التناقض المبروز من خطاب محمد بولوز

ياسر الحراق الحسني

يعرف التيار الإسلامي في المغرب بجميع أنواعه أزمة تنذر بسقوط وشيك. فلا الشق السياسي من التيار الإسلامي يمتلك برنامجاً حقيقياً للعصرنة والتحديث بشكل يوافق بين الأخلاقيات الإسلامية السامية والقيم الكونية التي يفرضها فسيفساء التنوع الإجتماعي. ولا الشق الثقافي الذي يستمر في إعادة إنتاج خطابات القرون الوسطى بطريقة تصطدم أحياناً من حيث المضمون مع الحقائق التي سهلت وفرة المعلومة الوصول إليها، وأحياناً تصطدم من حيث المنهج مع واقع الإسترداد الإلكتروني الآني للمعلومة والذي يمكن الباحث في وقت وجيز من مقارنة آراء المثقفين وإختبار مدى إلتزامهم بمنهجيتهم ومعاييرهم.

وليس الدكتور محمد بولوز الباحث في العلوم الشرعية والاجتماعية بإستثناء في جملة المزدوجين معيارياً. بل إن أهمية التطرق له كنموذج تكمن في تبنيه الخطاب الديني بما قال الله وقال الرسول، الشيء الذي يستلزم النباهة والفطنة والحيطة والحذر. الموضوع المنتخب مما دلى فيه الدكتور بدلوه هو قضية الإحتفالات الدينية في مناسبين مختلفتين إحداهما تخليد لإحتفال اليهود في عاشوراء والثاني إحتفال النصارى برأس السنة الميلادية. في هذه الورقة سنعرض كيف خالف الدكتور قاعدته ومارس الميكيافيلية في الدين بما يشبه المصاب الجلل في الخطاب الديني كما سيتبين.

حول الإحتفال مع اليهود

في تصريح لجريدة هسبريس الواسعة الإنتشار ( 13 نوفمبر 2012) يقول الدكتور محمد بولوز حول تخليد احتفاليات اليهود أيام عاشوراء بأنها ظاهرة اجتماعية تهم المسلمين. وأن البحث فيها:" هو البحث في أصل الدين نفسه باعتباره مكونا أساسيا في البناء النفسي والثقافي والاجتماعي والتاريخي والحضاري للمسلمين". واستطرد بولوز، في حديثه مع هسبريس، بأن ما يحدث في عاشوراء عند المغاربة من مظاهر سلوكية واجتماعية وعقائدية يُبحث لها أولا عن جذورها الإسلامية، حيث نجد جملة من الأصول من مثل ما ورد في صحيح البخاري عن أبي موسى الأشعري أنه قال:" دخل النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المدينةَ، وإذا أناسٌ من اليهود يعظمون عاشوراءَ ويصومونه، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: (نحن أحقُّ بصومه)، فأمر بصومِه". وإستدل الدكتور بحديث آخر من البخاري فيما يؤدي إلى فكرة كون عاشوراء احتفالية تخص تخليد اليهود ذكرى نجاة النبي موسى من فرعون والمسلمون أولى بتخليد هذه الذكرى من اليهود. وبالرغم من الاشكالات التي يمكن وضعها حول حقيقة هذا الإحتفال في تاريخ اليهودية والتدقيق في التقويم الذي كانوا يستعملونه إن ثبت أصلاً هكذا نوع من الإحتفال، فإن الذي يهمنا هاهنا هو جوهر الكلام ومؤداه الذي يفيد بفكرة رجحان الإشتراك مع أهل الديانة المخالفة في إحتفال ما إذا كان يخلد ذكرى تكرم أحد الأنبياء.

