الدولة المدنية واستثمار الجهد البشري

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: البناء جهد بشري مشترك، لا يقوم على فرد واحد، بل مجموعة افراد يشتركون في بقعة ارض تمتلك اركان الدولة (الارض/ الشعب/ السيادة........الخ)، وهذه الدولة التي تضم شعبا موحّدا، قد تكون من الركب المتقدم أو متخلفة أو بين الدرجتين، أما الاسباب فهي واضحة، ولا تحتاج الى كثير من العناء او الذكاء، حيث يدخل الجهد الفردي في الانتاج والسعي بصدارة النتائج التي تجعل من الدولة في هذه المرتبة أو تلك.

ومن بداهة القول، أن الانسان كلما كان واعيا، وسالكا للسبل الصحيحة في التفكير والعمل والانتاج بشقيه المادي والمعنوي، فإنه يصلح أن يكون خلية صالحة لبناء الدولة المدنية، ويص العكس تماما، حين يكون الانسان غافلا او متغافلا لفرص التقدم والبناء السليم، علما أن الانسان يتطلع دائما الى التشابه مع الافضل، أي يطمح ويتطلع أن يكون مثيلا للانسان الناجح، وهكذا يمكن ان يكون الشعب برمته متكونا من افراد ناجحين، أحدهم يتأثر بالآخر، ويجتمع الكل على هدف واحد هو بناء دولة مدنية تلتحق بالركب المتقدم

استغلال أمثل للوقت

عندما تجتمع الجهود البشرية تختلف في نتائجها عن الجهود الفردية التي تبدو ضئيلة جدا بمفردها، لذلك تظهر جهود الجماعة اكبر واوضح واكثر تأثيرا من اي جهد فردي، وهنا تتبين بوضوح اهمية أن يكون العمل الفردي جيدا وناجحا حتى لو بأدنى الدرجات، وهذا لن يحدث إلا في حالة استثمار الانسان لوقته، ايامه ساعاته عمره على نحو كامل، بمعنى كلما كان الفرد ناجحا في استثمار للوقت، كلما كان ناجحا في انتاجه، الذي سوف يصب بالضرورة في صالح المجتمع او الشعب ككل، ثم في صالح بناء الدولة.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (اغتنام الفرص)، حول هذا الموضوع: (الساعات التي يضيّعها الإنسان هنا وهناك، بلا استثمار ولا استغلال، فإنه إنما يضيع بها جزءً من وجوده). ويضيف سماحته قائلا ايضا في هذا الصدد: (يقول الإمام أمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام: -الساعات تنهب الأعمار-). ولكن هناك بالمقابل ظواهر سلبية فردية، قد تجتمع لتشكل ظواهر سلبية سيئة جدا، تقابل النجاح في اغتنام الفرص واستثمار الزمن من اجل النجاح ومنها ظاهرة الاتكال.

إن الاتكال على الآخرين ظاهرة تنتشر في الشعوب التي تعجز عن تحريك نفسها ونقل وضعها وحالها وحياتها من الخمول والكسل واللامبالاة، الى العمل والحيوية والنجاح، لهذا يفشل الفرد الذي يتكل على غيره في تحقيق ما يصبو اليه، وبالتالي قد تكون هذه الحالة الفردية ظاهرة جماعية يشترك فيها الجميع، ليتحول الشعب برمته الى مجموعة من الناس الفاشلين في بناء انفسهم، وبالتالي في بناء دولة تليق بكرامة الانسان.

يقول الامام الشيرازي بهذا الخصوص في كتابه المذكور نفسه: (الإتكال على طول الأمل، ومجّرد الأماني، والاغترار بالوساوس الشيطانية، والأفكار الواهية، وإقناع المرء نفسه بأنه طويل العمر، وأن عمل اليوم سوف يقوم به غداً، وما إلى ذلك، فهذا كله عبارة عن الإسراف والتبذير للعمر الغالي، والتسويف والتضييع للوقت الثمين).

