قبل ضحى الغد

بدر شبيب الشبيب

من بين الصفات المحبوبة في المرأة عند العرب قديما أنها «نؤوم الضحى»، و«نؤوم» صيغة مبالغة في النوم، أي تنام كثيرا وقت الضحى، وذلك كناية عن المرأة المنعمة المرفهة المخدومة التي لا تحتاج للاستيقاظ مبكرا لأن هناك من يقوم بشؤونها.

يقول امرؤ القيس في معلقته:

وَتُضْـحِي فَتِـيْتُ المِسْكِ فَـوْقَ فِراشِـهَا

نَـؤُومُ الضَّـحَى لَمْ تَنْتَــطِقْ عَنْ تَفَضُّلِ

إِلَـى مِـثْـلِـهَـا يَـرْنُـو الـحَـلِـيْـمُ صَـبَـابَـةً

إِذَا مَـا اسْـبَـكَـرَّتْ بَـيْـنَ دِرْعٍ ومِجْـوَلِ

ويقول مهيار الديلمي:

ساهرةُ الليل نؤومُ الضحى

ريانة والأرض تشكو الظما

هذه الصفة اختلفت دلالتها اليوم، حيث أصبحت تشير عندنا إلى المرأة قعيدة البيت غير العاملة، والتي تنتظر وظيفة منذ يوم تخرجها ربما قبل عشر سنوات أو أكثر، أو هي المرأة «الحافزية» نسبة إلى برنامج «حافز» الأكثر شهرة في العالم حتى من برنامج «أوبرا». والدليل على ذلك أنه ما يكاد يقترب إصبعك من حرف الحاء في «الكيبورد» حتى يخرج «حافز» من بطن «قوقل» كخروج الجني من مصباح علاء الدين، لكن دون أن يقول: شبيك لبيك، بل ليتحفز للحسومات والخصومات المستمرة من مبلغ الألفَي ريال، وكأنه لا علاقة له باسمه. بالمناسبة يبدو أننا الأقدر على اختراع أسماء تتحول علاقتها بمسمياتها إلى علاقة تنافرية بعد سوء التطبيق، مثل «حافز، ساهر، ماهر، جدارة، نطاقات، تكافل».

هذا عن نوم الضحى وتطور دلالته، أما ضحى الغد المذكور في عنوان المقال فإنه يشير إلى بيت شعر قديم قاله الشاعر دريد بن الصمة، واستشهد به الإمام علي في قوله بعد قضية التحكيم في صفين معاتبا قومه:

أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَعْصِيَةَ النَّاصِحِ الشَّفِيقِ الْعَالِمِ الْمُجَرِّبِ - تُورِثُ الْحَيرَةَ وتُعْقِبُ النَّدَامَةَ - وقَدْ كُنْتُ أَمَرْتُكُمْ فِي هَذِهِ الْحُكُومَةِ أَمْرِي - ونَخَلْتُ لَكُمْ مَخْزُونَ رَأْيِي - لَوْ كَانَ يُطَاعُ لِقَصِيرٍ أَمْرٌ - فَأَبَيْتُمْ عَلَيَّ إِبَاءَ الْمُخَالِفِينَ الْجُفَاةِ والْمُنَابِذِينَ الْعُصَاةِ - حَتَّى ارْتَابَ النَّاصِحُ بِنُصْحِهِ وضَنَّ الزَّنْدُ بِقَدْحِهِ - فَكُنْتُ أَنَا وإِيَّاكُمْ كَمَا قَالَ أَخُو هَوَازِنَ: -

أَمَرْتُكُمُ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى * فَلَمْ تَسْتَبِينُوا النُّصْحَ إِلَّا ضُحَى الْغَدِ

فهو يأسف هنا على قومه الذين تأخروا كثيرا في الاستماع إليه، ولم تتبين لهم أهمية رأيه إلا بعد فوات الأوان، أو في «ضحى الغد» بحسب بيت دريد بن الصمة. فبرغم كل ما يكتنف رأيه من قرائن تشهد له بصدقه وإخلاصه، إلا أنهم فضلوا الإعراض عنه، فكان أن أعقبهم ذلك الحيرة والحسرة والندامة. وهكذا تكون عاقبة الإعراض عن رأي الخبراء والمستشارين وأهل الرأي المتصفين بالصفات الأربع التي ذكرها الإمام علي في بداية كلامه ليضع لنا قانونا ساري المفعول لا يتخلف أبدا في أي مجتمع من المجتمعات أو قضية من القضايا.

