فقه الدولة: في وجوب مكافحة الاستعمار

الشيخ فاضل الصفّار

حفظ النظام ومنع الإخلال بالأمن والهرج والمرج، والقيمومة على حفظ الحقوق الأولية والثانوية، ثم توفير الرفاه العام والكرامة الاجتماعية للجميع، وبسط العدل في الناس وتسويتهم أمام القانون، توفير فرص التنمية والتكامل للجميع في بعديها المادي والمعنوي، من أبرز مهام الدول والحكومات في سياستها الداخلية التي قامت عليها الأدلة الأربعة، مضافاً إلى الارتكاز العقلي والعقلائي عليها، وهنا مسائل وتفريعات ينبغي التعرّض إليها، حيث ذكرنا في البحث السابق ثلاث مسائل وهي، المسألة الأولى: في وجوب توحيد المجتمع المسلم، المسألة الثانية: في وجوب مراعاة التعدد والتنوع الاجتماعي، المسألة الثالثة: في وجوب السعي لتطوير البلاد، المسألة الرابعة: في وجوب مكافحة التأخر، وفيما يلي المسألة الخامسة.

المسألة الخامسة: في وجوب مكافحة الاستعمار

يجب على الدولة مكافحة السياسة الاستعمارية في بلاد المسلمين دفاعاً عن الحقوق، ورفعاً للظلم والفساد، وحفاظا على بيضة الإسلام وكيانه، كما يجب عليها الفحص عن هذه السياسة ودراسة الأساليب المتبعة في تطبيقها من باب المقدمية، أو السيرة العقلائية الحاكمة بوجوب الفحص في طرق الطاعة، وتدلّنا الوثائق والتجارب على أن الاستعمار يجيد التخفّي في بلاد الإسلام، ويعمل على تقويض كيانه بكل خفاء وإحكام؛ ولذا نجد أكثر من مليار ونصف المليار من المسلمين في العالم يعيشون في أسوأ حالات التأخر والمهانة مع حقانية مبادئهم، وعراقة تأريخهم، وكثرة كفاءاتهم، ووفرة خيراتهم، وأهمية مواقعهم في العالم، إلى غير ذلك من أسباب القوة، إلا أن السياسة الاستعمارية في القرون الأخيرة - حيثما خيّمت على بلاد المسلمين- سلبت منهم هذه القوة، ورجعت بهم إلى الوراء قروناً وقرونا، فلا يجوز للدولة الإسلامية السكوت أو الوقوف موقف الحياد أو اللامبالاة تجاه هذه السياسات، بل يجب عليها السعي لرفعها بما يوجب عزة الإسلام والمسلمين؛ لأن «الإسلام يعلو ولا يعلى عليه»[1] والله عز وجل لم يجعل للكافر على المؤمن سبيلاً[2].

ومن أهم الخطوات التي يجب اتباعها في هذا السبيل هو فهم أساليب الاستعمار في تضعيف المسلمين والسيطرة عليهم، فإن من الواضح أن للسياسات الاستعمارية خططا ومظاهر.

أما الخطط فعادةً ما تقوم على أمور ثلاثة:

1- التربية والتعليم.

2- الإعلام.

3- الاقتصاد.

وأما المظاهر فعديدة، ولعلّ من أبرزها ما ذكره السيد الأستاذ أعلى الله مقامه في الفقه الدولة الإسلامية، حيث استند في ذلك إلى المعايشة الوجدانية والتجارب الميدانية التي عاصرها بنفسه في هجوم الاستعمار وكيفية تمرير سياسته على المسلمين، ولعلّ من المناسب أن نختصر كلامه (قدس سره) في الاستدلال على مظاهر الخطط الاستعمارية في بلاد المسلمين في نقاط:

الأولى: إشغال المسلمين بضرورات الحياة الأولية من المأكل والمشرب والمسكن والزواج ونحوه، فبينما نرى الصحارى الكثيرة والمياه الوفيرة التي تعطي للمسلمين كل خير ورفاه إذا عمروها واستثمروها في البناء والتنمية، لكن حكام المسلمين يقفون بكل جد وصلابة دون العمران والتقدم، ولا يأذنون لحيازة الأرض ولا عمارتها ولا زراعتها ولا نصب المعامل فيها ولا صنع حقول الدواجن ولا حفر الأنهر أو الآبار الارتوازية إلى غير ذلك من قيود وأصفاد تمنع من نشاط المسلمين وعملهم، وكل ذلك تحت عناوين وشعارات مختلفة.

