فقه الدولة: دور القوى الاجتماعية في ممارسة السلطة

الشيخ فاضل الصفّار

إن الاستقراء الخارجي يدلنا على عدّة آليات لممارسة السلطة قامت عليها أنظمة الحكم في مختلف دول العالم، وهي قد تتفق مع موازين الإسلام في الأصل وإن كان للشرع في تفاصيلها وجزئياتها رأي توسعةً أو تضييقاً، كما أن هناك آليات أخرى انفرد بها النظام الإسلامي على ما يستفاد من مجمل أدلته اللفظية واللبية يمكن جعلها فيما نحن فيه قواعد أساسية لممارسة السلطة، ومن أهمها ثلاث:

1- الأحزاب السياسية.

2- القوى الاجتماعية.

3- الأمور الحسبية.

وقم تم الحديث في الفصل الاول حول الاحزاب السياسية وفيما يلي سيكون الحديث عن الفصل الثاني:

القوى الاجتماعية

 ونعني بها كل ما له قوة التأثير على الشعب أو السلطة، وهو يشمل الخصوصيات الفردية والاجتماعية؛ إذ لا يخلو أي مجتمع من وجود أشخاص لهم وجاهة ونفوذ مالي أو علمي أو اجتماعي يملكون التأثير على الناس وتحركهم باتجاه الأهداف العليا والوسطى للبلد، وقد نهض الكثير من الحركات الاجتماعية في أبعادها الإيجابية غالباً أو السلبية نتيجة التأثير بمثل هذه الفعاليات، كما أن الخصوصيات الجماعية التي تعد من أهم وسائل ممارسة السلطة وأقواها تأثيراً غالباً ما تنشأ من أنشطة فردية، أو تقوم على جمع من الأفراد الذين لهم هذه القدرة وإن كانت الحالة الجماعية والنظام المؤسسي يضفي عليهم المزيد من القوة والتماسك والفاعلية والتأثير.

 وفي الحديث الوارد في كتب الفريقين «يد الله مع الجماعة»[1] والمراد منه على ما ربما يبدو للنظر هو القوة كناية عن التأييد والنصرة؛ بداهة عدم صحة حمل اليد على المعنى الظاهر، أي اليد الجارحة لمنافاته لحكم العقل القاضي بإقناع ثبوت الجسم والجسمانية للباري عز وجل، فيستفاد منه أن العمل الجماعي هو الأقوى في تحقيق الغرض لكونه كبيرا بالتأييد الالهي. هذا من حيث الحكم الوضعي، وربما يستفاد منه الوجوب تكليفاً؛ وذلك بناء على كفاية الملاك في وجوب الامتثال، او لاستقلال العقل بحسن تحصيل النصرة الالهية للقطع بالنجاح والوصول الى المطلوب أو للملازمة بين ما يحكم به العقل بلزوم تحقيق الغرض المولوي وما يحكم به الشرع على ما فصل في الأصول[2]. نعم بناء على عدم كفاية الملاك فإنه يحمل على الاستحباب إلا إذا انضمت إليه ضرورة عقلية أو حجة شرعية ملزمة، فحينئذ يحمل على الوجوب.

المؤسسات الاجتماعية

 تضم القوى الاجتماعية عدة أشكال وصور لعل من أهمها العمل المؤسسي القائم على نظام الفرق والهيئات والجماعات والتي ربما يجمعها عنوان مشترك واحد، وهو ما يصطلح عليه بالمؤسسات على اختلاف أنحائها، والمؤسسة في اللغة جمعية او معهد او شركة اسست لغاية علمية، أو خيرية، أو اقتصادية، وفعلها أسّس[3] أو أسّ[4]، اي بنى وأنشأ، والأساس القاعدة، وفي قوله سبحانه: {افمن أسس بنيانه على تقوى من الله}[5] المعنى: افمن اسس بنيان دينه على قاعدة محكمة[6].