والصفات الأربع هي: «الناصح، الشفيق، العالم، المجرب» والتي يمكن أن نختصرها في كلمة تجمع الحروف الأولى لهذه الكلمات بعد حذف «أل التعريف»، ومع بعض التصرف تقديما وتأخيرا. والكلمة هي «منعش».

يعلق الشيخ ميثم البحراني في شرح نهج البلاغة على هذه الصفات، فيقول: "القيود الأربعة الَّتي ذكرها من صفات المشير معتبرة في حسن الرأي ووجوب قبوله: أمّا كونه ناصحا فلأنّ الناصح يصدق الفكر ويمحض الرأي وغير الناصح ربّما يشير بفطير الرأي فيوقع في المضرّة، وأمّا كونه شفيقا فلأنّ الشفقة تحمل على النصح فتحمل على حسن التروّي في الأمر وإيقاع الرأي فيه من تثبّت واجتهاد.

والباعث على هذين أعني النصح والشفقة إمّا الدين أو محبّة المستشير، وأمّا كونه عالما ففائدته إصابته لعلمه وجه المصلحة في الأمر فإنّ الجاهل أعمى لا يبصر وجه المصلحة فيه. قال رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلَّم: استرشدوا العاقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا، وقال عبد اللَّه بن الحسن لابنه محمّد: احذر مشورة الجاهل وإن كان ناصحا كما تحذر عداوة العدوّ العاقل فإنّه كما يوشك أن يقع بك مكر العاقل كذلك يوشك أن يورّطك شور الجاهل، وأمّا كونه مجرّبا فلأنّه لا يتمّ رأى العالم ما لم ينضمّ إليه التجربة. وذلك أنّ العالم وإن علم وجه المصلحة في الأمر إلَّا أنّ ذلك الأمر قد يشتمل على بعض وجوه المفاسد لا يطَّلع عليه إلَّا بالتجربة مرّة ومرّة فالمشورة من دون تجربة مظنّة الخطاء، وقيل في منثور الحكم: كلّ شيء محتاج إلى العقل والعقل محتاج إلى التجارب. وإذا عرفت أنّ طاعة المشير الموصوف بالصفات المذكورة مستلزمة في أغلب الأحوال للسرور بحسن ثمرة رأيه والفوز بها لا جرم كان معصيته ومخالفة رأيه مستلزمة للحسرة مستعقبة للندامة".

والسؤال الآن هو: ماذا فعلنا بآراء خبرائنا ال «منعش» ين في مجال ما بعد النفط؟ هل استمعنا لنصحهم قبل فوات الأوان، أم سننتظر حتى الغد كي نستيقظ من نومة الضحى ويتبين لنا «الخيط الأبيض من الخيط الأسود» بعد رحيل الذهب الأسود؟

أنموذج النرويج

لن أسأل الأسئلة المكررة في المسابقات الطلابية عندنا منذ وجدت مدارسنا حتى اليوم. أسئلة من مثل: متى وقعت الحرب العالمية الأولى؟، من هو مخترع المذياع؟ ما هو أطول نهر في العالم؟ وغيرها من الأسئلة التي لا ترتبط بنا، ولا علاقة لها بذكاء الطالب وقدراته التحليلية والاستنتاجية والتخيلية، وإنما يمكن أن يستدل منها على قدرة الطالب على تخزين واسترجاع المعلومات، وبعبارة حديثة على مدى «هارديسكيته»، أي تشابهه مع ال «هارديسك» الخاص بالكمبيوتر.

هذه الأسئلة النمطية لا يمكنها أن تنتج إلا طلابا نمطيين، يحفظون المقررات عن ظهر قلب، ثم يتوجهون للامتحانات ليفرغوا حمولاتهم ويتخلصوا من أثقالها المرهقة، وينقلبوا بعد ذلك فرحين مسرورين كمن يُطلق سراحه بعد طول اعتقال.

لن أسأل مثل ذلك، بل سأسأل سؤالا أكثر غباء أو ذكاء، لا أدري، غير إنه ليس أكثر براءة: هل سياراتنا هي الوحيدة في العالم التي تحمل لوحات أرقام؟ الجواب: طبعا، لا. ثم يأتي بعده السؤال المؤرق الذي يقض مضاجع الإجابات: فلماذا تغيرت أشكال اللوحات أكثر من مرة حتى وصلنا للشكل الحالي، والذي قد لا يكون نهائيا؟ ألم يكن بالإمكان الاستفادة من تجارب الدول الأخرى ذات الكثافة السكانية والسياراتية الهائلة كالهند والصين مثلا، على الرغم من محدودية عدد السكان والسيارات لدينا مقارنة بهما؟ والسؤال نفسه يرد في كثير من شؤوننا التي نعالجها ونتعامل معها وكأنها تحدث لأول مرة في العالم، أو كأننا أصحاب براءة الاختراع لها.