ولذا نرى لا يملك المسلم داراً ولا فرص عمل ولا موارد لحوم وبيوض وتوابع ذلك من الدهن والزبد والجبن وغيرها.. حتى يضطر المسلمون إلى استيراد كل شيء حتى اللحم والبيض من خارج بلاد المسلمين، كما لا يمكن للشاب والشابة من الزواج لأنهما لا يملكان المال الكافي لبناء البيت الجديد، كما لا يملكان مسكناً ولا عملاً لأجل إمرار معائشه، وكل بلاد المسلمين في هذه الأمور على حد سواء من غير فرق بين ما يسمى منها بالتقدمية، أو العلمانية الملكية، أو الجمهورية الدكتاتورية، أو ما تسمي نفسها بالديمقراطية إلى غير ذلك من أسماء؛ إذ الجوهر في الكل واحد والألوان مختلفة.

الثانية: تحطيم التجارة والزراعة والصناعة والثقافة وما إلى ذلك بأسباب مختلفة.

الثالثة: تحطيم مقدرات المسلمين بواسطة القوانين الكابتة، والحاكم في بلاد المسلمين لا يسأل عما يفعل، بل لا تصل إليه الأمة حتى تسأله؛ لأنه حصّن نفسه في حصن من السلاح والحرس والقلاع والجيوش وما جنده من إعلاميين ومفكرين ومثففين يروجون له، ويضللون الحقائق أمام الناس، وكل سؤال عنه يساوي إعدام السائل أو سجنه وتعذيبه ومصادرة أمواله وهتك عرضه، وإني رأيت هذا التحطيم في مختلف بلاد الإسلام، فكان الناس في أمن ورفاه نسبي حتى جاء قانون الإصلاح الزراعي حيث حطم كل شيء، واحتاجت البلاد إلى استيراد كل شيء حتى التبن، بينما كانت تصدر حتى الحنطة، ولما كتب أحد العلماء كتاباً باسم الإصلاح الزراعي في الإسلام ونقد فيه قوانين الإصلاح الزراعي المستوردة نقداً موضوعياً أمرت الدولة بإحراق الكتاب وسجن صاحب المطبعة، حيث لم تقدر على سجن المؤلف خوفاً من الرأي العام.

الرابعة: قتل كفاءات الأمة وقادتها بالسمّ أو بالاغتيال أو ما أشبه ذلك، وقد قتلوا كلاً من السيد المجدد والآخوند الخراساني والميرزا الشيرازي قائد ثورة العشرين بواسطة السم في قصص مشهورة، ونقل لي بعض أرحامنا ممن عاصر المجدد أنه رحمه الله بعد قصة التنباك كان شديد التحفظ عن أكل أي شيء أو شربه بدون إشراف دقيق من بعض ذويه، فاتفق أن فارقه المشرف على طعامه وشرابه، ووقعت الواقعة بإدخال بعض العملاء سماً في طعامه على حين غفلة من الطباخ، مما جرّ إلى مرضه الشديد، فكان يغشى مرة بعد مرة إلى أن توفاه الله رحمه الله مسموماً، كما نقل والدي رحمه الله أن الآخوند ما كان يستعمل مأكلاً أو مشرباً في خارج داره إطلاقاً؛ خوفاً من الاغتيال الخفي، لكن لما أراد أن يسافر إلى إيران لتحسين الأوضاع التي تدهورت بواسطة الإنكليز بعد قصة المشروطة ذهب إلى مسجد السهلة مع جماعة من علماء النجف الأشرف للدعاء، وهناك عطش وشرب شيئاً من الماء بدون رقابة اضطراراً، وكان في ذلك أجله حتى مات في نفس الليلة من أثر السم.

ونقل لي آية الله السيد مرتضى الطباطبائي رحمه الله أن قائد ثورة العشرين تمرض بنزلة البرد، فاشتروا له بعض العقاقير من عطار كان في رأس زقاق دار الميرزا، وبعد أن شرب الدواء ظهر فيه أثر السم، واختفى العطار، وقد ظهر بعد ذلك أنه كان من عملاء بريطانيا، ومات الميرزا مسموماً. قال السيد الطباطبائي: ولما وضعنا جنازته على المغتسل خرج من فمه وأنفه دم كثير جداً بما لم يبق في بدنه حتى قطرة دم، مما تعجب الحاضرون على الغسل من ذلك.