وعليه، فان المؤسسة تتضمن مشروعا او نشاطا جماعيا لتحقيق هدف ما، فهي تدل على التأسيس والإقامة، لكنها في العرف العام تطلق على الجماعات المنظمة لأجل عمل ما وتحقيق غاية ما، وهو مأخوذ من بعض معانيها اللغوية، فيقال مؤسسات سياسية وإدارية ودينية وإعلامية وفكرية وهكذا، ويتميز النشاط المؤسسي عن غيره مضافاً إلى قوة تأثيره وشدة تماسكه وفاعليته بأمور:

1. الاستقلالية عن العناصر المتشكلة منها وتميزها عن هذه العناصر، فلذا تضيف إليها شيئاً جديداً زائدا على قوة أفرادها لم يكن موجوداً لديها من قبل هو قوة الجماعة المنضوية تحت المؤسسة.

2. الاستمرارية؛ إذ إن المؤسسة تتميز عن الأعمال الفردية باستمراريتها وديمومتها، فلا يرتهن وجودها بحياة فرد أو عدة أفراد، بل بالوظيفة التي تؤديها في النظام الاجتماعي والسياسي.

3. توحيد الجهود والطاقات؛ إذ تتشكل المؤسسة غالباً تلبية لفكرة أو حاجة اجتماعية، فتخلق لدى أفرادها شعورا بالاختلاف والتمييز تجاه الآخرين، وتضطرهم إلى الدفاع عنها؛ لأنها تصبح تعبيراً عن وجودهم ودورهم الاجتماعي.

4. التكامل والتنسيق بين أفرادها وبينهما وبين المؤسسات الأخرى فيكمل أحدها الآخر في تضافر من الجهود والامكانات.

ومن هنا يظهر أن مفهوم المؤسسة يتعارض من حيث المبدأ مع مفهوم العقد أو التعاقد؛ إذ إن التعاقد لا يدوم إلا بدوام الشروط والالتزامات، في حين أن المؤسسة تستمد ديمومتها من الوظيفة الاجتماعية التي تؤديها ومن مصالح الجماعة المرتبطة بها، كما أن التعاقد هو تعبير عن اتفاق بين إرادتين، بينما تعبر المؤسسة عن إرادات عدة متجسدة في إرادة واحدة وسلطة وقرار واحد، والظاهر انه لا توجد نظرية واحدة للمؤسسة، بل هناك عدة نظريات تتصل بميادين متعددة، فكل ميدان من ميادين التخصص في العلوم الاجتماعية يجعل منها مركز تأثير على الأفراد وعلى أفكار الناس واتجاهاتهم ومواقفهم، كما لها تأثير مباشر أو غير مباشر على السلطة الحاكمة، مما يجعل المؤسسة عنصراً هاماً في ممارسة السلطة من القاعدة إلى القمة، ومن القمة إلى القاعدة.

وقد أثبت علماء النفس الاجتماعي أن التبادل بين الأفراد يخضع بشكل رئيسي إلى علاقات مؤسسية، والمؤسسة هي الإطار الطبيعي لهذا التبادل، والدولة بمعناها المنتظم هي الأخرى مؤسسة كبرى تدير شؤون البلد والناس. هذا وربما تتخذ المؤسسات أشكالاً وأنظمة عدة، ولكن اختلاف الصيغ والأشكال لا يضر بوحدة الهدف ومشروعية الدور الذي تمارسه.

 ولا يخفى وجوب قيام المجتمع والدولة على أساس المؤسسية لو توقف على ذلك حفظ الحقوق أو الدفاع عنها، أو تطوير البلد وقيادة الناس إلى الرفاه، أو توعيتهم وإرشادهم إلى ما يوجب علوهم ونفي هيمنة الكفار عنهم، ويدل على ذلك طائفة من إطلاقات وعمومات الأدلة الأولية والثانوية، فمن الأولية قاعدتا العلو ونفي السبيل، وكذا الأمر بالمعروف والدعوة إلى الخير وإرشاد الجاهل وتنبيه الغافل وإعداد القوة والمعاونة على البر والتقوى وما أشبه، ومن الثانوية أدلة رفع الضرر والأهم والمهم ونحوهما؛ بداهة أن العمل المؤسسي من مصاديق كل ذلك، فيمكن أن يستدل بها على وجوبه من جهتين:

إحداهما: العقد الإيجابي، بمعنى أن القيام به يوجب قوة المسلمين وعلوهم وتوعيتهم ونشر المعروف والإصلاح بينهم، وهذه في مجملها واجبة عقلاً وشرعاً.