حول الإحتفال مع النصارى

وعن الإحتفال مع النصارى أيام رأس السنة التي تخلد ولادة النبي عيسى في مقال عنونه:" الاحتفال برأس السنة الميلادية" ( هسبريس 27 دجنبر 2012)، قال الدكتور بوروز:" فهذه الاحتفالات لا يمكن إدراجها في مجرد العادة والعرف، بل هي مراسم لها صلة قوية بعقيدة النصارى ودينهم، فقد حدث في زمن النبوة بعد دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة مهاجرا إليها أن وجد الناس يحتفلون بيومين خاصين بهما في الجاهلية، فلم يمر على الأمر مرور الكرام ولم يعتبر ذلك مجرد عادة يمكن أن يضيف إليها عادات إسلامية جديدة أو أعياد أخرى تضاف إلى أعيادهم بل أوقف ذلك وأعطاهم بديلا جديدا يميزهم كأمة وكيان مستقل". وأضاف أن كثيراً من النصوص الشرعية تحث على التميز وتجنب التشبه باليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من أهل الملل والنحل من غير المسلمين مستشهداً بحديث "لا تشبهوا باليهود والنصارى". والأهم من هذا تقديمه لمخالفة اليهود والنصارى في أعيادهم ومواسمهم وعباداتهم على أنها "قاعدة" قال بها إبن تيمية الحراني. وذهب أكثر من ذلك بالحمل على الإحتفال بمولد النبي مرجحاً الاحتفاء بالأعمال والإنجازات وبالنواقل النوعية في حياة الأفراد والأمم، مستدلاً بإحتفال عمر بن الخطاب بحفظ ابنه لسورة البقرة. الخلاصة إذاً هي عكس ما خلصنا إليه سابقاً وهي عدم رجحان الاحتفال مع أهل الديانة المخالفة في إحتفال ما إذا كان يخلد ذكرى تكرم أحد الأنبياء. وهذا تناقض واضح بين طرفين في الكلام لا يخلواحدهما من اشكالات علمية في حد ذاته، نناقشها كما يلي:

الإشكال على الإحتفال بنجاة موسى.

إحتفالات اليهود الثابتة

يمكن الإشكال على حقيقة إحتفال اليهود بعاشوراء من عدة طرق أحسنها وأكثرها علمية البحث في أعياد الطوائف اليهودية والبحث فيما يمكن توثيقه خارج المنظومة الحديثية التي خضعت لإملاءات سلطة استفادت سياسياً من ترويج سنة الإحتفال في يوم مقتل الحسين الذي ثار على شرعيتها. وهذا يعني البحث في نصوص الشعر ونسخ التلمود وتفاسير التوراة عند اليهود. فمثلاً، إذا أخذنا منشورات كبريات المراكز البحثية في تاريخ الأديان في العالم وأكثرها مصداقيةً وإستقلالية فإننا لن نجد لدى احتفاليات الطوائف اليهودية المختلفة ما يؤكد تخليد احداهم لذكرى نجاة موسى من فرعون عن طريق الصوم وإبداء الفرحة والسرور. الموجود إحتفالات دينية مثل روش هاشانا (السنة اليهودية الجديدة) ويوم كيبور (نزول موسى من جبل سيناء)، وزمان سمشنتينو(عيد الفرح في اليوم الخامس بعد يوم كيبور)، وسمشات تورا (يوم التعبد)، وهانوكا (حفل المنارة المتعلق بالمعبد) وأسرا بتفيت (المخلد لمحاصرة نابوخاند لبابل)، وتوب شافاط (يوم الربيع)، وبوريم (المخلد لمعاناة اليهود لدى فارس)، وبيساش (الفصح المخلد للهجرة من مصر والمشهور بطبخ خبز على الطريقة القديمة وأكله بسرعة لمحاكاة حالة المهاجرين آنذاك). ويلاحظ وجود مناسبتين مخصصتين للصوم عند اليهود هما: 1. شيفا آه أسار بتاموز (ترتبط بهدم أسوار أراشليم قبل هدم المعبد ولا علاقة له بنجاة موسى). 2. تيشا بي آف ( وهويوم المصائب الذي يخلد ذكرى هدم المعبد وأحداث أخرى وقعت قبل وبعد ذلك في نفس اليوم موسومة بالمجازر والمظالم عند اليهود). وهذا يشير إلى أن الصوم عند اليهود ليس تعبيراً عن الفرح كما يتوهمه الذين لم يطلعوا على واقع الديانة اليهودية. وغير هذه المواسم والإحتفالات فكل ما تجده هو جديد الاحتفاليات اليهودية المرتبطة بالسياسة وإن كانت ذات صبغة دينية مثل يوم "إستقلال إسرائيل" وغيره. فهذه أهم احتفاليات مختلف الطوائف اليهودية التي لها أصل في العهد القديم والتوراة وترتبط بأحداث مهمة في تاريخ اليهود. ولا توجد دراسة تؤكد ما جاء في كتب الحديث عن الإحتفال المزعوم ما يجعل العاقل يرفض هذه الأحاديث جملة وتفصيلاً؛ خاصةً مع العلم أن الطرف المستفيد من وضع هذه الأحاديث هو طرف سلطوي مستبد تعاطى معه جمع من الرواة.

