ربيع عراقي في خريف سياسي

نبيل ياسين

اقصد بالربيع هذا الفصل من السنة حيث تتناقض الطبيعة في تقلباتها مع الطبيعة السياسية في العراق. فالخريف السياسي يساقط أوراقه في ربيع عراقي تسطع فيه شمس آذار الناصعة التي تزداد سنا ولمعانا.

الاعتراف الدولي بحلبجة. فأين المقابر الجماعية..؟

إذا قارنا بين المقابر الجماعية وبين مجزرة الإبادة الجماعية في حلبجة والأنفال سنجد ان مصدر الابادتين هو واحد. حدثت إبادة حلبجة بالأسلحة الكيمياوية في آذار 1988 ومنذ ذلك العام حتى غزو الكويت لم يجد الأكراد من يتضامن معهم في إدانة هذه المجزرة ومجزرة الأنفال التي راح ضحيتها آلاف البشر. حتى ان مؤتمرات حقوق الإنسان التي كانت تعقد في أوروبا لم تسمح للأكراد بالحضور وعرض هذه المأساة على الرأي العام العالمي.

التقيت بصحفي نمساوي في مؤتمر الاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية لمجزرة حلبجة قبل يومين. كان قد دخل المدينة المنكوبة بعد يومين على القصف الكيمياوي وكانت جثث الضحايا ما تزال منتشرة في أزقة المدينة وقد التقط بعض الصور التي أصبحت عالمية الآن. شعرت ان الأكراد يتابعون من اشتراك تدوين تاريخهم المأساوي. حتى وزير الخارجية الفرنسي الأسبق كيشنر كان حاضرا وتحدث كيف انه دخل الى حلبجة، كما دخلت مدام ميتران مع منظمة أطباء بلا حدود التي كان هو احد مؤسسيها. تحدث برلمانيون أوروبيون كثيرون وتحدث حقوقيون دوليون يمثلون منظمات ودولا بحيث بدا لي ان الاهتمام بمجزرة حلبجة والأنفال سيكون دليلا قانونيا على استقلال كردستان لاحقا، إذ ان مسائل التطهير العرقي من المسائل التي تستخدمها الأمم المتحدة لدعم حق تقرير المصير.

يعاني العراق من ثلاث مصطلحات ستؤدي به وبوحدته. هذه المصطلحات هي «تعريب، تفريس، تتريك» ويعمد بعض القوميين العرب الى إضافة مصطلح تكريد وهم يقصدون إسكان بعض المناطق، خاصة في كركوك، بالأكراد. وقد بدأ نظام البعث عمليات التعريب منذ وقت مبكر خاصة في كركوك منذ مطلع السبعينات. نحن إذن نعاني من غياب مصطلح العراق في خضم الصراع بين هذه المصطلحات القاسية. لم نسمع، سوى في الحرب اليوغسلافية وخاصة بعد مجزرة سربنيتشا الشهيرة والتي أدت الى تقسيم يوغسلافيا.

ومصطلح الإبادة الجماعية يطلق عادة على سياسة القتل الجماعي المنظمة التي تقوم بها الحكومات ضد مختلف الجماعات. أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي، صنفت باعتبارها جريمة دولية في اتفاقية سنة1948 التي وافقت عليها الأمم المتحدة بالإجماع. وبدأ تطبيقها الفعلي عام 1951. ومن المفارقات ان الدولة الديمقراطية الكبرى وهي الولايات المتحدة لم تصادق على الاتفاقية إلا عام 19. ومن الدول العربية التي صادقت عليها المملكة العربية السعودية ومصر والعراق والأردن والكويت وليبيا والمغرب وسوريا وتونس. ولم تصدق 50 دولة بينها قطر والإمارات المتحدة وعمان وموريتانيا وتشاد حتى الآن.

في هذه الاتفاقية بِمُوجِب المادة الثانية تعني الإبادة الجماعية أيا من الأفعال التالية المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو أثنية أو عنصرية أو دينية، بصفتها هذه: (أ) قتل أعضاء من الجماعة،(ب) إلحاق أذى جسدي أو روحي خطير بأعضاء من الجماعة،(ج) إخضاع الجماعة، عمدا، لظروف معيشية يراد بها تدميرها المادي كليا أو جزئيا،(د) فرض تدابير تستهدف الحؤول دون إنجاب الأطفال داخل الجماعة،أي ما يسمى (التعقيم) بقصد قطع النسل القومي او الديني او الثقافي (هـ) نقل أطفال من الجماعة، عنوة، إلى جماعة أخرى.

