الفاطمية في مصر... دولة علوم ومعارف

محمد طاهر الصفار

 

شبكة النبأ: يقول الاستاذ محمد كامل حسين الاستاذ في جامعة القاهرة: (ان الفاطميين قد وضعوا منذ الساعة الأولى لحكمهم خطة هي أن يقوم هذا الحكم على قواعد ثابتة من العلم والمعرفة وخططوا كما نقول اليوم لسياسة تعليمية شاملة ترتكز على انشاء جامعة كبرى ثم على تفريغ العلماء للعلم وحده فلا يشغلهم شاغل العيش عن الانصراف الى العلم ولا يلهيهم الفقر عن التوسع في البحث والدرس فجعلوا لهم موارد من الرزق تضمن لهم العيش الكريم ثم أرسلوا يستدعون العلماء من الخارج).

هذا الوصف يعطي صورة واضحة عما وصلت اليه الدولة الفاطمية في العلم والثقافة ولا نبالغ إذا قلنا انه لم يعرف التاريخ دولة اهتمت بالعلم واحتضان العلماء وتشجيع طلاب العلم والاهتمام بالعلوم المختلفة كالدولة الفاطمية حيث اصبحت القاهرة في عهد الفاطميين محط انظار العلماء ومطمح طلاب العلم حتى استطاعت بحق ان تكون عاصمة للعلوم والمعارف الاسلامية وفضلاً عما حققته دولة الفاطميين في الميادين العلمية والفكرية والادبية من انجازات عظيمة فقد سطعت ايضاً في ميدان النضال والجهاد في سبيل الله والدفاع عن الإسلام ووحدة المسلمين وحملت راية الإسلام عالياً وهي تصد هجمات الروم والبيزنطيين في الوقت الذي كان حكام الاندلس وغيرهم يحرّضون عليهم الافرنج ويستعينون عليهم بهم.

والحديث عن الجوانب المضيئة للدولة الفاطمية يحتاج الى دراسات مطولة نقل بعضها الباحثون فكانت صوراً مشرقة في سجل التاريخ الاسلامي والانساني وسيقتصر حديثنا في هذا الموضوع على نبذة من الحياة العلمية الزاخرة التي عاشتها مصر إبان حكم الفاطميين فلم يعرف العالم انفتاحاً على العلم في شتى مجالاته كما عرفته مصر الفاطمية. يقول الدكتور محمد كامل حسين: (وكان الفاطميون يهتمون بالدراسة الفلسفية في الوقت الذي كان فيه غيرهم في البلاد الاخرى يرمون من يشتغل بالفلسفة بالزندقة والالحاد).

فكان الخلفاء الفاطميون يقربون العلماء في شتى مجالات العلم وقد أوقفوا أرزاقاً ثابتة عليهم لكي يتهيأ لهم الاشتغال بالعلم والتفرغ له كما كانت الحرية الفكرية هي السائدة في عهدهم اذ تسامح الفاطميون مع العلماء من كل المذاهب فأخذت الحركة العلمية تنمو وتزدهر في مصر الفاطمية في كل نواحيها ومراكزها وكانت تنمو يوماً بعد يوم فكانت حلقات الدروس في المساجد او الدور في القاهرة والفسطاط والاسكندرية وتنيس في الشمال وأسوان وقوص في الجنوب قائمة على قدم وساق والعلماء وطلاب العلم يقيمون هذه الدروس ويخوضون مجال التأليف والتصنيف بكل حرية وأمان، فضلاً عن ذلك فقد كان امراء الأقاليم يحتضنون العلماء والشعراء ويكرموهم فأصبحت مصر عبارة عن جامعة علمية وفكرية وأدبية كبرى أخذ عنها الكثير من علماء الشرق والغرب، وقد نشطت الحركة العلمية اكثر واتسعت بعد إقامة الوحدة بضم البلاد الأخرى الى مصر وإقامة الأزهر فخصص الفاطميون لكل مذهب من المذاهب الاسلامية في الأزهر كرسياً لتدريس ذلك المذهب وكان عدد الطلاب يتفق مع انتشار ذلك المذهب في مصر والبلاد القريبة منها.