إنه حتى لو افترضنا تنزلاً لإثقال الحجة بأن هذا العيد عيد يهودي يخلد ذكرى نجاة موسى، فإنك تجده يتعارض مع ما هو أكثر إعتبارية من الأخبار ومع قرائن أخرى. فمن الخبر المتواتر بين كل الفرق الإسلامية نهى النبي ص عن التشبه بأرباب الديانات الأخرى. وهذا وإن كان في حد ذاته فيه إختلاف بين علماء الإسلام عامة من جانب التقييد والإطلاق لا مجال هنا للتفصيل فيه، لكن المهم ثبوت الأصل. فإذا كان معلوم ثبوت نهي التشبه باليهود والنصارى في زمن الرسول نهيا يشمل أموراً مثل الملبس والعادات والمواسم والإحتفالات الدينية فإنه الأقوى استحالة تعارض الرسول - والعياذ بالله- مع كلامه بحيث ينهى عن التشبه في مورد ويأمر به في مورد آخر. كما أن هذا القول فيه إساءة كبيرة للرسول من وجهين: أولهما نسبة التناقض في الأقوال إليه، وثانيهما نسبة حاجته إلى الديانات الأخرى في التشريع. فإذا كان من المسلمات في الإسلام نزول الوحي مباشرة على الرسول ص وأن التشريع في الواجب والمستحب ينزل بوحي، فإن القول بسنة مشاركة اليهود في إحتفال نجاة موسى على أساس عارض لم يؤيده القرآن كما في قضايا عدة تحت عنوان "أسباب النزول"، هوقول باطل لا يلتفت إليه.

عن الإحتفال بمولد الرسول ص

لقد قال الدكتور بولوز كلاماً متأنقاً مؤداه أن الإحتفال بمولد النبي بدعة سيئة. وإرتكز على ثلاث نقاط:

 1. النقطة الأولى تكمن في عدم إتخاذ الصحابة ليوم ميلاده واتخاذهم للهجرة بدله. وهنا اشكال وإساءة. الإشكال هو في عدم علمية الإستدلال. فمجرد عدم إتخاذ الصحابة ليوم ميلاد النبي ص في التقويم لا يجعل الإحتفال به بدعة سيئة. فالصحابة في معظمهم تخلفوا عن جيش أسامة الذي ارسلهم فيه الرسول قبيل رحيله، فهل أمر الرسول لهم بشيء خالفوه ولم يأخذوا به بدعة سيئة؟ وقد ترك الصحابة الأوائل جمع السنة وامروا بحرقها كما هو مشهور، فهل جمع كتب الحديث بدعة سيئة؟ ثم إن الإنصراف إلى القول بأن الصحابة لم يسنوا شيئا ما أمام الحضور المقدس للنبي لعمري هو دليل على إعتقاد قائله بأن للصحابة دوراً تشريعياً موازياً لدور الرسول وهذا فيه إساءة لمقامه الشريف. وحتى إن تفطن صاحبنا وأنكر في هذا الصدد هذه العقيدة الفاسدة، فإنه لا يملك إنكار طغيان أحاديث يوافق فيها الله إقتراحات بعض الصحابة كما في الحديث عن أنس قال: قال عمر: وافقت ربي في ثلاث.. قلت يا رسول الله لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزلت: واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى. وقلت يا رسول الله أن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرتهن أن يحتجبن؟ فنزلت آية الحجـاب, واجتمع على رسول الله نساؤه في الغيرة, فقلت لهن: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت كذلك. رواه البخاري برقم ( 4483 ) والنسائي في تفسيره 18 مختصراً، وكذلك الترمذي برقم (2959 ) وابن ماجه ( 2399).