 ونقل لي أحد علماء قصر شيرين في إيران أن العلامة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء رحمه الله كان نزيلاً عندهم بعد أن كتب كتاب المثل العليا في الإسلام، وقد جيء إليه بطبيب لوعكة أصابته فأعطاه بعض الحبوب والشراب، وكان الناس يأتون إلى زيارته زرافات زرافات. قال ذلك العالم: وفي يوم من الأيام جئت إلى غرفته بعد صلاة الصبح فرأيته وقد وقع في سجادته على وجهه، فلما حركته تبين أنه بعد صلاة الصبح فارقت روحه الطاهرة الدنيا، ولما نزعت ملابسه كانت آثار السياط على جسمه، مما تعجبت كثيراً، فأحضرنا الطبيب وتعجب الطبيب هو بنفسه من تلك الآثار، فطلب علبة حبوبه، ولما رآها قال: انظروا إن هذه الحبوب مدسوسة في الظرف، وإنها سم دسها بعض العملاء على حين غفلة في ظرف دوائه، وهذه الآثار في جسمه من أثر هذا السم المدسوس إليه في الحب.

وقصة اغتيال الأخ السيد حسن الشيرازي رحمه الله وغيره من العلماء في عصرنا متعددة ومعروفة بما لا يسع المجال لبيانها.

الخامسة: اغتيال الشخصية، وهذا يتم بإلصاق أنواع التهم بالأشخاص ذوي الأثر والنفوذ لإسقاطهم من أعين الناس، وقد كان الشيوعيون والقوميون والملكيون في إيران وغيرهم يلصقون التهم بالعلماء المجاهدين ورجال الإسلام البارعين، فقد اتهموا الوالد رحمه الله في أيام الشيوعيين وغيرهم بأنه يأخذ الأموال من الأجانب، كما اتهموا السيد الحكيم رحمه الله بأنه عفلقي، إلى غير ذلك من الاتهامات التي لا تكون غائبة عن الأذهان.

والظاهر أن هذه السياسة مستورثة من السابقين، فقد كانوا يقولون عن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): إن له أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا[3]، وكانوا يقولون: أن علياً (عليه السلام) لا يغتسل من الجنابة ولا يصلي، وإن الحسين (عليه السلام) خارجي إلى غير ذلك من الاتهامات؛ لإسقاطهم من قلوب الناس.

ويواصل السيد (قدس سره) كلامه بقوله: وطريق الاتهام الحديث سهل إلى أبعد حد، وقد رأيت أنا مكرراً من هذا النوع، فإن رئيس الدولة مرتبط بالاستخبارات الأجنبية، ورئيس استخبارات الدولة مرتبط به مباشرةً، فإذا أراد الغرب أو الشرق إسقاط شخصية من أعين الناس تأتي إلى رئيس الدولة الأوامر من أسياده بالاتهام الجاهز، وهو يأمر بذلك رئيس استخباراته، وهو يطلع معاونيه في المحافظات والمدن بالاتهام، وإذا ترى بعد نصف يوم ينتشر الاتهام في كل البلاد بواسطة مائة ألف جاسوس أو أكثر أو أقل.

والاتهامات على شكلين:

الأول: الاتهام بشيء مشين بالشخصية.

الثاني: الاتهام بشيء يوجب التشويش حول الشخصية.

أقول: وفي مثل هذه الأزمنة قد تطورت أساليب الدعاية والاتهام والتشويش عبر وسائل الإعلام الحديثة من الفضائيات وشبكات الانترنيت والمجلات والصحف وما أشبه بما لا يعسر على الأنظمة المستبدة أو الاستعمارية تشويش صور الشخصيات واتهام الرجال المجاهدين في بلاد المسلمين.

السادسة: تجميد الشخصيات البارزة بإيجاد الضغوط عليهم حتى لا يتمكنوا من التحرك فيخلو الجو لعملاء الاستعمار للصولة والجولة في بلاد المسلمين كيفما يشاء أسيادهم، والكل يذكر كيف كانت الاستخبارات تهدد من يذهب إلى دار بعض العلماء العاملين، أو يحضر دروسهم، أو يأتي باسمهم فوق المنبر، حتى إن البهلوي الأول كان قد هدد تجار إيران بأن لا يرسلوا الحقوق الشرعية إلى علماء العراق، وإلا نالوا منه كل عقاب شديد، كما أنهم يجمدون كتب العلماء بواسطة الرقابة، أو بوساطة عدم إعطائهم الورق الذي هو في أيدي الدولة، أو بوساطة تهديد المطابع بعدم نشرها، أو بواسطة إحراق الكتب بعد الطبع، أو بواسطة منعها عن المكتبات وتهديد أصحاب المكتبات إذا باعوها، إلى غير ذلك.