وكان اول تطبيق عملي لبنود الاتفاقية هم وما قامت به المحكمتان الدوليتان بمناقشة عمليات الإبادة في رواندا والبوسنة. وفي 1998 وقد حكم على مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا بالسجن مدى الحياة وبينهما جان كمباندا الذي كان رئيس الوزراء في بداية عملية الإبادة والذي اعترف بمسؤوليته عن إبادة المدنيين التوتسيين.

الإبادات الجماعية في التاريخ المعاصر، كثيرة ومنها الإبادات الجماعية التي قامت بها الدول الكولونيالية في الجزائر ودول أخرى. كما تعتبر مجازر الأرمن من المجازر الشهيرة والتي دفعت فرنسا قبل عامين لإدانتها ولكن التجارة مع تركيا أوقفت العمل بهذه الإدانة. وتعتبر المحرقة اليهودية أشهر جرائم الإبادة الجماعية ودخلت في قوانين معظم الدول الأوربية تحت بند معاداة السامية واعتبر إنكار المحرقة جريمة يعاقب عليها القانون. لكن معظم جرائم الإبادة الجماعية ما تزال تنتظر الاعتراف الدولي بها باعتبارها إبادات جماعية ومنها مجازر صبرا وشاتيلا والمقابر الجماعية وحلبجة والانفال في العراق. وإبادة الهنود الحمر في أمريكا وهيروشيما في اليابان.

قد تجد إدانات أخلاقية وثقافية وسياسية ولكنها لم تجد اعترافا قانونيا دوليا بها لان ذلك يترتب عليه عدد من الالتزامات مثل التعويضات وحق تقرير المصير والاستقلال وإصدار قوانين جديدة وغير ذلك.

منذ غزو الكويت حصدت المعارضة العراقية تأييدا دوليا (عارما) بحيث أصبحت الولايات المتحدة وبريطانيا تبحثان (بالإبرة) عن معارضين أحيتهم وأعطت أدوارا مهمة، فضلا عن قوى المعارضة (التقليدية) الأخرى ومنها القوى الكردية. وبعد الانتفاضة التي أعقبت حرب عام 1991 والتي اشترك فيها العرب في الجنوب والكرد في الشمال، ظهر الشيعة رقما محليا وإقليميا مؤثرا من خلال القوى الدينية ممثلة بالمجلس الإسلامي الأعلى وحزب الدعوة وفصائل أخرى. وبإعلان مناطق حظر الطيران حصل الأكراد على (جنة) تحت مبدأ Save haven، ومنذ ذلك التاريخ عمل الأكراد على نقل قضيتهم من الواقع شبه المنسي الى واقع جديد طوروه ليحصلوا من خلاله على اعتراف دولي بفدراليتهم الحالية. ففي المؤتمر الدولي للاعتراف بجرائم الإبادة الجماعية في حلبجة الذي عقد في اربيل الاسبوع الماضي وحضرته مصادفة بسبب وصولي الى اربيل قبل يوم من عقده، دون ان أكون مدعوا إليه، كان هناك (مجتمع دولي) يقوم بإعداد الترتيبات، كما استنتجت، لتقديم لائحة حلبجة للاعتراف بها على أساس إنها جريمة إبادة جماعية حيث سيقوم النواب الأوروبيون والوزراء السابقون والسفراء بتقديم تقاريرهم الى بلدانهم والى الاتحاد الأوروبي لتكون جاهزة إذا ما أصبح حق تقرير المصير أمرا واقعيا. كما سيقوم الصحفيون بإثارة قضية حلبجة بمناسبة مرور ربع قرن على حدوثها وتهيئة الرأي العام الدولي لنتائج الاعتراف الدولي القانوني بها. هذه طريقة عمل متبعة يقوم بها الأكراد للحصول على مشروعهم.

ومنذ عشر سنوات يفتح اقليم كردستان بواباته للاستثمارات والإعلام والعمالة الأسيوية والعربية ولتدفق الأموال الاستثمارية الخليجية جنبا الى جنب مع تطوير مكانته الكردية عربيا أيضا.

