الدولة المدنية والكرامة الانسانية

رؤى من افكار الامام الشيرازي

 

شبكة النبأ: حينما نتحدث عن الدولة المدنية وأهميتها، فإن هذا التأكيد لا يعني حدوث نوع من التضاد بي الدولة المدنية والاسلام، لأن الاسلام في جوهري يدعو الى تحرير الانسان من الطغيان أيا كان نوعه، بل إن التاريخ يؤكد أن الكثير من عظماء المسلمين ثاروا ضد الظلم والطغيان من اجل تحرير الانسان من التسلط والانحراف وغمط حقوق الانسان، من لدن الطغاة الذين كرسوا قدراتهم ودهائهم في حرف مسار الاسلام، وساروا قُدُما نحو بناء دولة متغطرسة غمطت حق الفرد وانتهكت كرامة الانسان، كما يؤكد ذلك التاريخ الاسلامي بوضوح وجلاء.

مرض المحاباة والرياء

عندما تتوافر فرص بناء الدولة المدنية، غالبا ما يحدث صراع بين السلطة ومن يتبعها من متملقين انتهازيين، وبين المدافعين عن كرامة الانسان من النخب والمفكرين والمصلحين وغيرهم، لذلك يحدث صراع فكري ومادي بين الطرفين، وهو أمر متعارف عليه في عموم التجارب السياسية في العالم الاسلامي العربي وسواه، لذلك تتعرض الكرامة الانسانية الى الهدر وتضيع حقوق المواطنين بسبب مواقف المتزلفين للسلطة المستبدة ومن يتبعهم من اجل مصالح ومنافع مادية في الغالب، وهم محسوبون على الامة بأكملها ويشكلون ضعفا واضحا في نسيجها، لذلك تعد هذه القضية احدى اكثر المشاكل التي تتسبب في هد كرامة الانسان المسلم.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله، في كتابه الموسوم بـ (الفقه: الشورى): (ليست المشكلة فقط في الحكام المستبدين والمتزلفين الذين يدورون حوله وينالون من ماله وجاهه، ولذا يسحقون وجدانهم فيطرونه ويكيلون الثناء والمديح له جُزافاً، ويعملون بأوامره حتى في قتل الأبرياء وهتك الأعراض ونهب الأموال. بل الطامة الكبرى في الرحم التي تولّد هؤلاء الحكام، وهي الأمة، فإذا لم تكن الأمةُ ضعيفة وفيها قابلية لتقبل الاستبداد، لما كان بإمكان الحكام الطغاة من السيطرة عليها، فالأمة إذا صارت كالجسم الضعيف تسلط عليها المرض من كل مكان، بينما الأقوياء لهم المناعة في طرده عن أجسامهم، ولذا فمهمة الوعاة رَفعُ هذا المرض عن الأمة حتى لا تستعد لتقبُّل المستبد، وحينذاك لا تجد أثراً منه).

لذلك ينبغي محاربة التملق والتزلف والاحتكام الى النظام الذي يتعامل مع الجميع سواسية، ويجب في الوقت نفسه تحسين موار الدولة عبر تحسين الاقتصاد والاهتمام بالزراعة والصناعة لمضاعفة الموارد المالية، لأنها اذا ما تم التعامل معها من لدن السلطة المعنية بدراية وحكمة، فهذا يعني الحفاظ على كرامة الانسان، حيث الفقر والعوز يؤدي الى هتك حرمة الانسان وكرامته معا، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (إن اللازم تقوية الاقتصاد الزراعي، وقال آخرون بلزوم تقوية الاقتصاد الصناعي، قدّم الأكثر منهما، وكذلك إذا اختلفوا فـي تقوية الصناعات الثقيلة أو الخفيفة ؛ ولو فرض التساوي في الآراء، فالمرجع السلطات العليا. ولو وقع الانشقاق هناك أيضاً فالأكثرية، ثم القرعة التي هي لكل مشكل).

