الفساد يعني دكتاتورية مؤكدة

 

شبكة النبأ: تعاملت الحكومات التي تعاقبت على حكم الشعب العراقي، بصور وطرق واساليب لا تحترم الانسان ولا قيمته  التي اكدتها الاديان والاعراف والتقاليد، واصبح الانسان لا يساوي شيئا في ظل هذه الحكومات، وصارت العروش محمية بالقمع وازهاق الارواح، وكان من الطبيعي ان يسود الفساد بكل انواعه في ظل تلك الحكومات المستبدة، ولكن يبقى السؤال قائما بشان الواقع العراقي الراهن، هل نحن بصدد حكومة لا يهمها شأن الانسان العراقي ولا كرامته ولا حريته، ولا تعبأ ببناء دولة المؤسسات.

فاذا كان هذا الهدف فإن الفساد سيكون رفيقا حتما لمثل هذه الحكومة، والعكس يص تماما، لذلك هناك من يصف الشعب العراقي بالتهاون حيال قادته وحكوماته، ويذهب البعض الى أن هذا الشعب، لم يقدم ما عليه من واجب معارض للانظمة المتجبرة، التي تعاقبت على حكمه، منذ نشوء الدولة العراقية الحديثة في عام 1921 صعودا، والسبب كما يقول هؤلاء، أن سياسات القتل والتعذيب والتشريد والتهميش وما شابه، لم تبق لهذا الشعب ذخيرة نفسية او روحية او إرادية، يقاتل بها الحكام المتسلطين المتجبرين، الذين تجاوزوا على حقوقه المدنية والسياسية، في ظل صمت مطبق لجموع الشعب.

ولكن ونحن نناقش هذا الرأي في ضوء الوقائع التأريخية المثبّتة، فإننا سنجد الاحداث الموثّقة تختلف مع هذا الرأي، ولاتسانده، حيث تأسست الدولة العراقية الحديثة، تحت تأثير ثورة العشرين ذائعة الصيت، التي اجبرت المحتل الانكليزي، على القبول بتشكيل الدولة العراقية الحديثة، ويعرف الجميع حيثيات هذه الثورة، وما رافقها من تضحيات للشعب العراقي، وسيطّلع من يقرأ التأريخ، على ثورات وتظاهرات واحتجاجات كثيرة ومتتالية قام بها الشعب، لمعالجة هذا الخلل السياسي أو ذاك، طيلة العقود التي أعقبت نشوء الدولة العراقية الحديثة، وقد اسهمت فيها شرائح الشعب كافة، من طلاب، وكسبة، ورجال دين، واطباء، ومثقفين وغيرهم، وقد كتب الشعراء قصائد كثيرة، كانت تحرك غضب الجماهير وتستحث الشارع، على مقارعة الظلم، وفي رحلة الشعب العراقي مع النظام السابق، ثمة انتفاضات لايمكن نسيانها، منها انتفاضة عام 1975 في النجف، وعام 1991 في عموم العراق، وغيرها من الانتفاضات التي كانت تُقمع بقوة السلاح، فيما قدم العراق أعدادا كبيرة من الشهداء، من مصلحيه ومثقفيه وعماله وموظفيه، ومن ابناء الجيش، والكسبة، حيث اعدموا كونهم يعارضون الاساليب القهرية للنظام، ومنهم على سبيل التذكير، من رجال الدين السيد محمد باقر الصدر، ومن الاعلاميين ضرغام هاشم، ومن المفكرين عزيز السيد جاسم، ومن الروائيين حسن مطلك، ومئات من ضباط الجيش وجنوده، ومن الطلبة، والعمال، والفلاحين.

وهذا ما يدل على أن الشعب العراقي، لم يتخذّ الحياد والصمت، مع من يتجاوز على حقوقه وكرامته من الحكام، لذا ليس صحيحا أن يوصف العراقيون بالجبن والتخاذل والتردد، عن اتخاذ المواقف الصعبة، التي تتطلب تضحيات بالنفس والمال وما شابه، وبعد هذه الرحلة المريرة مع القمع، والتسلط، والتكميم، والحروب، والحصارات، وآخرها العقود الثلاثة الأخيرة والمريرة، مع النظام السابق، ينتقل العراقيون بعد نيسان 2003 الى عهد جديد، وصفه كثيرون بأنه العصر العراقي الديمقراطي، الذي لا رجعة عنه ولا تفريط فيه، فهو العهد الذي نقل العراقيين من عهد الدكتاتورية، الى عهد الحرية.