2.النقطة الثانية هي سن الصحابة للإحتفال بالإنجازات كما إحتفل عمر بن الخطاب بحفظ ابنه لسورة البقرة. وهذا الكلام على فرض صحته فإنه لا علاقة له بنوع الإحتفال الذي هو موضوع النقاش. فدليل الدكتور ليس من جنس الموضوع لأن الدليل إحتفال لمرة واحدة والموضوع هو إحتفال مرة كل سنة. ولقد أذهلني التفكر في إحتفال الصحابي في كل سنة بيوم إكمال ابنه حفظ سورة البقرة ما يجعل لهذه الصورة خصوصية مقابل باقي الصور ولربما مقابل كل القرآن، هذا إذا كان ابنه حفظه كله قبل زمن عثمان ! إذا كانت القضية قضية انجازات، فلماذا إذن لا يقوم الدكتور ومن يشاطره الفلسفة بالسعي لسن إحتفال سنوي بذكرى الإنجاز الأكبر وهو إكمال الدين وتمام النعمة لينظم إلى اخوانه الشيعة في تخليد أيام الغدير.. مثلاً!

3. النقطة الثالثة هي حول الممارسات غير الشرعية التي يقع فيها المحتفلون. يقول الدكتور بوروز بعدما أنهكته صنعة التنظير والتكلف فيه: " ثم إن المحتفلين عندنا غالبا ما تغيب عنهم هذه الأبعاد الدينية للمسألة، ويستحضرون فقط أنها مجرد لحظة سنوية للمتعة والانفلات من القيود والضوابط، فتجد الكثيرين ربما يكون أول عهد لهم بالخمرة مثلا هو الاحتفال برأس السنة ومن تلك الليلة يتلبس بالآفة أو تتلبس به فتلازمه في حياته". والملاحظ هو خلطه اشتباهاً عن حسن ظن منا بين إحتفال رأس السنة وإحتفال المولد. فما يجعلنا نعتقد بحديثه عن المولد في هذه الفقرة هو قوله أن الناس لا يحتفلون به لقيمته الدينية. فإذا كان في أول المقال سحب أي قيمة دينية لإحتفال رأس السنة يكون هنا يقصد من الذين يشربون الخمر ويمارسون الموبقات أولئك الذين يحتفلون بالمولد. ثم إن كان قصده الحديث عن حفلة رأس السنة، فهو إذن بتبريره لبدعية الإحتفال على أساس غياب القيمة الدينية لدى المحتفلين، أي أن حضور هذه القيمة يبرر الإحتفال، يقوم من حيث لا يحتسب بنسف أساس مقاله الداعي إلى مخالفة مطلق إحتفالات النصارى وعدم التشبه بهم. وفي كلا الحالتين، لا يصح القول بضلال عمل لمجرد قيام مجموعة من الأفراد بالإساءة فيه. كم واحد ضبط في الحج يتحرش بالنساء؟ هل نعطل الحج لوجود هذه المخالفات ومثلها؟!

الخطاب الديني اليوم في حاجة إلى التوازن المفقود وإلى المزيد من الجدية في التعاطي مع الجماهير. إن مسألة إعادة إنتاج أفكار القرون الوسطى بصيغ مختلفة لن تنجح في كسب نقاط لصالح أي مدرسة دينية كانت. الخطاب الديني اليوم في أمس الحاجة إلى المصالحة مع الذات والخروج بمظهر يكسبه الإحترام والتقدير. فالمظهر الذي هو عليه لا يزيد الجماهير إلا نفيراً ويطلي جواهر الإسلام العظيمة بألوان الرجعية والتخلف. والمظهر المنشود هو تحلي هذا الخطاب بروح المعقولية والمسؤولية والجرأة في الإصلاح.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 8/كانون الثاني/2013 - 25/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2013م