قوانين لصالح الحكومات

هناك اساليب كثيرة تتبعها الحكومات الفاسدة، كي تحمي مصالح افرادها ابتداءا من الحاكم الاعلى نزولا الى الاخرين من البطانة والحاشية والعائلة، لذلك تسن الحكومة او تدفع المشرعين الى قوانين لا تصب في صالح المواطن، كما حدث في كثير من الحالات حينما يتم اصدار قانون لاغراض الاستفادة الفردية وحينما يتحقق الغرض منه يلغى حتى لا يستفيد منه الآخرون، وهكذا يمكن ان تكون بعض القوانين مساهمة في تقويض الكرامة الانسانية في الدول غير المدنية.

يقول الامام الشيرازي في هذا الخصوص بكتابه القيم الموسوم بـ (الاصلاح): (إن الحكومات تضع قوانين تجبر الناس عليها بحجة رعاية مصالحهم ومصالح بني نوعهم، كقوانين المرور وما أشبه، فالشخص مكلف بالإجراء حتى وإن لم يعرف وجه الصلاح فيها أو تصور عدم صلاحها، كما ترى ذلك في الحكومات الحقّة والباطلة).

وثمة اساليب أخرى تلجأ اليها الحكومة المتسلطة والمتعالية على الشعب، وهي العمل على تجهيل الشعب واهمال التعليم والانشغال بالمصالح الخاصة، وهو امر يدل على نحو قاطع باستئثار الافراد العاملين في حقل السياسة بمزايا السلطة لاسيما الثراء الفاحش فيما يبقى الشعب يعني من الجهل والمرض والتخلف.

لذا يقول الامام الشيرازي في كتاب الاصلاح: (المسلمون اليوم ملياران لكن يفقدون ـ على الأغلب ـ الرشد الفكري اللازم في مختلف مجالات الحياة، وحتى في مسائلهم الشرعية، فكثير منهم لا وعي له بالحلال والحرام، والطاهر والنجس، والصحيح والباطل، ولذا لا يميزون بينها ويأخذون بكلها، فاختلط عندهم الحابل بالنابل).

هكذا يمكن ان يكون المواطن جاهلا حتى فيما يتعلق باهدار كرامته، علما أن الدولة المدنية لا تجعل من الدين غطاءا لسرقة اموال الناس وغمط حقوقهم، بل الدولة المدنية هي التي تراعي ما ورد في الاسلام من وجوب قطعي لحماية الكرامة الانسانية، وهذا يتحقق من خلال الرشد والوعي المتنامي.

الارشاد الفكري للجميع

في دولة المسلمين المدنية تتساوى الفرص للجميع وكل حسب قدراته ومهاراته، حتى غير المسلم له حقه في الوعي والتثقيف فضلا عن حماية الحقوق والحريات، وتقديم الرشد والاصلاح للجميع بغض النظر عن الانتماء العرقي او الديني او سواه، يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الجانب بكتابه الموسوم بـ (الاصلاح): (كذلك غير المسلمين، فإنه يلزم إصلاحهم وإرشادهم إلى ما ينفعهم، فالأول وهو الوعي لكي يسلموا بقناعة تامة، والثاني وهو الإلزام لترك ما يعملونه خلافاً لمصلحة أنفسهم، أو فعل ما يتركونه كذلك، هذا كله مع مراعاة قانون الإلزام ومصاديقه المختلفة. لذا يمكن التغيير والإصلاح بواسطة جماعة جادة مخلصة تعمل ليل نهار وعلى طول الخط).

لذا لن يتحقق شرط الثقافة والوعي والتطور المادي والفكري دونما تنظيم لانشطة الافراد والجماعات، في ظل دولة مدنية قوية تحميها المؤسسات وتأخذ افكارها من العمق الاسلامي ذي الابعاد الانسانية التامة، لأن التنظيم من اهم سنن حياة الانسان، كما نقرأ ذلك في قول الامام الشيرازي بكتابه (الاصلاح): (إن النظم والتنظيم سنة من أهم سنن الحياة، وقد قام الكون على هذه السنة، والقرآن الكريم أكد على النظم والتنظيم عبر ذكر مفردة الوزن والقسط والاستقامة وما أشبه).

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 8/تشرين الأول/2012 - 21/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م