السابعة: تركيز القدرة في أيدي جماعة ممن يأتمرون بأوامر المستعمرين، وخنق سائر الجماعات، سواء كان التركيز باسم حزب أو بدونه، ومن لا يذكر توحيد البهلوي الثاني الأحزاب وحصرها في حزب راستاخيز، وكذا ما صنعه عبد الكريم قاسم في العراق، حيث أعدم جماعة من أصحابه في أم الطبول في بغداد؛ ولذا لا ترى بلداً في العالم الثالث إلا وفيه تركيز القدرة وتجميعها في أيدي قلة قليلة هم إما من العملاء، أو من الخاضعين للسياسات الاستعمارية، وحتى إذا فرض وجود مجلس الأمة فليس إلا شيئاً صورياً.

الثامنة: التحريف الفكري والثقافي لتجميد رجال الإسلام بواسطة الدعايات وما أشبه، ومن الدعايات التي تروّجها الأنظمة المستبدة أو التابعة للاستعمار هي أن رجل الدين لا يدخل في السياسة، أو دع السياسة لأهلها، ودعوا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، وما أشبه لغرض فصل الدين عن الدولة، وعزل العلماء المجاهدين للتطلع إلى نظام الحكم أو الرقابة على سياسة الحكومة، وهذه الدعاية وإن لم تنطل على العلماء الأذكياء وعلى الواعين من الأمة.

ولذا نجد أن كل مراجع التقليد منذ زمان المفيد والشيخ الطوسي والى اليوم كانوا يحاربون المستغلين والمستعمرين والمترفين اقتداء بالأنبياء والأئمة الطاهرين%، إلا أن تأثيرات هذه الدعاية السلبية على كثير من الناس كبيرة وكبيرة جداً، الأمر الذي يخفف على المستعمر وطأة العلماء المجاهدين، ويمكنه من تمرير سياسته في البلدان المستعمرة.

التاسعة: إثارة الحروب في البلاد، فإن من الواضح أن الحرب تمتص ثروات البلاد كما تقتل الرجال والنساء والأطفال، وتهدم المدن، وتفني الزرع والضرع، وتلقي العداوة والشحناء بين الناس، وإني أذكر منذ نصف قرن الحروب في هذه البلاد، كحرب الأكراد، وحرب آذربيجان، وحرب العراق وإيران، وحرب لبنان، وحروب إسرائيل مع كل من مصر والأردن وسوريا ولبنان، وحرب أفغانستان، وحرب الهند والباكستان، وحرب شطري الباكستان الشرقية والغربية حتى انفصلت إحداهما عن الأخرى وسميت ببنغلاديش، وحرب تشاد وليبيا، وحرب المغرب وبوليساريو، وحرب السودان، وحرب الفلبين، وغير ذلك، وإذا جعلوا حرباً بين الجيران أمدوها بالسلاح والدعاية والخبراء وما أشبه حتى تبقى الجذور مشتعلة.

ويقول السيد (قدس سره): إن الغرب والشرق بهذه الحروب التي يشعلونها في بلاد الإسلام وفي العالم الثالث يشغلون عمالهم في معامل الأسلحة، ويمتصون ثروات المسلمين وسائر الناس، ويقدمون أنفسهم بالتجارب، ويؤخرون المسلمين، وبعد انتهاء الحرب أيضاً يشغلون عمالهم ومعاملهم ببيع أدوات البناء ووسائل الحياة. هذا بالإضافة إلى أنهم في الحروب يبتعدون هم عن الحرب؛ ولذا يسمونها الحروب بالوكالة.

العاشرة: إشاعة المبادئ المنحرفة وتصديرها إلى بلاد الإسلام كالشيوعية والعلمانية والطورانية، والأديان المزيفة كالبهائية في إيران، والقاديانية في الهند والباكستان، والوهابية في الحجاز، فإن هذه المبادئ تنبعث من الغرب والشرق لأجل هدم الإسلام والمسلمين.

