الدولة المدنية ودور الرأي العام

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: نقصد بالرأي العام، بلورة رأي ينطوي على أكثرية واضحة، تهدف الى مكسب سياسي أو اقتصادي او اجتماعي وسواه، في ظل دولة مدنية قوية مستقرة تحمي حقوق ابنائها، ويكون للرأي العام فيها قصب السبق في تحقيق المغيرات الهامة التي تعمل على تحقيق حاجات المجتمع المتنوعة والموزعة بين السياسة والاقتصاد والتعليم والصحة وغيرها.

وفق هذا التصور لا يمكننا أن نتوقع بناء دولة مدنية، ما لم يتوافر الرأي العام بقوة، ويظهر دوره الحاسم في تحديد وتشكيل مسارات الاحداث، وثمة مرتكزات اساسية تدعم الرأي العام وتسانده وتجعله اكثر قوة وتفاعلا وتوغلا بين جماعات وشرائح المجتمع المختلفة، لأن الرأي العالم لا يمكن بلورته على نحو منفرد، والجهد الفردي هنا سيؤول الى الفشل حتما، بمعنى يستدعي تكون الرأي العام وتوجيهه جهدا جمعيا، عبر تنظيم حزبي او منظماتي، يتحرك بصورة جهد جماعي وليس فردي، لكي يكون الرأي أكثر حضورا وتأثيراعلى الاحداث وصناعة القرار في وقت واحد.

تنوّع الرأي العام

من المصاعب التي تجعل تركيز الرأي العام وتوحيده أمرا صعبا، أنه مجزّأ ومتنوع، بمعنى أن الطروحات والافكار وحتى الاهتمامات التي يتشكل منها الرأي العام كثيرة مختلفة مجزأة، وقد تكون متناقضة احيانا، لذا من الصعب تحقيق عنصر التوحيد والتركيز في هذا المجال، إلا وفق شروط وجهود جمعية متعاونة.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، حول هذا الموضوع، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (الشورى في الاسلام): (إنّ الرأي العام مجزَّءٌ ومتنوعْ، أي انه غير موحد، وإذا لم يجر تقنينه في إطار حزب ما فانه لن يكون له تأثير يُذكر، لكن الحزبَ يصنّف الآراء والاتجاهات المتباينة ويوجد لها قاسماً مشتركاً ويبلور بذلك الرأي العام، أي انه يجسِّد رأي الأكثرية).

وهكذا في الدولة المدنية تظهر الحاجة الكبيرة الى الفكر الجماعي للمساعدة في بلورة الرأي وتركيزه ودفعه الى التمحور حول فكرة او هدف يعمل على توحيد الآراء الفردية وآراء الجماعات، ومن ثمة وضعها جميعا في بوتقة الرأي العام الذي يتوحد في مسار واحد ساعيا في طريقه الى تحقيق الاهداف المعلنة والمطلوبة، ومن الصعوبة بمكان أن يتم هذا الامر بعيدا عن التكتل الحزبي السياسي الذي يمكن من خلاله طرح الفكر الايدلوجي وبثه في مسارات متعدد لاعضائه لكي يتحقق الترابط بينهم، ومن ثم يتم التوحيد بينهم في الرأي والاهداف ايضا.

ولهذا هناك مهام اساسية على الحزب السياسي، ينبغي القيام بها من اجل كسب الاعضاء وافراد وجماعات المجتمع اليه، لكي يكون مؤثرا فيهم، ولكن لا يمكن أن يتم ذلك من دون مشروع وبرنامج فكري عملي واضح وسهل التطبيق، يراعي المستوى العقلي لجميع الناس، ويعمل على تثقيف أعضائه لكي يضمن بلورة رأي عام ضاغط على صناع القرار لتحقيق الافضل دائما.

يقول الامام الشيرازي في هذا الصدد بكتابه المذكور نفسه: (إنّ كلَّ حزبٍ لابد وان يعلن خياراته ومرشحيه وأن يجعل الناس قادرين على اختيار المذهب السياسي الذي يريـده الحزب والالتحاق بتنظيماته، والحزب يسعى إلى تثقيف أعضاءه فـي نفس الوقت الذي يسعى فيه إلى فرض نفوذه عليهم، ومن هذه النقطة يتولى الحزب مهمة مرشد ومُعلّم بالنسبة لأعضائه).

الحكومة والرأي العام

لا شك أن الحكومات بوجه عام تخشى الرأي العام وتحسب له ألف حساب، لا يقتصر هذا الخوف والتحسّب على الحكومات الفردية المستبدة التي غالبا ما تقارع الرأي العام، بل حتى الحكومات المنتخَبة، أو ذات النهج الديمقراطي، والسبب أن الرأي العام يشكل قوة ضاغطة كبيرة على الحكومة سيطيح بها حتما، في الحكومتين الديمقراطية او القمعية.

لهذا من الصفات التي تنطوي عليها الدولة المدنية، هي حضور الدور الفاعل دائما للرأي العام، بل هذه الدولة تنمي هذا الحضور وترعاه وتديمه، لأنه صمام الامام لها من الانحراف الى التسلط، لكن في ظل الحكومات بمختلف انواعها هناك سعي دائم لتفتيت الرأي العام بأساليب كثيرة ومدروسة ومخطط لها مسبقا، ومنها جعله يعيش في حالة جهل من خلال عزله عن وسائل العصر، خوفا من النتائج التي تنعكس عن الرأي العام والتي قد تكون وخيمة على الحكومة، لهذا يقول نعومي تشومسكي: (إن الحكومات تعمل بطريقة يكون خلالها الشعب غير قادر على استيعاب التكنولوجيات والطّرق المستعملة للتحكّم به واستعباده. "يجب أن تكون نوعيّة التّعليم المقدّم للطبقات السّفلى هي النوعيّة الأفقر، بطريقة تبقى إثرها الهوّة المعرفيّة التي تعزل الطّبقات السّفلى عن العليا غير مفهومة من قبل الطّبقات السّفلى).

وهكذا يتطلب الامر أن يأخذ الحزب السياسي دوره الكبير والمهم في بناء الرأي العام وتوجيهه، سعيا لبناء دولة مدنية تحفظ فيها الحقوق والحريات لعموم افراد الشعب، خاصة اذا كانت الحكومة خارجة عن اطار المنهج الديمقراطي المؤسساتي، حيث تنتهج كل وسائل التهميش والاقصاء وما شابه، من اجل حماية مصالحها ومنافعها وسلطتها على حساب الشعب، من هنا ليس هناك دولة مدنية مستقرة وقوية، ما لم يتوفر فيها رأي عام قوي، تنتجه وتدعمه احزاب سياسية قوية وقادرة على شحذ همم اعضائها ونقلهم من حالة السبات والخمول واللامبالاة الى حالة التفاعل والانتاج الامثل على الصعيدين الفكري والعملي في الوقت نفسه.

لذا يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه نفسه: (من خصائص الحزب البارزة هي أنه يُزيل عن كاهل أعضائه الكسل والتقاعس ويجعلهم في طريق الأحداث ومُجريات الأمور، ويدعم النشاطات الجماعية، ويقوِّي الاتجاه الشعبي على صعيد الخيارات الإنسانية، وبهـذه الصور يقوم بتحريك عجلات الديمقـراطية والنظام الديمقراطي، وكذلك الحزب هو أداة بواسطتها يترجم الرأي العام إلى مسلك خاص ومذهب معين).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 10/كانون الأول/2012 - 25/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م