وهكذا بدأت رحلة الخلاص من الحكومات القهرية، التي ضيّعت على العراقيين، فرصا كبيرة وكثيرة، لكي يلتحقوا بركب العالم المتقدم، وبدأ عهد الديمقراطية الجديد في ظل توقعات، وآمال عريضة لعموم العراقيين، ببداية عهد زاهر (أو ينبغي أن يتصف بهذه الصفة) ليعوضهم عن عقود القهر، والظلم، وغمط الحقوق، التي كللت حياتهم السابقة، ومع مرور سنوات العهد الديمقراطي، بدأت ظواهر ومظاهر الخلل السياسي، تنشأ وتترعرع وتنمو، لتفرض نفسها في التشكيلات الحكومية التي انتخبها الشعب، في ممارسات ديمقراطية لم تكن متاحة للعراقيين سابقا، ولعل أسوأ وأخطر هذه الظواهر، على العهد الديمقراطي الجديد، إنتشار الفساد المالي والاداري في الاجهزة الحكومية الخدمية وغيرها، وتكونت ما يشبه المافيات البيروقراطية، التي دمّرت آمال العراقيين، في الاعمار والتطور وتحقيق الاستقرار السياسي والاقتصادي، وذلك من خلال انتشار ظواهر الاختلاس، والتجاوز على المال العام، والرشوة التي لم تترك مرفقا حكوما إلا وتسللت إليه، لتعم وتنتشر منظومة قيم دخيلة على اخلاقيات وقيم الشعب العراقي، ومنها ما ينظر الى الرشوة وكأنها فعل طبيعي لا غضاضة فيه ولا اشكال، او النظر الى استغلال المنصب والاختلاس، على انه نوع من الشطارة التي لا لبس فيها، أو النظر الى تحصيل الفوائد المالية من خلال الابتزاز وكأنها فعل مشروع، وهكذا شاعت قيم خطيرة في المجتمع العراقي، وخاصة في الاجهزة والمؤسسات الحكومية، وتبخرت آمال الشعب في التقدم والازدهار، وذابت المشاريع التي تخدم الناس وتعضّد كرامتها في لجج الفساد وموجاته المتفاقمة، من دون أن تقوم السلطات المعنية بدورها، للحد من هذه الظواهر التي سمحت للفساد بالتنامي، حتى بات يهدد آمال الجماهير الواسعة، فوقفت هذه الجموع التي عانت من الدكتاتورية في حيرة من أمرها، فهي لم تصدّق أنها تخلصت من حكم الجور والتسلط الشمولي، لتقع في منظومة حكم تتخذ من الديمقراطية إسما لافعل ولا جوهر له، بعد أن سمحت للمخربين أن يعيثوا فسادا بأجهزتها الخدمية والمالية والسياسية، لتصبح مصالح وآمال الشعب في خبر كان، ولانريد هنا ان نضرب الامثلة للمعنيين لضيق المساحة، فهي أمامهم في الشارع وفي الواقع القائم.

لذلك يحاول المستفيدون من الوضع الراهن، وهم المفسدون والمختلسون وعصابات التجاوز على حقوق واموال الشعب، ان يهددوا هذا الشعب بعودة الدكتاتورية، في حالة الاعتراض على منظومة الفساد واستشرائه، ليصبح هذا الشعب بين خيارين احلاهما مر، لكن الامر الصحيح والذي لايختلف عليه الجميع، ان العراقيين لا يقبلون بالخيارين ويرفضانهما قطعيا، فهم ليسوا مع الدكتاتورية ولا يسمحوا بالعودة لها، كما أنهم بالقوة والاصرار نفسه لايقبلون بعصابات الفساد المستشري في اجهزة الدولة، وعلى من يهمهم الامر من السياسيين قادة او غيرهم، أن يقرأوا التأريخ جيدا وأن يحذروا غضبة الشعب، وأن يبادروا بالسرعة التي يتطلبها الظرف الحرج، الى معالجة الامور بدقة وفورية، ويقضوا على الفاسدين وفسادهم، وبعكس ذلك لن يكونوا بمنأى من رياح التغيير، وغضبة الجماهير التي لن تسكت قط، على الفساد حتى يسلب منها عهدها الحر، الذي دفعت من اجله التضحيات الجسام.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 18/آب/2012 - 29/رمضان/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م