ثانيهما: العقد السلبي، بمعنى أن عدم القيام بذلك يوجب ضعفهم وهيمنة الكفار عليهم وتخلفهم وإضرارهم ونشر الفساد بينهم، وهي بمجملها قبيحة عقلاً، ومحرمة شرعاً، فيدل على الوجوب حينئذٍ إما من جهة الملازمة بين الأحكام على بعض المباني[7]، أو جهة اقتضاء النهي عن الضد الأمر بضده على مبنى جمع من الأصوليين[8]، أو من جهة أدلة النهي عن المنكر والفساد ونحوها[9].

هذا وعلى فرض المناقشة في بعض الأدلة المذكورة من حيث الصغرى فإن الظاهر أن مجموعها من حيث المجموع يفيد الفقيه اطمئناناً بشمولها لما نحن فيه ولو إجمالا، وهو يكفي لإثبات المطلب. نعم هو من قبيل الواجب الكفائي التخييري، فإن قام به جماعة سقط عن الباقين، كما أن الأصل عدم تحديده بصيغة أو نظام معين، فيشمل كل ما تراه الأمة أو الحكومة العادلة مناسباً للقيام بالمهام والوظائف والأدوار. نعم لو انحصر بأسلوب أو نظام خاص كما قد يراه البعض في مثل الأحزاب فحينئذٍ يتعين الأخذ به، لكن الأمر راجع إلى تشخيص أهل الخبرة كما هو الشأن في الموضوعات المستنبطة أو الخفية.

مؤسسات ممارسة السلطة

لعل الاستقراء الخارجي يدلنا على أن من أهم المؤسسات الفاعلة في ممارسة السلطة اثنتين:

إحداهما: جماعات الضغط بأنحائها.

وثانيتهما: المؤسسات الإعلامية.

أما جماعات الضغط فهي منظمات تضم مجموعات من الناس ذات مصالح مشتركة، وتمارس نشاطاً سياسياً أو نقابياً طبقياً أو اجتماعياً أو فكرياً ونحوها بقصد التأثير المباشر أو غير المباشر على سياسة الدولة ومواقفها أو على مواقف سلطات الحكومة وعملها لصالح هدف معين أو جماعة معينة تحقق أغراض الجماعة، ويستخدم هذا التعبير أكثر ما يستخدم في الدول ذات المجالس الحرة والسلطات المنفصلة واقعياً، وجماعات الضغط على أنواع:

فمنها: ما هو سياسي، وهو ما يصطلح عليه بينهم باسم لوبي، فيقال اللوبي الإسلامي مثلاً.

ومنها: ما هو نقابي أو مهني أو اقتصادي بقصد المنفعة المادية الذاتية أو الفئوية.

 ومنها: ما هو إنساني للحث على رعاية الطفولة او المرأة والعناية بالشيخوخة مثلاً.

ومنها: ما هو اجتماعي، كالمحافظة على البيئة أو المجتمع، كإنقاذه من المخدرات أو حمايته من الأوبئة أو مكافحة الجهل والأمية.

ومنها: ما هو محدد بغرض معين، كجماعة سجناء الرأي أو المدافعين عن المظلومين.

 ومنها: ما هو غير ذلك مما يرتبط بشؤون المجتمع السياسية والفكرية والاجتماعية.

وتمارس جماعات الضغط دورها عبر وسائل الاتصال المختلفة، كالاتصال المباشر بأعضاء السلطة وبأعضاء المجالس التشريعية، كما تستخدم في ذلك وسائل الإقناع والعلاقات والهدايا والحفلات والولائم والوعود بالتبرع، أو الانضمام الصوتي في أثناء الحملات الانتخابية، أو ما أشبه ذلك، وهذه في مجملها جائزة لأصالة الإباحة مالم يشتمل أو يستلزم محرما لو لم تقم الأدلة الخاصة على وجوب بعضها أو استحبابه. نعم بعض جماعات الضغط تستخدم وسائل غير مشروعة للوصول إلى أهدافها، وقد تطورت بعض أساليب هذه الجماعات للتأثير على الدول والحكومات عبر تأسيس مراكز دراسات فكرية وإعلامية مجهزة بالباحثين والكتاب والمعلومات والدراسات والنشريات؛ لتقديم الحجج لصالح الجماعة المعنية، وتزويد المسؤول التنفيذي أو التقنيني بمعلومات وبحوث تخدم غرض الجماعة الضاغطة، أو تعبىء الرأي العام، وبالتالي تؤثر على الحكومة والمجالس بطريقة غير مباشرة، وتستخدم وسائل الاتصال المختلفة للتأثير على فكر الحاكم أو الحكومة. هذا ولا يخفى أن الدول والحكومات تعاني من هذه الجماعات من جهتين:

 أحداهما: تمويل هذا النشاط.

