام الإنسان عند الله، اتجاهه إلى الله، وإخلاصه لله. وهو يحدد – بكمه وكيفه – قيمة الإنسان، فقيمة الإنسان، بمقدار إخلاصه، وكيفية إخلاصه لله.

إذن: فالألوف والملايين لا قيمة لها عند الله، والتصدق بالألوف والملايين – أيضاً – لا قيمة له عند الله، وتصدق الإنسان بكرة الأرض – تحول جوهرة – لا احترام له عند الله. وحتى لو أنفق الإنسان كل ما يملك، وأنفق حتى نفسه، فلا قيمة لهذا الإنفاق إلا بمقدار ما فيه من الإخلاص لله.

وقصة: (شهيد الحمار) – كحلقة في مسلسل تاريخي – تحمل دلالة صارخة على واقع الأمر، وإن كان يعتبر – مسرحياً – من الشهداء في جبهة القتال ضد أعداء الله، لعدم إخلاصه لله في إنفاق نفسه.

وإذا كان الإخلاص لله – كماً وكيفاً – هو القيمة الأساس عند الله، يحسب لها حسابها ولا ينظر في مظهرها: فإذا كان التصدق بخاتم بسيط مظهراً لإخلاص عظيم، كان هذا التصدق عظيماً إلى درجة عظيمة، يصبح بها علامة القائد الأعلى للبشر أجمع، ويسبب نزول آيات تقرأ آناء الليل وأطراف النهار مدى الدهر لتخليد ذكراه. وإذا كان التصدق بستين خاتماً(30) فارغاً عن الإخلاص لله، ومندفعاً بدافع حب السلطة والظهور، فإنه يصبح خسراناً يسبب نزول آيات:

(فلا صدق، ولا صلى* ولكن: كذب، وتولى* ثم: ذهب إلى أهله يتمطى. * أولى لك فأولى * ثم: أولى لك فأولى.*)(31).

وإذا كان التصدق بثلاثة صيعان من الشعير، مظهراً لإخلاص أهل بيت، يصبح سبباً لنزول سورة: (الدهر)(32). وإذا كان التصدق بألوف الأطنان من البر، مظهراً للأنانية وحب الاستعلاء، يصبح خسراناً فادحاً لا يلافى.

ففي الحقيقة: لم يكن التصدق بالخاتم رمز القائد الكوني الأعلى، وإنما رمزه ذلك الإخلاص العظيم الذي تقولب بقالب التصدق بخاتم بسيط.

وذلك الإخلاص العظيم، إذا تشكل بأي مظهر، يغدو ذلك المظهر. وتشكل – في يوم من الأيام – بضربة سيف، فقال النبي الأكرم : (ضربة علي يوم الخندق، أفضل من عبادة الثقلين)(33)، وقال الإمام الصادق: (ونحن من الثقلين). لا لأن أحداً من البشر لم يضرب بسيف، وإنما لأن الإخلاص الذي تشكل بتلك الضربة يرجح على إخلاص الثقلين، بما فيهم الأئمة الأحد عشر (ع)، إن صح ذلك الحديث.

فالقيمة – كلها – كانت لإخلاص الإمام، الذي جعل لكل فتكة سيف، ونبضة فكر، ومدة يد...، قيمة لا تعادل.

لأن إخلاص الإمام، لم يوجد نظيره عند غيره.

ولذلك: عندما سئل أحد أصحابه، عن أهم شيء رآه في الإمام، وهو قد رأى الإمام: في ميادين القتال، وعلى منابر البلاغة، وفي رحاب المحاريب....، قال: (وجدت الله عظيماً في صدره)(34).

هذه... هي جوهرة الإمام، وسر عظمته، وسر عظمة كل ما صدر منه.

* من كتاب خواطري عن القرآن

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 29/تموز/2013 - 20/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م