شهر الصوم... فرصة للبناء والتنمية

 

شبكة النبأ: شهر رمضان المبارك، يوفر أجواء خاصة للانسان – الفرد، لأن يجري عملية مراجعة ذاتية لحساباته فيما بينه وبين نفسه، وما بينه وبين الآخرين، والأهم من ذلك كله، ما بينه وبين الله تعالى، من خلال فريضة الصوم، التي يعبر عنها البعض أنها "عبادة صامة". بمعنى أنه يمثل فرصة للبناء الذاتي، من خلال اكتساب ملكات التقوى الورع والاخلاص والاخلاق الحميدة. هذه الفرصة، من شأنها ان تكون خطوة جيدة للبناء الحضاري العام، حيث يكون بمقدور الانسان ان يكون ذو شأن في عملية التنمية والتغيير والإصلاح على الصعيد الاجتماعي. فربما تكون للانسان فرص وامكانيات عديدة في سائر أيام السنة، للإصلاح والبناء الانساني، لكنه يفتقد للقدر الكافي من ضمانات النجاح، لانه سيتعامل مع القضايا والامور بصورة ميكانيكية وروتينية، فهو يوجّه وينظّر ويطالب، فيما الناس يطالبونه بأشياء اخرى في نفسه، قبل مشروعه ومبادرته، وهو غير قادر على تلبيتها، او انه لا يجد الحاجة الى ذلك. لذا نشهد تعثر وتوقف الكثير من المشاريع والمبادرات في طريق التوعية والتثقيف والبناء الاجتماعي والحضاري.

أما شهر رمضان المبارك؛ شهر الصوم، فانه يؤسس بنية تحتية لمشروع تنموي متكامل من شأنه ان ينهض بالمجتمع من حالة الجمود واللاوعي واللامسؤولية، الى حيث اليقظة والتقدم والابداع، وذلك من خلال تكريس مفاهيم من قبيل التعاون والتكافل والتواصي والإحسان. كل هذه وغيرها، تجد طريقها في المجتمع من خلال موائد شهر رمضان المبارك، ومن خلال طريقة التعامل والسلوك التي يستظلها هذا الشهر الفضيل.

الاعتراف بالخطأ

الاعتراف بالذنب والمعصية في جوف الليل، وبين يدي الله تعالى، من خلال الأدعية المأثورة، خطوة متقدمة وشجاعة للاعتراف بالخطأ بحق الناس، وجاء في الحديث الشريف: "من أصلح ما بينه وبين نفسه، أصلح ما بنيه وبين الناس".. فالبناء الاجتماعي، كما البناء المعماري، اذا دخلت فيه طابوقة مغشوشة او غير صالحة، تكون سبباً وعاملاً في زعزعة البناء، وكلما كثرت العناصر المغشوشة، كلما زاد من احتمال السقوط والانهيار. لذا فان المصداقية الذاتية، تنعكس فوراً على الواقع الخارجي، فالناس بشكل عام، بحاجة دائماً الى المصداقية العملية، لا فقط النظريات والدعوات الفارغة.. وإلا فان الجميع يعرفون الصح من الخطأ، ويميزون بين القيم والمبادئ، وبين السفاسف والانحرافات، لكن القضية في كيفية الاستفادة من هذا الفهم والادراك والتمييز لما فيه خير وسعادة الجميع.

أما من يجد أنه بعيد عن الخطأ والزلل، وانه الاكمل والأحسن، فهذا لن يجد نصيباً في المجتمع، مهما فعل واراد، لان ببساطة لن يكون الآخرون مستعدون لأن يخطأوا انفسهم ويقروا بعصمة شخص ما مثلهم، من ثمّ على هكذا شخص، أن يلغي من ذهنه فكرة التأثير على الآخرين والبناء والتنمية الانسانية.

الإيمان الخارق للحواجز

الإيمان الحقيقي والعميق بالله تعالى، من الامور الأساس في مسيرة البناء والتنمية، فاذا عرف الانسان وأدرك حقيقة وجوده في هذه الحياة، وحقيقة علاقته بالله تعالى، فانه يضمن الحد الاعلى من عدم الانحراف والزيغ. وهذا بحاجة الى وسائل لتكريس حالة الإيمان في النفس. ربما يتحدث البعض عن الثقافة والوعي، فان حمل الانسان أحدهما أو كلاهما، يكون قادراً على التأثير والبناء، بينما المعروف أن الإيمان الحقيقي الذي يخترق حجب النفس، من أهواء وملذات، لن يكون إلا بالتوكل على الله وحده، والتذكّر دائماً أن كل شيء لا يتم إلا بإذن الله تعالى وبحوله وقدرته، يبقى الانسان عنصراً في معادلة الأسباب في هذه الحياة. بينما لحظة غفلة عن وجود الراعي الحقيقي للكون والحياة ومجرياتها، كافية لأن تسبب للانسان الخسارة في الدنيا قبل الآخرة، فهو في الحياة لن يكسب الكثير، وربما يخسره ما يجنيه ويحققه، لأنه ليس على الطريق الصحيح، فيما تكون الخسارة الأخروية أكبر وأعظم.