 وثانيتهما: لجوء بعض جماعات الضغط إلى أساليب ملتوية ومفسدة أحياناً، وفي بعض الأحيان تحقق أغراضها على حساب الصالح العام.

وهذه من المسائل التي دعت البعض إلى الشك في النظام الذي نشأت على جوانبه هذه الظواهر؛ لذا ينبغي إيجاد حل وسطي يجمع بين الحرية وحق الدفاع عن النفس وشؤونها وبين دفع الأضرار والأخطار الناجمة عنها، وهذه مهمة ترجع إلى السلطة التشريعية في الغالب.

 وكيف كان، فالجماعات الضاغطة هي الوسيلة الطبيعية للتعبير عن إرادة الطبقة المحكومة. هذه الطبقة تجد في الجماعات الضاغطة المنبر الذي تعبر من خلاله عن حاجاتها ومعتقداتها في وسط سياسي وثقافي واجتماعي متباين، وبما أن الأحزاب السياسية وبرامجها لا تعبر دائما عن كافة ميول الشعب ونزعاته واتجاهاته فكان من الضروري في المجتمعات الحرة السماح بنشأة المؤسسات المتعددة التي تعكس مختلف التيارات والآراء، ومن أهم هذه المؤسسات هي النقابات والتجمعات الاعتقادية والأخلاقية، كالمؤسسات الدينية وغيرها من التجمعات ذات النزعات المختلفة ووسائل التعبير والرأي العام، كما أن من أهم وسائل ضغط هذه الجماعات هو السماح بنشاطها العلني الواقع تحت الرقابة العامة للشعب، فإن السرية والخفاء ينطويان على الكثير من المحاذير.

خصائص جماعات الضغط

 حتى تحظى جماعات الضغط بالشرعية لابد أن تتسم بالخصائص التالية:

الأولى: الإيجابية؛ إذ ينبغي على هذه الجماعات استخدام الضغط السياسي أو الإعلامي أو الاجتماعي بلا توتر أو عنف، ولا تمرد على النظام العام، وإلا كان فوضى واضطراباً، كما ولا تستعمل هذه الجماعات الضغط السلبي بتحطيم الممتلكات العامة أو الخاصة، أو عرقلة المواصلات وإرهاب الناس بالشوارع، أو حرق المباني ونهب الحوانيت والقتل والجرح وما أشبه لتحقيق أهدافها؛ لأن كل هذا ظلم وفساد وعدوان.

 نعم، من أقوى مظاهر الضغط الجائز ــ بل لعله أفضل الوسائل لاسترداد الحقوق ــ هو التوعية والقيام بالإضرابات والمظاهرات السلمية ومراجعة القوى الحاكمة في الدولة والتأثير على زعمائها ومؤسساتها. وفي الحديث الشريف «بالرفق تدرك المقاصد»[10] و«من ترفّق في الأمور أدرك إربه منها»[11] وفي آخر: «الرفق ييسّر الصعاب ويسهل شديد الأسباب»[12] وفي رابع: «الرفق في المطالب يسهّل الأسباب»[13].

الثانية: التوازن، بأن يكون الضغط ضمن خطط مدروسة ولفترة معينة تبدي فيها الجماعة احتجاجها على السلوك المتبع في رعاية مصالحها، أو المصالح العامة جمعاً بين الحقوق.

الثالثة: العدل، بأن تكون مطالب القوى الضاغطة في إطار العدل والإنصاف؛ إذ قد تكون مطالبها غير عادلة مما يضر إعطاؤها للآخرين، خصوصاً إذا كانت القوى الضاغطة مرتبطة بخارج البلاد، كما هو الحال بالنسبة إلى الصهيونية المتواجدة في أمريكا وفرنسا وبريطانيا، حيث إنها تلاحظ الشبكة العالمية للصهيونية من ناحية ومصلحة الكيان الصهيوني من ناحية ثانية، ولا تهتم بمصالح البلاد التي تقطنها، وإنما تضغط على تلك البلاد لأجل مصالحها الخاصة، مما يخل بتوازن البلد، وينتصر للظالم على المظلوم، ويبيح له العدوان وما أشبه في فلسطين وغيرها.