الحادية عشرة: إعطاء القروض للدول الضعيفة، فإنهم بعد أن يمنعوا البلاد من العمل تكثر البطالة من ناحية والاحتياج من ناحية أخرى، وحيث تتحطم الدولة اقتصادياً يظهرون من وراء الستار لإقراض الدولة باسم الإنسانية وما أشبه؛ وذلك لتكبيل الدولة المقترضة والضغط عليها لدعم السياسات الاستعمارية، لا من جهة تدخلها في شؤونها سراً وعلناً فحسب، بل من جهة الفوائد الربوية التي تثقل تلك الدول بما لا طاقة لها بأدائها أيضاً، فتبقى أسيرة في أيدي الدول الاستعمارية.

الثانية عشرة: إيجاد العداوات بين الجيران، فإنك لا ترى في دولة من دول العالم الثالث إلا أنها عدوة لجيرانها بسبب مشكلة مفتعلة بينها، سواء في العالم الإسلامي أو غير الإسلامي، وذلك يوجب أن يتحاكم الطرفان إلى الاستعمار من جانب، وأن يشتري كل جانب من المستعمرين السلاح من جانب ثان، وان لايتحقق تقارب واتحاد بين الدول من جانب ثالث، وأن تكون تلك المشكلة آلة بيد المستعمر، كلما أراد ضرب البلدان بعضها ببعض تمكن من إشعال الفتنة بينهم، فإنهم يفصلون بين أجزاء الدولة الواحدة، ثم يراعون العداوة المفرقة بينها على طول الخط، مثلاً كانت سوريا ولبنان والأردن والاسكندرونة بلداً واحداً في جسم الدولة العثمانية، ثم بعد قطع هذا الجزء عن سائر الأجزاء - كقطع اليد من الجسم- قطعوا هذا الجزء أيضاً إلى أجزاء، كمن يبضع اليد المبضعة إلى الذراع والكف والأصابع والمرفق وهكذا.

وهكذا فصلوا أفغانستان عن إيران بعدما كانت جزءاً منها عشرات القرون، ثم إني أذكر أنهم كانوا يراعون بواسطة العملاء والدعاية وما أشبه التفرقة بينهما منذ نصف قرن كيلا يرجعا إلى دولة واحدة، وقبل خمسين سنة قتل رجل مجنون يسمى بالشيخ علي القمي ابن المرجع العظيم الشأن السيد أبي الحسن الأصفهاني(قدس سره) في صحن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في صف صلاة الجماعة على ملأ من الأشهاد، لكن الغريب أنه اشتهر كلمح البصر في كل العراق من أقصاه إلى أقصاه أن الذي قتل ابن السيد كان رجلاً أفغانياً، مما حدا بالناس السذج أن يعادوا الأفغانيين ويضربوهم في أي مكان من العراق رأوهم، وقد قصد جماعة من العشائر أن يأتوا إلى النجف الأشرف لقتل كل الأفغانيين من الطلبة وغيرهم، حتى إن الأفغانيين اضطروا إلى التخفي والبقاء في البيوت مدة من الزمن إلى أن هدأت الثائرة، وأعلن السيد أبو الحسن الأصفهاني رحمه الله أن القاتل ليس أفغانياً، وإنه لا يرضى بأي تحريض، وقد تعجب الناس من هذه الحكمة، لكن يزول العجب إذا عرفنا كيف يتحرك المستعمر؟ وكيف يمرر سياسته؟ خاصة وإن له العديد من وسائل الترويج والعمالة في بلاد المسلمين، وكيف ينبغي ان نكافحه؟

الثالثة عشرة: تسييس الوسائل الإعلامية والثقافية ومختلف المؤسسات حتى الطبية ونحوها.

الرابعة عشرة: إحياء الفوارق كالقوميات واللغات والألوان، حتى يقول كل جانب: أنا وقومي، وأنا الأفضل وما أشبه، مما يوجب التفرقة والعداوة بينما المستعمر يسير بخطى حثيثة إلى الصناعة والتقدم وجمع كلمته.