نكرر دائما «اسأل مجرب ولا تسأل طبيب»، وهو مثل رغم عدم علميته، إلا أنه يحمل في طياته احتراما وتقديرا لذوي التجارب والخبرات، غير إننا لا نطبقه في حياتنا العملية، حيث نترك الطبيب الخبير لنذهب لغيره من بائعي الوهم الذين يجيدون شفط الجيوب والصحة معا.

الخبراء والمستشارون في ذاكرتنا الجمعية يمثلون أشخاصا ديكوريين يقدمون توصياتهم لمتخذي القرار الذين لا يكترثون عادة بها. في فبراير 2009 دعا 85 مفكرا خليجيا في ختام منتدى التنمية الخليجي الذي عقد في البحرين، دعوا إلى اعتماد «أنموذج النرويج» بالنسبة للسياسة النفطية.

وقالت المنسق العام للمنتدى منيرة فخرو لـجريدة «الوسط»: «إن النرويج بلد نفطي، ولكنه يعتمد سياسة يستفيد منها مواطنوه في الوقت الحاضر وتستفيد الأجيال من هذه الثروة الناضبة في المستقبل». وأوضحت «أن النرويجيين يستثمرون ثروتهم النفطية في بلادهم بمعدل 4 في المئة من قيمته الحالية، ويستثمرون الباقي لخدمة الأجيال المستقبلية، وهم يعتمدون على سياسة تؤمن بأن الثروة ملك للمجتمع الحالي ولأبناء وأحفاد مجتمعهم، وبالتالي فإنهم يخضعون صندوقهم السيادي لسلطة البرلمان، ويكشفون الحقائق عبر شفافية موثوق بها، بينما الأنموذج الخليجي فاشل لأنه لا وجود لرقابة شعبية أو تمثيل سياسي، وينتشر الفساد في كيفية التعامل مع الواردات التي يتم تدويرها عبر نماذج استثمارية تمتص فوائض المال وتضخها في مجالات لا علم لأحد بها، وهذا يضعف برامج التنمية ويهدر ثروات الوطن العامة».

النموذج النرويجي يقوم بالإضافة إلى ما ذكرته فخرو من سياسة نفطية على عاملين آخرين هما: الأول الاستثمار في التنمية البشرية واقتصاد المعرفة، حيث ركزت النرويج جهودها على خطط التنمية في مجالات التكنولوجيا والتعليم والتربية والصناعة والزراعة، وكانت نتيجة تلك السياسات الاقتصادية، أن قل بشكل كبير اعتماد النرويج على أسعار النفط، وتنوعت مواردها الاقتصادية. والثاني النأي عن الديون عالية المخاطر، مما جعلها في مأمن من الكوارث المالية التي أصابت الغرب مؤخرا. ولم تكتفِ بذلك بل نأت بنفسها عن الحروب وكونت لها سمعة عالمية باعتبارها صانع السلام، حيث شاركت في محادثات السلام في الفلبين والبلقان وكولمبيا وغواتيمالا وسريلانكا والشرق الأوسط.

عقد المنتدى في أوائل 2009، وأصدر الخبراء توصياتهم. ونحن اليوم في نهاية 2012، ولا تزال التوصيات توصيات لم تجد طريقها للتطبيق. وظلت نصيحة الخبراء مجمدة حتى إشعار آخر، أي حتى «ضحى الغد». وهذا ما توقعه بالفعل أحد المشاركين، حيث رفض إرسال أي مذكرة أو مقترح من خلال المنتدى، إلى أية سلطة من السلطات العربية، لأن ذلك سيكون مصيره سلة المهملات، إذ إن كثيرا من المذكرات التي أرسلت سابقا، كان مكانها الوحيد لدى السلطات، سلال المهملات - بحسب قول المشارك - مفضلا أن يكتفى بالإعلان عن هذه المقترحات والمذكرات من خلال وسائل الإعلام.

هكذا نتعامل مع خبرائنا ال «منعش» ين ومع توصياتهم ورؤاهم.. فهل إلى خروج من سبيل؟!

http://www.facebook.com/profile.php?id=692249194

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 9/كانون الأول/2012 - 24/محرم الحرام/1434

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م