لماذا كسب الأكراد العرب وخسر العرب العراقيون عربهم.. ؟

السبب واضح : ان لدى الكرد مشروعا. سواء مشروع اقليم كردستان اليوم او مشروع الدولة الكردية غدا. ومن اجل هذا المشروع يعمل الأكراد بشكل جماعي بينما يعمل العرب العراقيون بشكل فردي وبدون مشروع سوى مشروع الحكم نفسه. ومن اجل مشروعهم يعمل الأكراد على تطوير مهاراتهم السياسية والثقافية من خلال التفاعل مع المهارات السياسية والثقافية غير الكردية سواء كانت أسيوية او عربية او عالمية، بينما ينغلق العرب العراقيون على ما يعتقدون انه مهاراتهم التي لا تضاهيها مهارات أخرى ولذلك فهم ليسوا بحاجة لأي تفاعل من اي نوع كان.

وإذا كان الكرد قد قدموا حلبجة والانفال في مشروع دولي فان المقابر الجماعية التي تحدث عنها مسعود البارزاني في كلمته فاني كنت احدث نفسي وأقول: ماذا لو كان رئيس الوزراء نوري المالكي هنا وألقى خطابا تضامنيا وجمعنا المقابر الجماعية لأهل الجنوب مع الإبادات الجماعية لأهل الشمال في لائحة واحدة بدل ان تكون المقابر الجماعية مشروعا فرديا لهذا الشخص او ذاك ومشروعا دينيا لهذه الجماعة او تلك..؟

قد نلوم الآخرين على مواقفهم من العرب العراقيين ولكن لا نستطيع ان نغض الطرف عن لوم العرب العراقيين، وخاصة الشيعة منهم. إذ إننا نستطيع لومهم على انغلاقهم كما نستطيع لومهم على اكتفائهم بأنفسهم وعدم شعورهم بالحاجة الى الآخرين. والسبب إننا نلومهم على ذلك بسبب لومنا لهم على غياب مشروعهم السياسي الوطني وليس المذهبي او الحزبي او الديني.

لا يدعي الكرد إنهم يملكون الخبرة الكافية، ولذلك يعمدون الى شراء هذه الخبرة، بينما يعتقد العرب العراقيون إنهم قادرون على (تصدير) ما يعتقدون انه خبرة بينما هو في حقيقة الأمر استحواذ حزبي وديني وعائلي وعشائري على المناصب والوظائف والأفكار والثقافة والإعلام لم يستطع منذ عشر سنوات حتى اليوم سوى ان يراكم الأزمات ويضعف الدولة ويساعد شبح التقسيم على التحول من النوم الى اليقظة.

نحن جميعا بحاجة الى مشروع قبل ان نكون بحاجة الى مؤتمر وطني. لا مؤتمر وطني بدون مشروع يقوم عليه هذا المؤتمر. ولذلك استطيع اتهام كثيرا من الأطراف بغياب اي مشروع لديها غير مشروع الحكم. ولذلك تنفجر الأزمات وتتراكم ونعيش أزمة في اثر أزمة كالحروب التي عشناها منذ قصيدتي الإخوة ياسين التي كتبتها عام 1974 واتهمني بعض المنتقدين بالتشاؤم:

