إسلاميون وعلمانيون

عريب الرنتاوي

بلغ الضعف بالعلمانيين العرب، حد الكف عن الجهر بعلمانيتهم، تارة تحت ضغط الابتزاز والتكفير الذي تمارسه مدارس الإسلام السياسي المختلفة، من دون استثناء تقريباً، وأخرى تحت ضغط "الخجل" من تجارب ديكتاتورية وفاشية في الحكم، أُحتسبت على المدرسة العلمانية، والرغبة في التنصل من أوزارها، وتبرئة الذمة والضمير من جرائمها.

ولقد أوغل علمانيون عرب في "التقية"، ولجأوا في سعيهم لنشر إطروحتهم، إلى وسائل وأساليب "الدعوة سراً"، ودخلوا فيما يشبه التواطؤ المتبادل مع مدارس الإسلام السياسي، ولعل الدعوة لدولة "مدنية - ديمقراطية" هي المثال الأبرز على هذه "التقية" التي وإن كان البحث عن مساحة مشتركة بين التيارين العلماني والإسلامي مبررها الأول، إلا أنها جاءت حصيلة الخوف من التكفير والابتزاز.

ولقد شهدنا كيف كانت "الدولة المدنية الديمقراطية" سبباً للقطع لا الوصل، والاختلاف بدل الائتلاف، بين علماني "الربيع العربي" وإسلامييه.. فخلف الإجماع على مدنية الدولة وديمقراطيتها، ذهب الفريقان بالمصطلح الملتبس (الغموض البناء) حتى نهاياته، خصوصاً الإسلاميين، الذي استنبطوا ضرباً من "ولاية الفقيه السنيّة" في دستور مصر 2012، تحت دخان كثيف من المزاعم المدنية والديمقراطية.

ليس من الصعب أن تجد في صفوف الإسلاميين من يكفّر العلمانيين ويخرجهم من الملة.. الأمر لا يقتصر على المدارسة السلفية والجهادية وحزب التحرير، حتى التيارات الأكثر "مدنية" داخل الإخوان، تراهم يرشقون العلمانيين بسهام التكفير و"الخروج على الملّة"، بل أن تيارات وشخصيات منهم، انشقت على جماعاتها، والتحقت بركب "النظم العلمانية" لأسباب سياسية أو انتهازية، تراها "لا تقصر" أبداً في إطلاق النار على العلمانيين الزنادقة، وتنعتهم بما فيهم وما ليس فيهم.

نحن من أنصار التحالف بين الإسلاميين والعلمانيين على اختلاف مدارسهم (ليبراليين وشيوعيين وقوميين ويساريين ووطنيين ديمقراطيين)، بيد أن للتحالف قواعد وشروط، يجب احترامها، أهمها أن يحفظ كل طرف هويته الفكرية والسياسية والعقائدية، وأن لا يجد نفسه مضطراً لإجادة صنوف "التورية" و"التقية" لكي يصبح مقبولاً من الطرف الآخر.. ولا يتعين على العلمانيين "النطق بالشهادتين" في كل مرة أرادوا فيها مخاطبة الإسلاميين، فالدين لله والوطن للجميع، شعار استنبطه الوعي العربي (المصري) قبل قرن من الزمان، ونجد صعوبة في النطق به في أزمنتنا الحاضرة.

وليس مطلوباً من العلمانيين أن يخضعوا لتحليل "DNA"، حتى يبرهنوا لنظرائهم الإسلاميين، بأنهم ما زالوا في عداد "أمة محمد"، هذا نموذج للابتزاز المنفلت من كل عقال، وللخضوع البالغ ضفاف المذلة.. والأهم من كل هذا وذاك، أن علمانيي أزمنتنا المعاصرة، لا يجب أن يؤخذوا بجريرة ديكتاتوريات و"توتاليتاريات"، وإلا لتوجب علينا أخد إسلاميي الربيع العربي، بجريرة "الطالبانية الكريهة" و"مطاوعة الوهابية المتشددة"، وكتاتيب التخلف وكهوف الظلام وفتاواه... كل حركة تقيم بخطابها وممارساتها، وتؤخذ في سياقها السياسي والتاريخي، وإلا دخلنا في جدل بيزنطي، لن ينقطع.

نربأ بالعلمانيين العرب، المتدينين منهم وغير المتدينين، أن يسف خطابهم وتهبط ممارستهم إلى حد الاستنجاد بنظم الفساد والاستبداد، ما هو قائم منها أو من تحول إلى "فلول".. ولا نقبل من الإسلاميين، هذا التحشيد والتحريض البالغ حد إثارة الفتنة وإباحة القتل وإهدار الدماء.. هذه ليست التحالفات التي ترقى إلى مستوى شجاعة وإبداع ثورات الربيع العربي، وهذا طريق غير نافذ، ولا تقع في نهايته سوى الطامة الكبرى.

الدولة المدنية، نقيض الدولة العسكرية والشمولية (الدينية أو القومية) معاً، والدولة الديمقراطية، تستوعب مختلف ألوان الطيف السياسي والفكري، وهي فوق هذا وذاك، دولة علمانية بالضرورة، تستلهم من الدين قيماً ومبادئ، فتحيلها إلى قوانين وتشريعات ناظمة لحياة الناس وعملهم العام، ولا سيد في الدولة المدينة الديمقراطية العلمانية، سوى القانون.

أما رجم العلمانيين بالكفر والزندقة، فتلك وصفة الخراب والطريق المختصر للاحتراب.. فالعلمانيون (بعضهم) متدينون، ألم يدع رجب طيب أردوغان من "قاهرة ما بعد مبارك"، إلى الدولة العلمانية.. والعلمانيون قد يكونوا غير متدينين أو غير مؤمنين كذلك، والعلمانية مدارس ومذاهب، تراوح ما بين نزعة العداء للدين إلى التساكن معه، أليست هذه سنة التنوع في مجتمعات ديمقراطية تعددية، أم أن الديمقراطية عند البعض، هي تجربة الانتخاب الأولى والأخيرة، التي تأت بهم للسلطة، ومن خلفهم الطوفان... وهل التعددية في نظر بعض دعاتها، هي الاعتراف بتعدد مدارس "الإسلام السياسي" وحده دون غيره، فيصبح قوس قزح العربي الجديد، ملوناً بأطياف إخوانية وسلفية وتحريرية وجهادية إلى غير ما هنالك من مدارس وتيارات تندرج تحت هذا العنوان.

من حق الإسلاميين في السلطة أن يأخذوا فرصتهم في ممارسة السلطة والحكم.. ومن حق خصومهم ومعارضيهم من العلمانيين، أن يجادلونهم ويتصدوا لهم في المؤسسات والشوارع والميادين، أليست هذه قواعد اللعبة الديمقراطية... من حق الفريق الأول، أن يختبر برنامجه في الحكم، ومن واجب الفريق الثاني أن يختبر أطروحاته في المعارضة، وبكل الحرية ومن دون افتئات أو ابتزاز أو تكفير أو تخوين أو تزوير.

وما لم يجد الإسلاميون والعلمانيون وسيلة جديدة، لتنظيم خلافاتهم وصراعاتهم، على هذه القواعد من الاعتراف والاحترام المتبادلين، وفي ظل منظومة دستورية وقانونية صلبة في حفظ حقوق الأغلبية والأقلية، فأقرأوا على "الربيع العربي" السلام.

* مركز القدس للدراسات السياسية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/كانون الأول/2012 - 11/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م