فاللازم أن تلاحظ السلطات الثلاث في الدولة قدر العدل في القوة الضاغطة فتعطيها، ولا تتعدى ذلك، حيث يوجب الفوضى والاضطراب واختلال التوازن والظلم والعدوان، فقد تزعج القوى الضاغطة السلطة التشريعية مثلاً فتشرع قانوناً ليس في مصلحة البلاد، أو تطلب القوة الضاغطة تنحي السلطة التنفيذية عن الحكم بحجة عجزها عن حل المشاكل، فإذا استجابت السلطة التشريعية لذلك كان معناه ضعف السياسة إلا إذا كان الحق مع القوى الضاغطة، وهذا يتطلب تقنينات وتشخيصا من أهل الخبرة وضوابط لضبط القضية.

الرابعة: المسؤولية؛ إذ لا يجوز للقوى الضاغطة أن تكون معيقة للنظام ومخلة بالحرية، أو محرفة للحقائق، بل يجب عليها أن تكون عوناً على النظام والعدل ووضع الأمور في نصابها الصحيح واسترداد الحقوق الضائعة وما أشبه، وفي الحديث الشريف: «ثبات الدول بإقامة سنن العدل»[14] و«لن تحصن الدول بمثل استعمال العدل فيها»[15].

ومن هنا كان اللازم عزل المتطرفين في القوى الضاغطة حتى لا يتعدوا حدودهم، وتجنيب المسؤولين عن النظام الدخول في القوى الضاغطة، وإلا كان ذلك تمهيداً للانحراف واختلال التوازن، فاللازم على القوة التشريعية أن تعرف قدر وقيمة الجماعات الضاغطة حتى لاتخطىء في اعطائها دون قدر العدالة، أو فوق قدر العدالة؛ إذ كلا الأمرين يمثل انحرافا عن الحق، بالإضافة إلى أن إعطاءها فوق حقها يشكل خطرا على اقتصاد البلاد وميزانيتها ورؤوس أموال الشركات وأرباحها والنظام الاجتماعي فيها. وقد عرفت أن الجماعات الضاغطة تكون صحيحة شرعاً فيما إذا قامت بواجب إحقاق الحق وإبطال الباطل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلم تتعد الحق، ولم تطلب الأمر للجائر، فهي بالنتيجة جماعة، وفي الحديث الشريف: «يد الله مع الجماعة»[16] لكن بشرط الالتزام بالموازين الشرعية.

النقابات المهنية ودورها في العمل السياسي

عرفنا أهمية جماعات الضغط ودورها في ممارسة السلطة، وينبغي هنا التعرّض ولو بعض الشيء إلى التكتلات المهنية أو مايسمى بالنقابات؛ لكونها من أبرز الجماعات الضاغطة على أنظمة الحكم في مختلف دول العالم؛ بداهة أن النقابات أسست في الأصل لتكتل جماعة خاصة من الأمة لأجل رعاية مصالحها، من قبيل العمّال والمزارعين وأصحاب الحرف الذين يقوم عليهم اقتصاد البلد عادة، والاقتصاد من أهم أركان الحياة البشرية، ومنذ قديم الأيام كانت بيد والد السيد المرتضى والسيد الرضي قدس الله أسرارهم نقابة الطالبيين، وكان هدفها رعاية شؤون ذرية رسول الله (صلى الله عليه وآله) كما ورد في جملة من التواريخ[17].

ولما انتقلت علوم المسلمين إلى الغرب وعرفوا فائدة هذه القدرة شكلوا أول نقابة في بريطانيا، وقد اعترفت بمشروعيتها الدول الصناعية، وأخذت تنتشر هناك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي، وكان الاعتراف بها في المملكة المتحدة على نطاق واسع، ثم اعترفت فرنسا بالنقابة في عام 1884م، وهكذا توالت البلاد الصناعية في تكوين النقابات للعمال[18].