ويواصل السيد رضوان الله عليه فيقول: إن الاستعمار حاله حال كل فاسد ومفسد إن لم يؤخذ أمامه بسرعة معقولة زاد في المدة والشدة والعدة؛ ولذا نرى أن البريطانيين ذهبوا إلى الهند وبقوا فيها بصورة سافرة مدة ثلاثة قرون، أما لما جاؤوا إلى العراق لم يتمكنوا من البقاء إطلاقاً، حيث لم يوجد في الهند من يتعقل الوقوف أمامهم ذاك الحين، بينما وجدوا في العراق ذاك التعقل في الميرزا الثاني الشيرازي، فإن الاستعمار اذا بقي في بلد وسّع نفسه، وكثر من الأنصار والأعوان، وبذلك يزيد عدته، ثم يتعمّق، ويدخل جذور البلاد والأفراد، وذلك يزيد من شدته، وبذينك الأمرين يبقى أطول مدة ممكنة، وقد حصل كل ذلك في بلاد الإسلام من غير فرق بين الاستعمار البريطاني والأميركي والروسي والفرنسي وغيرها.

 ولذا فالأمر بحاجة إلى عقل كبير جداً وليس المراد عقل فرد واحد أو أفراد، بل عقل الأمة جميعاً بالوعي والثقافة والفكر حتى تتمكن من التصدي لإزالة جذور الاستعمار، وذلك لا يمكن إلا إذا مارست الدولة الحاكمة سياسة في شؤونها الداخلية تتابع ممارسات الاستعمار وأساليبه وسياسته، وتكافحها حتى يتمكنوا من إزالة هذه المشكلة.

ومن أهم ما يجب فهمه بالنسبة إلى الأمة العاملة أنهم يجب أن يتبنوا السلم والصداقة والخدمة لا مع قطاعات الأمة فحسب، بل وحتى مع الاستعمار نفسه على ما قرره الرسول وأهل بيته (عليهم السلام) في مكافحة الأعداء والخصوم، حيث كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يعطف حتى على الكفار المحاربين له[4]، كما أرسل مالاً إلى مكة حين أصابهم جهد، ومنح لهم أخذ الماء من بدر في حرب بدر[5]، ولما استولى عفا عن أهل مكة وغيرها، بل جعل دار أبي سفيان ألد أعدائه آمناً[6]، وجعل المسجد الحرام آمناً، وعفا عن هبار بن الأسود قاتل بنته وحفيده[7]، ووحشي قاتل عمه[8]، وهند الممثلة بجثة عمه[9]، إلى غير ذلك.

 وكذلك فعل مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام)، حيث بذل الماء لمعاوية مع أنه كان من البغاة وقد خرج لحربه بجيش جرار في صفين[10]، وكذلك فعل الإمام الحسن (عليه السلام)، حيث كان يعطي الشامي وغيره الذي يسبه ما يخفف من غلواء عدائه[11]، ولم يبح (عليه السلام) باسم زوجته جعدة التي سمّته حتى لا ينتقم منها أحد[12]، إلى غير ذلك.

وكذلك منح الإمام الحسين (عليه السلام) الماء للذين جاؤوا لقتاله في كربلاء، وبالفعل قتلوه بعد أيام في قضية مأساوية عظيمة وكبيرة جداً[13].

وعلى أي حال فإن الدولة الإسلامية لا تقوم إلا لأجل الهداية والإرشاد والخدمة بحسب موازين القرآن والسنة الواردة في النصوص المتواترة والتي من أبرز ما تنص عليه في التعامل مع الخصوم فضلاً عن الأصدقاء هي سياسة العفو والصفح والهداية والدفع بالتي هي أحسن، وفي نهج البلاغة عن مولانا أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «إذا قدرت على عدوّك فاجعل العفو عنه شكراً للقدرة عليه»[14].

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

..................................................

[1] عوالي اللآلي: ج3 ص496 ح15.

[2] اشارة الى قوله تعالى: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا} سورة النساء: الآية 141.

 [3] اشارة الى قوله تعالى: { وقالوا اساطير الاولين اكتتبها...} سورة الفرقان: الآية 5.

 [4] انظر الكامل: ج2 ص122.

 [5] المصدر نفسه: ص123.

 [6] تاريخ اليعقوبي: ج2 ص59.

[7] الاصابة: ج3 ص597 – 598.

 [8] المصدر نفسه: ص631.

 [9] اعلام النساء: ج5 ص 247.

 [10] انظر الامامة والسياسة: ج1 ص106.

 [11] انظر العوالم: ص121.

 [12] حياة الامام الحسن: ج2 ص473 – 478.

 [13] الفقه كتاب الدولة الاسلامية: ج101 ص 246 – 257 بتصرف.

 [14] نهج البلاغة: ص470 الحكمة 11.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 15/آيار/2013 - 4/رجب/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م