إنسداد العقل الأمريكي

سجال مستمر

حاتم حميد محسن

كتاب (إنسداد العقل الامريكي) للبروفيسور Allan Bloom- 1930-1992 استاذ الفلسفة والعلوم السياسية في جامعة شيكاغو الصادر عام 1988 كان ولايزال له اصداءً واسعة في الاوساط الاكاديمية والثقافية الغربية.

كان بلوم قد هاجم بشدة النظام التعليمي الامريكي كونه تسبب في ايقاع الضرر بالديمقراطية وإفقار الروح التعليمية لدى الطلاب، هو اعتبر من المفارقة ان الانفتاح المفرط والنسبية في تعليم الحقائق قادا الى إضعاف التفكير النقدي وإعاقة وجهات النظر المعرّفة للثقافات مما ادى بالتالي الى إغلاق او انسداد العقل الامريكي.

كذلك انتقد بلوم في كتابه الحركات الحديثة في الفلسفة والانسانيات. حيث رأى ان انصراف اساتذة الفلسفة الى تحليلات اللغة العادية والى الوضعية المنطقية أضعف من أهمية أنسنة القضايا الاخلاقية والسياسية وأخفق في شحذ اهتمامات الطلبة. وفي مجال الادب وجد بلوم ان إنشغال اساتذة الادب في التفكيك قاد الى تكريس اللاعقلانية والشك في معايير الحقيقة وبالتالي ادى الى انحلال الضرورات الاخلاقية التي يتم إبلاغها عبر فلسفة حقيقية يمكنها المساهمة في صقل وتوسيع عقول المعنيين بتلك الضرورات.

لقد ذهب بلوم في نقده الى ماوراء التعليم الجامعي ليتناول الأزمات العامة في المجتمع الامريكي، فهو رسم مقارنة بين الولايات المتحدة وجمهورية ويمر الالمانية. الفلسفة الليبرالية الحديثة، حسب قوله، تجسدت في افكار التنوير لجون لوك ذلك ان فكرة المجتمع العادل الذي بإمكانه الارتكاز على المصلحة الذاتية لوحدها، وما رافق ذلك من ظهور للنسبية في التفكير الامريكي هو الذي قاد الى هذه الكوارث.

 الكاتبان ستراوس وبلوم وجدا في الفلسفة اليونانية القديمة وخاصة في جمهورية افلاطون شيئا ما لم يلاحظه الا نفر قليل وهو التهكم irony. واذا كان كارل بوبر قد هاجم بحماس في كتابه "المجتمع المنفتح واعداؤه" رؤية افلاطون للمجتمع الخاضع لحكم الملوك الفلاسفة كصورة مرعبة للكذب والاضطهاد، فان ستراوس وبلوم قرئا بالكامل ذلك الجزء الشهير من الجمهورية الذي يُطلق عليه بـ "المدينة العادلة في خطاب"the just city in speech، واعتبراه كما لو انه كُتب بشيء من الايحاء والغمز. ماقصده افلاطون في الواقع، حسب قولهما، ليس لكي يقدم مخططاً لمجتمع حقيقي يحكمه الفلاسفة. بل ان ما قصده هو تقديم نوع من الممارسة الفكرية للشباب المتعلمين الجالسين حول سقراط، كي يدفعهم لينظروا في المقترحات الطوباوية الحرة التي كان يؤمن بها استاذهم.

هذا الاختلاف، ستنطلق منه وجهات نظر كبيرة وواسعة. يرى بوبر ان افلاطون كان مجنونا بالسلطة: فهو حينما ترك التعليم المهذب لسيده سقراط، يكون قد ابتعد عن ليبرالية اثينا الديمقراطية. يرى بوبر ان العودة لهذه الليبرالية هي وحدها من يضمن السلام والتقدم للمجتمع المنفتح ولمؤسساته الديمقراطية.

ونظراً لمجاورة هذه الفكرة للتاريخية historicism ذلك جعل بوبر يكرهها بشدة كونه رأى صعوبة انسجام هذه الرؤية مع ادعاءات الفيلسوف بان التاريخ لا يحكم ابداً وفق نماذج معروفة سلفاً وليس له اي نهاية مقررة، لأن الاعتقاد بهذه الرؤية سيكون دعماً فلسفياً للتوتاليتارية. بمعنى اخر، ان بوبر رفض التاريخية لأن التاريخية رفضت امكانية التغيير.

اما ستراوس فهو ولد من عائلة ارثودكسية بروسية، وله ازدراء مماثل للتاريخية، لكنه لم يؤمن كما فعل بوبر في المزايا الحتمية للتقدم. اذا كان احدهما قرأ افلاطون واعتبره دعوة للاصلاح السياسي، فان الآخر انحرف بعيداً عن نفس الخطاب وبشعور شديد التحفظ. وفي تلخيص آخر لأفكار ستراوس نجد في كتاب (Xenophon’s Hiero) يؤكد المؤرخ (مارك ليلا) تماما جوهر الفكرة. هو يذكر ان ستراوس كتب قائلاً " ان الفلسفة يجب ان تكون دائما على وعي بأخطار الاستبداد، لأن الاخير يشكل تهديداً لكل من الاخلاقية السياسية وللحياة الفلسفية. انها يجب ان تدرك ما يكفي حول السياسة كي تدافع عن استقلاليتها دون الوقوع في وهم القدرة على تشكيل العالم السياسي طبقا لتصوراتها الخاصة".