وقد عرفت جواز مثل هذا العمل شرعاً، بل قد يجب إذا كان من طرق ضمان الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومنع الظلم والإجحاف، ولم يتوقف أمر النقابات إلى حد نقابة العمال، بل تعدّته إلى نقابات الفلاحين والمعلمين والأطباء والمهندسين والصيادلة والطيارين إلى غير ذلك من أصحاب المهن وعمال المصالح.

وتخضع النقابات الحرة إلى أنظمة ومناهج في الإدارة وفي كيفية العمل، وهناك مجلس إدارة لها وأعضاء منتخبون وانتخابات حرة للجمعية الإدارية بحسب دوريات معينة، ثم تجاوز العمل النقابي الشؤون الحرفية الخاصة للتأثير على السياسة، وكانت هي النواة الأولى لتكوين الأحزاب العمالية في مختلف البلدان الصناعية في الغرب وغيره، وحاولت أن تستغل مثل ذلك الشيوعية أيضاً، فتجعله سلماً إلى السلطة وإقامة نظام ديكتاتوري مستبد على أكتاف العمال.

وفي الفقه السياسة: إنما تدخلت النقابات في السياسة لأجل أن توصل أصوات العمال... ومطالبهم إلى مسامع مجلس الأمة لإجبار السلطة التنفيذية على اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن إنصاف العمال، وبقيت نقابات لم تربط نفسها بالسياسة كاملاً وإن كان لها دلو من الدلاء في هذا المجال، وحيث إن النقابات تحتاج إلى المال لأجل شؤون العمال حال البطالة والمرض والشيخوخة وما أشبه كان لابد لها من وضع صناديق لجمع المال والاتجار به للاسترباح لغرض وفاء الحاجات، لا لغرض التجارة على غرار الشركات، وإلا خرجت عن نظام النقابات إلى نظام الشركات[19].

وكيف كان، فإنه لا تضر التسميات فيما ذكرنا لو توفرت سائر الشرائط، فسواء سميت الجمعية العاملة بالنقابات أو بالتعاونيات أو بالهيئات أو الاتحادات أو ما أشبه فإن ذلك لا يضر؛ إذ لا مشاحة في الاصطلاح، وإن كان بعضها أفضل من حيث الشكل والمضمون.

المؤسسات الإعلامية

اما المؤسسات الإعلامية، فقد كانت تمارس دوراً مهماً في ممارسة السلطة في جهات أربع: من جهة الحكومة على الشعب، ومن الشعب على الحكومة، ومن الحكومة على الحكومة، ومن الشعب على الشعب، وللإعلام طرق ووسائل لممارسة هذه السلطة.

منها: الإعلام المرئي والمسموع، فقد كانت وسائل نقل المعلومات منذ القديم موضع اهتمام المجتمعات كافة، وعلى مختلف العصور والأزمنة، وفي بعض المصادر ذكرت بعض الوسائل البدائية للتعبير؛ إذ كانت النار على سفوح الجبال والروابي تستعمل للإعلام، وكذا استعمال العدائين والطبالين والملصقات والمراكب وحتى الحمام الزاجل في بعض الأدوار، فالبندقية مثلاً كانت مركزاً للمعلومات التجارية[20]، وتاجر البندقية هو في الوقت عينه بائع أخبار.

وقد تطورت الوسائل الإعلامية بمختلف صورها، وزادت فاعليتها في التأثير على الرأي العام، غير أن تأثيرها السياسي ما زال محدوداً ويختلف باختلاف الوسيلة الإعلامية المستعملة، لكن المذياع والتلفاز يتمتعان بتأثير فاعل ومباشر على الرأي العام، وإن كان تأثيرهما على السلطة السياسية محدوداً، نظراً لخضوعهما عادة لسيطرة الحكومات أو أصحاب النفوذ والقدرة؛ إذ تتصف غالباً بالتحيز نظراً لوقوعها تحت تأثير الجهات المموّلة والنافذة، كما هو الحال بالنسبة إلى الدول الغربية و الأمريكية، وكما تقع أيضاً تحت تأثير الجهات الحاكمة في الدول المستبدة.