وإذن؛ يعد شهر رمضان المبارك فرصة للجد والاجتهاد للتزكية والتهذيب النفسي والذاتي، كما يحرص الانسان دائماً على اكتساب العلوم والمعارف والثقافات خلال ايام السنة.. ولا بأس في هذا المجال ان ننقل للقارئ الكريم بعضاً من الاحاديث والروايات عن المعصومين، عليهم السلام، حول تزكية النفس، والجد والاجتهاد. فقد روي في هذا الصدد ان قيس بن عاصم قال: وفدت مع جماعة من بني تميم الى النبي، صلى الله عليه وآله، فدخلت وعنده الصلصال بن الدلهمس فقال: يا نبي الله عظنا موعظة ننتفع بها فانّا قوم نعمر في البرية. فقال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: " يا قيس ان مع العزّ ذلاً، وان مع الحياة موتاً، وان مع الدنيا آخرة، وان لكل شئ حسيباً، وعلى كل شئ رقيباً، وان لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، ولكل أجل كتاباً..". كلمات الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله وسلم، واضحة. فالدنيا هي تركيبة من الحقائق؛ فبعد الحياة موت، وبعد العز ذل، والعمل وراءه حساب، فنحن لا نستطيع ان ننكر هذه الحقائق. فالاولى بنا - إذن - ان نركب انفسنا وعقولنا على مقياس الحقائق الكونية، فاذا كان النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، يذكرنا بوجود هذه الحقائق، لن يصحّ أن ننكرها نحن او نتهرب منها..؟!

وهكذا؛ ينبغي على الانسان أن يكون أمله بالله كبير، لا بالحياة وتفاصيلها ومتطلباتها.. وقد بلغ بالبعض الانجراف في خضم مجريات الحياة، أن البحث عن العيش الأفضل والكسب الأكبر والصحة والسلامة، أرقى ما يبلغه الانسان في حياته، وهذا بمعنى أن يكون الانسان منطوياً على ذاته، ولن يتمكن من التأثير لا على نفسه ولا على الآخرين. وربما تكون القضية معاكسة، بمعنى أنه قد يلحق الضرر بالناس جراء تمحوره على ذاته والإيمان بقدراته وامكاناته هو لا غيره.

التخصص في البناء

في الغرب؛ نجد هنالك تخصصات في أمور دقيقة، كأن يكون البواب على مداخل الفنادق الذي يستقبل الزائرين، او بائع الكتب والمجلات، وحتى عمال التنظيف، بينما نجد أننا بصدد أمور كبيرة وعظيمة، مثل التربية والبناء، ولا نجد التخصص في أمور مثل الحياة الزوجية، وتربية الطفل، والمسائل الأسرية المختلفة، إلا ما ندر.. نعم هنالك تخصصات في التعليم والصحة وغيرها. لكن حتى هذه التخصصات نجد أن الكثير من اصحابها يعمل في غير مجاله وتخصصه، بسبب قلّة الكادر او كثرة الحاجة اليهم.

وفي ليالي شهر رمضان، نجد هنالك التخصص في تلاوة القرآن الكريم، والتبليغ والوعظ الديني، ولا نجد المتخصصين في أمور الشباب والزواج وعلم النفس، لدراسة المشاكل الموجودة، - وما أكثرها- والعمل على معالجتها وحلها، وهي أمور ترتبط مباشرة بفريضة الصوم، عندما يتطلب الأمر ان يكون الصوم مستوفياً الشروط كافة، ويكون مصداقاً للحديث الشريف: "من صام صامت جوارحه". بمعنى يتجسد الصوم لدينا بكل معانيه، من "الورع عن محارم الله"، والتكافل الاجتماعي والتعاون مع الآخرين، والسعي للتطوير والابداع بكل ثقة واعتداد.

وإذن؛ يمكن ان يكون شهر ر مضان فرصة طيبة وثمينة للتنمية البشرية، من خلال تكثيف الجهود الذاتية والاجتماعية، مستفيدين من أجواء هذا الشهر الفضيل، وما يضفيه علينا من نفحات معنوية، نحقق من خلاله نتائج كبيرة في بناء الفرد المجتمع.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 16/تموز/2013 - 7/رمضان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م