في الطريقِ الى العائلة

بلدٌ يجلسُ القُرفُصاءَ وممتلئاً رُعُبا

وعليه المثولُ أمامَ العذابْ

في الطريقِ الى العائلة

حدثٌ في خطى حدثٍ

وعذابٌ وراءَ عذاب

وحربٌ على إثرِ حربٍ

كأنَّ طريقَ العذابِ الطريقُ الى الجُلجُلة

هو ذاكَ الطريقُ الى العائلة

نقض النقيض: مسيرات مليونية

يقوم متظاهرو الانبار، او سمهم كما يشاء البعض متظاهرو السنة بتقليد الشيعة رغم انتقاداتهم للشيعة. اطرح السؤال التالي، وسبب طرحه إننا سنحول السياسة الى طائفية صرفة: هل يريد منظمو المسيرة الى مرقد الأمام أبي حنيفة ان يستنسخوا المسيرات (المليونية) للشيعة والتي تمشي الى كربلاء. يبدو ان الأمر كذلك. ويبدو إننا أمام رفض النقيض بالإتيان بفعل النقيض من النقيض الأخر. وآسف إذا كنت أدخلتكم بشبكة من النقائض لا تشبه نقَائض جرير والفرزدق وهي تسمية قصائد الهجاء والهجاء المضاد بين الفرزدق وجرير، ولا تشبه المبدأ الفلسفي الماركسي: تقض النقض، فاني أتأمل فيما إذا كان منظمو المسيرة الى أبي حنيفة يسعون لتحويله، وهو الفارسي الصفوي وفق تعبيرات بعضهم، الى (حسين) السنة. او ان هذه المسيرة هي في أربعينية الإمام الذي أسس المذهب الذي اعتنقه العثمانيون لأنه لا يشترط الإمامة في قريش مما يتيح للعثمانيين ان يكونوا أمراء مؤمنين على المسلمين.

ما الذي يحدث حقا..؟ انه سؤالي الأثير منذ سنوات. فنحن نرى من الأحداث ما ينقلنا الى غابات الأمازون وأقوامها او مجاهل استراليا وإفريقيا وغاباتها وصحاريها حيث تغيب المدنية وتظهر التصورات وكأنها عقائد ثابتة. إذا كانت المسيرات الشيعية تستفز كثيرا من أهل السنة، فان عددا من الشيعة أيضا ينظرون إليها بأنها تصبح شيئا فشيئا جزءا من عقيدة الدولة التي تضم سنة عربا وسنة أكرادا ومسيحيين وصابئة وتركمانا سُنة. كما ان هذه المسيرات تزداد سنويا بسبب الاستفزازات الإرهابية التي تستهدفهم لأنهم أتباع طائفة إسلامية شيعية. وإذا كانت تستفز أحدا فإنها لا ترفع شعار إسقاط ما تبقى من الدولة ولا تسعى الى تقسيم او إعادة الدكتاتورية، فلماذا يحول منظمو المسيرات الى أبي حنيفة هذا التقليد الى سياسة صرفة هدفها تحويل أبي حنيفة الى رمز سياسي..؟

ماذا فعلنا إذن؟ إذا كان هناك انتقاد للمسيرات الحسينية فانه ينصب على استخدامها سياسيا فلماذا يعيد منظمو التظاهرات استنساخ التجربة الشيعية إذا كانوا ينتقدونها..؟ ولماذا يتم تعريب أبا حنيفة (نعود لبداية المقال) ويتم تفريس الشيعة..؟

إذا كان الناس يرددون (الله ما ينشاف بالعين ولكن بالعقل) فاني لا أرى الله عند بعض الناس الذين يتركون عقولهم ويحدقون بالسماء ليروا الله.

أندلسيات

اختتم باختياري لك شيئا من شعر الأندلس.. حيث أشهر مصطلح لها قبل سقوطها هو ملوك الطوائف:

قال الشاعر :

لقد جلت في غرب البلاد وشرقها

أنقّب عمن كان لله داعيا

فلم أرَ إلا طالبا لرياسة

وجمّاعَ أموالٍ وشيخا مرائيا

قبضت يدي عنهم وآثرت عزلةً

عن الناس واستغنيت بالله كافيا

وقال آخر في واضعي الاحاديث:

أرى الخيرَ في الدنيا يقلُّ كثيرُه

وينقص نقصا والحديث يزيد

فلو كان خيراً كان كالخير كله

ولكنَّ شيطانَ الحديثِ مريد

ولابنِ معينٍ في الرجال مقالةٌ

سيسأل عنها والمليك شهيد

فإن يك حقا قولُه فهي غيبةٌ

وإن يكُ زورا فالقصاص شديد

قال أبو الحسن ابن الطراوة المالقي يهجو واضعي الاحاديث حسب الطلب

إذا رأوا جملا يأتي على بعد

مدوا إليه جميعا كف مقتنص

إن جئتهم فارغا لزوك في قرن

وإن رأوا رشوة أفتوك بالرخص

وانهي بذم السياسة فقد قال شاعر آخر كأنه يهجو بعض القوائم الانتخابية:

تقودُ من السياسةِ ألفَ بغلٍ

إذا حرنت، بخيطِ العنكبوتِ

www.almowatennews.com

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 27/آذار/2013 - 15/جمادى الأول/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م