ومنها: الإعلام المقروء، وأبرزه الصحافة، فإنها تعد أولى الوسائل الإعلامية، وتبقى الوسيلة الأكثر فعالية في التأثير على الرأي العام، فالصحافة هي السلطة الرابعة في الدولة على ما يقولون، وعلى حد تعبير بعضهم هي الحرب من أجل الحقيقة، وقد كانت السبب في تعرض الكثير ممن امتهنها للقتل والسجن وغيرها من المشاكل، وقد سببت بعض الصحف سقوط بعض الحكومات، وقد ذكرت بعض المصادر أن جريدة الواشنطن بوست الأمريكية أدى كشفها لفضيحة «ووترغيت» إلى استقالة الرئيس نيكسون، ومن الواضح أن الصحف تمتلك القدرة الهائلة على التأثير في السلطة أو ممارستها إذا تمتعت بالكفاءة والحرية والاستقلال.

ومن أبرز مظاهر قوة الصحافة في التأثير على الرأي العام هو شموليتها وفوريتها ووحدويتها لكونها وسيلة اتصال بين الآراء، وهي البوتقة التي تنصهر فيها الأخبار، فالقراء والمستمعون في طول البلاد وعرضها يستطلعون الخبر والمعلومة، وهذا يوحد اهتمامهم أيضاً في القضايا المشتركة والمصالح العامة، فتطابق المعلومات والتصورات يجعل من الصحافة عنصراً مؤثراً في الرأي العام.

 ومنها: الوسائل الشعبية، ففي البلدان الحرة حيث الحياة السياسية فاعلة يتكون الرأي العام في صعد عدة، ومن أهمها المراكز الشعبية وأماكن اجتماع الناس، كالصالونات والنوادي والمقاهي وغير ذلك، مع أن في الفترة المتأخرة ضعف الاهتمام في المقاهي وتقلص دورها في التأثير على الرأي العام بفعل الأجهزة الإعلامية الحديثة، لكنها تبقى هي الأماكن المفضلة للطبقات الوسطى لتكوين الرأي العام، خصوصاً في البلدان التي تعاني من التخلف التقني والصناعي؛ إذ تجتمع في هذه المقاهي مختلف شرائح المجتمع لقراءة الأخبار او استماعها ومناقشتها.

وكيف كان، فإنه يعتبر الرأي العام من أفضل الوسائل في ممارسة السلطة السياسية، ومعظم الأنظمة الحاكمة على اختلاف مناهجها وأساليبها في الحكم تعد حكومات رأي، وتستند على جزء كبير أو صغير من الرأي العام، كما أن كسب ثقة الرأي العام هو هدف كل قوة تسعى إلى السلطة لغرض التأثير عليه؛ لأنه أقوى عوامل قوة السلطة وهيمنتها.

الرأي العام والسلطات الحاكمة

 تختلف استجابة الأنظمة الحاكمة لقوة الرأي العام بحسب بنيتها السياسية، وربما يمكن تصنيفها كالتالي:

 الأول: الأنظمة الملكية، فإنها عادة ما ترفض الخضوع للرأي، وتعتبر أن الرأي العام هو قوة سيئة ومصدر أخطاء وفوضى واضطراب، ولذلك تحاول السلطة أن تناى بعيداً عن تأثيراته وتقلباته، بل في بعض الأنظمة يعد الملك هو الممثل للمصالح الجماعية ولاستمرارية السلطة، فله حق عمل كل ما يراه صحيحا دون اعتبار للرأي العام، ويزداد استضعاف الرأي العام في مثل هذه الأنظمة إذا كانت نخبوية؛ لأنها ترى الرأي العام ضعيفاً وجاهلاً، والسلطة تتمركز بين يدي جماعة من الاختصاصيين والنخبويين، وهؤلاء يحق لهم معارضة الرأي العام لصالحهم لما يتمتعون به من الخبرات والدراية في إدارة الدولة.

 الثاني: الأنظمة المستبدة، فإنها على اختلاف أنحائها تعترف للرأي بمكانة مهمة في ممارسة السلطة السياسية، لكنها تحتكره لصالحها؛ إذ تعتمد على رأي واحد صالح في المجتمع لكن من الزاوية التي تراها الدولة ويراها الحاكم المستبد فيها، ثم تليها بعد ذلك مرحلة تنظيم الرأي، وذلك بالقضاء على العفوية والحرية في الرأي، وإعطاء الرأي حالة من التقنين والضغط، وجعله عضواً من أعضاء الدولة المتجسد في الحزب الواحد، والحزب الواحد هو في الحقيقة تنظيم رسمي لرأي مميز أصبح عاماً، وهذا الرأي هو المسموح به والذي يعطي للدولة قوة ومتانة، ويوحد الجميع تحت قدرته، ويلغي جميع الآراء المخالفة له.