اذاً ماذا سيعمل الفيلسوف السياسي عندما ينظر الى دوره الاساسي كحارس؟ استاذ الفلسفة في جامعة برنستن Alexander Nehamas، يرى في نقده الشديد (لإنغلاق العقل الامريكي)، ان حل بلوم احتوى القليل ولكن مع الكثير من الانحناء للسلطة. هو كتب ان "بلوم" يصف الفلاسفة الكلاسيك الكبار بالارستقراطيين لسببين. الاول لأنهم اعتقدوا ان العقل الذي كرس الفلاسفة انفسهم له هو وحده يجب ان يحكم، وثانيا بما ان الفلاسفة ادركوا انهم لن يحكموا، هم عملوا ائتلافاً مع الاثرياء، لأن "مثل هؤلاء الرجال يُحتمل جداً ان يفهموا شرف الفلسفة كغاية بذاتها، ان لم يستوعبوها. وبعبارة اخرى، هم لديهم النقود والوقت اللازمين لدراسة الفلسفة والاهتمام بها بجد".

هذه المقتطفات، المأخوذة من (انغلاق العقل الامريكي)، تجعل من الصعب الدفاع عن الاتهامات الموجهة الى بلوم بالنخبوية، ولا كذلك عن حبه لجماليات الحياة.

ربما البعض يتصور بلوم كطفل لعائلة برجوازية حاول جاهداً إخفاء حجمه المألوف بإدعاء مكانته – سلوكاً وفكراً- بين فلاسفة الارستقراط الخالدين. لكن ذلك سيكون حكماً غير عادل وسنخطئ تماما الرجل وعمله.

لم يكن بلوم مهتما ابداً ولا هو جزء من الطيف السياسي الفقير الذي يتنقل من الديمقراطية والمساواة الى الامبريالية والسيطرة. اعتقد بلوم بالمستوى العالي للحياة، كما تجسدت في بنايات جامعة شيكاغو، التي تبنّت بوضوح اهدافاً عليا. هو ادرك ان النص هو دائما معلّم، وان الرجل الحكيم هو دائما معاصر بصرف النظر عن الظروف التاريخية التي شكلت كل منهما. هو ادرك ان الناس المهتمين دائماً في الافكار سوف لن يتولوا ابداً مسؤولية مسار الاحداث الانسانية، ولذلك يقبلون بالمهمة الثانوية – مهمة تعليم الحكمة- مع انها لا تقل اهمية.

هذه المهمة، حسب التعريف، ليست لكل شخص، وكان بلوم يتحدث دائما بارتياح عن القلة وذوي الامكانية الذين يستمرون في التقدم بهدوء نحو حديقة الانسانية بينما بقية المخلوقات تنحدر نحو الاسفل ومع كثير من الفضاضة، ولهذا سمي نخبوي. ولكن ادراكه لمهمته الخاصة فيه القليل من الاقصائية. ان فكرة بلوم عن الثقافة تدور حول تبنّي التعليم ورفض التحيز. ما مطلوب هو التعامل الخلاق غير المعقد مع كل نص دون اي هياكل فكرية مسبقة، مطلوب التحقق فقط، كما فعل سقراط، ما اذا كان النص جيداً ام سيئاً، مفيداً ام ضاراً. عندما نفعل ذلك، وفقاً لبلوم، ستنهار الحدود.

هو لم يكن وحيداً في ايمانه هذا. بعد ما يقارب ساعة او اكثر من الحديث في إحدى صالات الاستراحة في جامعة هارفرد، متنقلاً بين التلميحات لليونانيين القدماء والنقد المعاصر بدأ حماسه بالاسترخاء. عاد الى الصالة مرة اخرى، عارضاً اقتباساً مطولاً من W.E.B. Du Bois. في مقالة له بعنوان (أرواح السود العاديين) قائلاً: "عبر الخط الملون تحركت جنباً الى جنب مع الكاتبين بلزاك ودوماس Balzac and Dumas، حيث الرجال المبتسمين والنساء البهيات. وانا اخرج من كهوف المساء التي تتأرجح بين أذرع الارض القوية والنجوم المزركشة، أستعيد أرسطو واوريلوس وما ارغبهُ من روح، كلهم جاؤوا بلطف سخي دون ازدراء او إذلال. لذلك فاني مع انشدادي للحقيقة، اقيم فوق الحُجب".

ذلك ما أقام فيه بلوم ايضا. ونحن مدينون له لنتذكره بهذه الطريقة.

.......................................

 المصادر:

1- مجلة tablet: إعادة افتتاح العقل الامريكي – عدد 11 ابريل 2012.

2- انسداد العقل الامريكي: Wikipedia, the free encyclopedia

3- صحيفة The New York times عدد 5 ابريل 1987.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 30/حزيران/2013 - 20/شعبان/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م