أحزاب تسعى لتتريك البلاد العربية

كاظم فنجان الحمامي

كم كان وزير خارجية تركيا (أحمد داود أوغلو) صريحاً وواضحاً عندما قال: ((لدينا ميراثاً شرعياً عند العرب آل إلينا من الخلافة العثمانية، أنهم يقولون عنا: أنهم العثمانيون الجدد، نعم نحن العثمانيون الجدد))، وكأنه يريد أن يقول لنا إن حزب العدالة والتنمية جاء إلى السلطة منسلخا من حزب الرفاه الإسلامي، لكي يعيد للإمبراطورية العثمانية مجدها القديم وهيبتها، التي بددتها دولة الرجل المريض بعد فشلها في اختبارات الحرب العالمية الأولى..

فبعد مضي قرن من الزمان على تفسخ جسد الرجل المريض في مقابر التاريخ، أدركت تركيا الأردوغانية إنها في أمس الحاجة للعودة إلى مضاربها العثمانية القديمة الممتدة من الشام إلى مراكش، فولجت الباب من الثقوب، التي فتحتها لها أمريكا في جدران الحركات المتظاهرة بالإسلام، فكانت هي الراعية لها، وهي الممولة لبعضها، وأضاءت لها إسرائيل الطريق نحو استقطاب عامة العرب باختلاق المواقف البطولية المفبركة في الصراع الشكلي المفتعل بين أنقرة وتل أبيب، فلبس أمناء الأحزاب العربية الجديدة عمامة السلطان الطيب أردوغان، وساعدتهم بعض التوجهات الخليجية بطريقة أو بأخرى في السير على نهجه، فوفرت الإسناد والمدد للأحزاب المشفرة بالصيغة العثمانية، وبالاتجاه الذي يضمن لها التفوق المطلق على النظير الفارسي الضعيف، الذي يمتلك التطلعات نفسها، لكنه غير قادر من النواحي الميدانية على التنافس مع سدنة الباب العالي في الأستانة، في ظل التفوق الأردوغاني، وشعبيته المتزايدة في المنطقة العربية، منذ اليوم الذي خرج فيه أردوغان من قمة (دافوس) عام 2009 متظاهراً بالاحتجاج على عمليات (الرصاص المنصهر) التي نفذتها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ومنذ الأيام التي تظاهر فيها بتجميد العلاقات العسكرية مع حكومة تل أبيب، وطرده لسفيرها في أنقرة، فصعد نجمه في فضاءات عامة الناس، وصار في نظرهم هو القائد المسلم الحازم، القادر على التصدي للصهاينة والوقوف بوجههم..

لم يجيش أردوغان الجيوش ضد تل أبيب، ولم ينسلخ من ارتباطاته الحميمة بحلف الناتو، ولم يطرد الأمريكان من قاعدة أنجرليك، ولم يفك ارتباطه بمنظومة (نابوكو) التي تتلقى التمويل والدعم من الكيان الصهيوني، ولم يكن بحاجة إلى القيام بأي عمل عسكري بهلواني في المنطقة، فكل ما في الأمر انه تظاهر بالانزعاج من بعض المواقف الإسرائيلية وليس كلها، وكان هذا الانزعاج هو المفتاح الذي فتح له الطريق إلى عواصم البلدان العربية المتشوقة للعودة إلى حظيرة التتريك تحت ظل الإمبراطورية العثمانية، التي جثمت أكثر من ستة قرون على صدر الأمة العربية، كانت كافية لإعادتها إلى عصور الجهل والتخلف بما يسمى الفترة المظلمة..

المثير للغرابة إن شعبية أردوغان تصاعدت حصريا في البلدان العربية، ولم يكن لها أي وقع في البلدان الإسلامية غير العربية، فالأحزاب الإسلامية العربية هي التي وجدت ضالتها في سياسة أردوغان المتأقلمة مع التعقيدات السياسية المتشابكة، وهي التي ترى فيه الخصال، التي ينبغي توفرها في القائد الإسلامي المعاصر، الذي تحلم بالانضواء تحت لواءه، فكانت الروابط الدينية هي المنافذ، التي تسللت منها المنتجات والاستثمارات التركية الثقيلة إلى المدن العربية القريبة والبعيدة، وكانت تلك الروابط هي الجسور التي التقت عندها تطلعات بعض الأحزاب الإسلامية العربية الساعية نحو إحياء مجد الخلافة العثمانية، من دون أن تدرك تلك الأحزاب إن تركيا لم تتمرد حتى الآن على القرارات الأورو – أمريكية، ولم تخرج عن طاعة الناتو، ثم إن ولائها للكتلة الأورو – أمريكية هو الولاء الثابت في عقيدة حزب العدالة والتنمية، وليس أدل على ذلك من سماحها للناتو في الأول من أيلول (سبتمبر) 2011، أي قبل الإعلان عن تجميد تعاونها العسكري مع تل أبيب، بنشر منظوماته الصاروخية والرادارية فوق هضبة الأناضول..

ثم إن أمريكا لم تكن قلقة من آثار ظاهرة التتريك، ولم تكن فزعة أبدا من تغلغل أردوغان في المنطقة، ولم تكن مستاءة من إعادة تطبيق تجربته الأردوغانية في الديار العربية بعدما ضمنت تعاون تلك الأحزاب معها ومع حلفائها، وبعدما ضمنت السماح لها بنشر صواريخها، واستعمال مطاراتها، وتوسيع قواعدها الحربية فوق الأراضي العربية من مضيق جبل طارق إلى مضيق هرمز..

في الختام، يبدو أننا نقف اليوم على أعتاب منعطفات تاريخية ومنزلقات خطيرة ستشهدها المنطقة بسبب هذا التخبط في الولاءات الإقليمية بعد أن سجلت ظاهرة التتريك توسعاً هائلاً بمباركة الأحزاب المرتبطة فكريا وروحيا بحزب العدالة والتنمية..

والله يستر من الجايات

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 4/تشرين الأول/2012 - 17/ذو القعدة/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م