الفرص لا تدوم الى الابد

من طبيعة الحياة أنها لا تمنح الفرص للانسان وقتما يشاء هو، بل قد تأتي الفرص مسرعة تمر فوق رأس الانسان كالسحاب، كما قال أمير المؤمنين علي عليه السلام في حكمته المعروفة، لهذا لابد أن يتنبّه الفرد والمجتمع والنخب كافة الى قضية استثمار الفرص بطريقة فورية متواصلة وبارعة، لأن الحسرة والخسران ستصيب الجميع حتما.

كما نقرأ هذا في قول الامام الشيرازي بهذا الخصوص حيث يقول سماحته: (لا يخفى أن الفرص التي تتهيأ اليوم لعلها ـ بل غالباً ـ لا تتهيأ غداً، ولن تتوفّر أبداً، فيظل الإنسان يتجرع غصص الندم والحسرة). ومن فوائد استثمار الفرص انها تجعل الانسان اكثر سعادة وانسجاما وتوافقا مع محيطه، الامر الذي يجعله في تحسن دائم واكثر انتاجا ودقة، على العكس ممن يضيع الفرص، فإنه سيكون عرضة للندم والكآبة الروحية، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي بقوله: (إن الإنسان عندما يؤدي العمل الصالح ويأتي بفعل الخير، فإنه يشعر بالراحة النفسية؛ لأنه يرى أن فعله هذا صدر في محله، وأنه قد استفاد من الزمن استفادة تامة).

وهكذا يكون اللهو واضاعة الوقت وتضييع الفرص، سببا في تدمير حياة الانسان، ناهيك عن ابواب الانحراف الكثيرة التي قد تقوده لارتكاب المعاصي، وهو ما يجعله عرضة للفشل الدنيوي والحساب الاخروي، بسبب تجاوزاته على حقوق غيره من الناس، لذا يؤكد الامام الشيرازي على: (الانسان الذي يضيع ساعات عمره في اللهو واللعب، فإنه يندم على كل لحظة لم يستثمرها في فعل الخير، ويتعقب ذلك الندم حسرة نفسية وكآبة روحية).

لا لإهدار الوقت

وهكذا يكون الفرد وجهده وسعيه في استثمار الوقت واستغلال الفرص، نتيجة حتمية لبناء شعب حيوي منتج غير متكاسل، يمكنه أن يبني الدولة المدنية المتطورة، التي لا يمكن بنائها بالتمنيات، أو بإضاعة الوقت واهداره من دون سبب، بل بالرجال المؤمنين بقدراتهم وأنفسهم ومعهم النساء المتعلمات الواثقات الداعمات للرجل في بناء الدولة المرتقبة التي تصون كرامة المرأة نفسها وكرامة الانسان عموما.

لذا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه (اغتنام الفرص) على اهمية عدم اهدار الوقت حينما يقول: (على الإنسان المؤمن أن يستفيد من الوقت، حتى ذلك الذي يخصصه للنزهة والاستجمام، فإنه ينبغي لـه أن لا يضيّعه هدراً، بل عليه استغلاله في تدارك ما مضى، أو تهيئة مقدمات المستقبل).

واخيرا لابد أن يفهم الجميع، أن اضاعة الفرص لا تشكل خسارة فردية فقط، بل تشمل المجتمع برمته، لاسيما اذا كانت حالة دائمة، والاخطر من هذا كله، أن الفرص عندما تضيع، لا تشكل خسائر مادية فقط، بل هناك مضاعفاتها النفسية التي تؤذي روحية الانسان وربما تفكيره ايضا. يقول الامام الشيرازي في هذا المجال: (وقد أشرنا إلى أن تفويت الفرص لا تخلو من آثار سلبية على شخصية الإنسان وروحه).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 5/تشرين الثاني/2012 - 20/ذو االحجة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م