 الثالث: الأنظمة الحرة، وهي عبارة عن حكومات رأي في الواقع؛ لأن الدولة التي تحظى بالشرعية في مثل هذه الأنظمة هي التي تتولى الأمور عبر الانتخابات، وتخوّل الرأي العام أن يحكم بوساطة المؤسسات القائمة، فالرأي العام يحكم ويعطي التوجيهات الأساسية في جو من الحرية والمساواة، فحرية تكوين الرأي تسمح بتعدد الآراء، والرأي الأقوى يتغلب على الأضعف من دون لجوء إلى العنف، كما أن المساواة في الرأي تسمح بالحوار والنقاش وانتقاء الأسلم من بين مختلف الآراء حتى تتوصل المؤسسة الحاكمة إلى الرأي العام.

وغالباً ما تحظى مثل هذه الدول ــ على اختلاف نسبة الحرية فيها ــ بمراكز دراسات ومؤسسات فكرية وإعلامية تنير الرأي للشعب والسلطة، وتسعى للتأثير على كليهما لأجل الصالح العام، ومن أبرز سمات هذه الأنظمة هي أن الحكومات يجب أن تنبثق بصورة مباشرة أو غير مباشرة عن الرأي العام؛ ولذا تهتم في خدمة هذا الرأي ولكسب ثقته واعتماده، لأنها منه تستمد كيانها وقدرتها واستمراريتها.

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://www.annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

 ..........................................

[1] نهج البلاغة: ص148 الخطبة 127 ؛ صحيح الترمذي: ج4 ص466 ح2166 ؛ شرح نهج البلاغة: ج10 ص280 ؛ كنز العمال: ج1 ص206 ح1030.

[2] هداية المسترشدين: ص222-229 ؛ فوائد الاصول: ج3 ص21-23 ؛ منتهى الاصول: ج2 ص46- 49.

[3] انظر لسان العرب: ج7 ص301 اسس، المنجد: ص23 اسس.

[4] مفردات الفاظ القران الكريم: ص75 اسس.

[5] سورة التوبة: الآية 109.

[6] مجمع البحرين: ج4 ص45 اسس ؛ المنجد: ص24 اسس.

[7] هداية المسترشدين: ص222-229 ؛ فوائد الاصول: ج3 ص21-23.

[8] كفاية الاصول: ص129-137 ؛ مقالات الاصول: ج1 ص339-344 ؛ منتهى الاصول: ج1 ص300-304.

[9] لقوله تعالى: {ولاتعثوا في الارض مفسدين} سورة البقرة: الآية 60 ؛ وقوله تعالى: {ولاتبغ الفساد في الارض} سورة القصص: الآية 77، وقوله تعالى: {وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي} سورة النحل: الآية 90.

[10] تصنيف غرر الحكم: ص244 رقم 4981.

[11] تصنيف غرر الحكم: ص244 رقم 4987.

[12] تصنيف غرر الحكم: ص244 رقم 4993.

[13] تصنيف غرر الحكم: ص244 رقم 4997.

[14] المصدر نفسه: ص340 رقم7761.

[15] المصدر نفسه: ص340 رقم7769.

[16] نهج البلاغة: ص148 الخطبة 127؛ شرح نهج البلاغة: ج10 ص280؛ صحيح الترمذي: ج4 ص466 ح2166 ؛ كنز العمال: ج1 ص206 ح1030.

[17] انظر عمدة الطالب: ص185ــ 191؛ الغدير:ج4 ص181؛ شرح نهج البلاغة: ج1 ص31؛ معجم رجال الحديث: ج16 ص19 ــ 23.

[18] الفقه كتاب السياسة: ج106 ص150-151 بتصرف.

[19] انظر المصدر نفسه: ص152 - 153.

[20] الموسوعة العربية الميسرة: ج2 ص926.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 25/كانون الأول/2012 - 11/صفر/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م