يقول الدكتور مصطفى مشرفة الاستاذ في جامعة القاهرة: (كان للمالكية في الازهر الفاطمي خمس عشرة حلقة وللشافعية مثلها ولأصحاب ابي حنيفة ثلاث حلقات)، لما أمر الحاكم بأمر الله بعمارة دار العلم ونقل اليها الكتب من القصر أسكنها من شيوخ السنة شيخين احدهما ابو بكر الانطاكي وخلع عليهما وقربهما كما عمل الفاطميون على استقطاب العلماء من البلاد الخارجة عن النفوذ الفاطمي واستدعائهم الى مصر والضمان لهم بالعيش الكريم والذي يلفت الانتباه ويدعو الى الاعجاب هو ان جميع العلماء الذين استدعوا من قبل الفاطميين أو وفدوا عليهم فأكرموهم ووفروا لهم سبل العيش الكريم والتفرغ للعلم كانوا على غير مذهب الفاطميين وهو المذهب الشيعي ولا يسعنا في هذا المقال القصير إلا الإلمام بأسماء هؤلاء العلماء كلهم وسنقتصر على النزر اليسير منهم، فمنهم عبد السلام القزويني شيخ المعتزلة الذي وفد الى مصر فأقام فيها أربعين سنة يلقي تعاليم مذهبه، ومنهم القاضي ابو الفضل محمد البغدادي إمام الشافعية الذي ظل يدرس مذهبه في مصر حتى وفاته عام441هـ، وابو الفتح سلطان بن ابراهيم الفلسطيني (ت518)، وابو الحجاج يوسف الميروقي (ت523)، ومجلى بن جميع المخزومي(ت550)، والقاضي علي الموصلي الخلعي (ت448)، وابو محمد عبد الله السعدي(ت561).

وهؤلاء كانوا قد ولّوا القضاء للفاطميين على انهم من المذهب الشافعي، ومن فقهاء المالكية محمد بن سليمان المعروف بـ(أبي بكر النعّال)، وكانت حلقته في الأزهر تدور على سبعة عشر عموداً لكثرة الطلاب الذين كانوا يقصدونه، ومن فقهاء المالكية الذين وفدوا على مصر الفقيه عبد الوهاب بن علي أحد أئمة المالكية الكبار في المذهب والذي وصفه الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد بأنه لم ير في المالكية أفقه منه.

ولهذا الرجل قصة رواها المؤرخون وهي انه ضاقت به الدنيا فكاد يموت من الجوع في بغداد فلم يجد سوى مصر فلجأ اليها فأكرمه الخليفة الفاطمي وطلب منه الانصراف الى علمه وبحثه فقط ولكنه لم يطل مكثه في مصر فأصيب بالفالج فقال في مرضه: (لا إله إلا الله عندما عشنا متنا) وقد توفي عام422هـ، وكذلك عبد الجليل مخلوف الصقلي(ت549)وابو بكر الطرطوشي (ت525)، وغيرهم الكثير.

والارقام التي ذكرناها في تاريخ وفاة هؤلاء العلماء هي للدلالة على أنهم قد عاشوا في فترات مختلفة وهذا يبين ان الخلفاء الفاطميين كلهم كانوا يسيرون على نفس سياسة التسامح مع المذاهب الاخرى واعتماد حرية الفكر والرأي في سياستهم وقد وجد هؤلاء العلماء من الحفاوة والتكريم ما لم يجدوه في البلاد التي يحكمها حكام من نفس مذهبهم فكان مجلس الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله يغص بالعلماء المتخصصين في كل علم من الفقهاء والاطباء وأهل الحساب والمنطق والعلوم الأخرى فيجتمعون عنده للمذاكرة ثم يكرمهم.

ومن أشهر العلماء الذين وفدوا على مصر في عهد الحاكم ابو الفضل جعفر وابن الهيثم الذي استدعاه الحاكم وخرج لاستقباله بنفسه كما تفرد الفاطميون بإنشاء دور الكتب الكبرى في الإسلام وبلغت تلك الدور حداً لم يعرف له مثيل في التاريخ فقد كانت مكتبة القصر وحدها تضم(601000)كتاب من امهات الكتب ومنها بخط مؤلفيها ولتسهيل المطالعة على المراجعين كانوا يقتنون من الكتب التي تكثر حاجة الناس اليها عشرات النسخ لكي يتسنى للكل المطالعة والاستفادة فكان يوجد من تاريخ الطبري(1200)نسخة منها نسخة بخط الطبري ومن كتاب العين اكثر من ثلاثين نسخة منها نسخة بخط الخليل الى غيرها من المصادر والمراجع كما توسع الخليفة الفاطمي الحاكم بامر الله بشأن دور الكتب العامة وحرص لى تسهيل وصول جميع طبقات الشعب اليها فأباح لسائر الناس الاطلاع على الكتب في دار العلم التي أنشأها سنة(395).

ومن ابرز المآثر الخالدة التي لا تزال لحد الآن تروي حضارة الفاطميين جامعة الأزهر التي بناها القائد الفاطمي جوهر بأمر الخليفة المعز لدين الله سنة(361)هـ وقد لاقى عناية خاصة من قبل الخلفاء الفاطميين فجدده الخليفة العزيز بالله والحاكم بأمر الله ثم تم تجديده على يد المستنصر بالله والحافظ لدين الله وكان كل من هؤلاء الخلفاء يولي رعاية فائقة في تجديد المسجد ووقف مؤذنيه وخدمة زواره والعناية بنظافته وإنارته وفرشه كما أنشأ الفاطميون قاعات للمحاضرات العامة إذا صح التعبير وفق ما نطلقه اليوم وكانت تسمى(المحول)، وكان يؤم هذه المحول سائر طبقات الناس على اختلاف ثقافتهم كما في دور الكتب والتي كانت مباحة للجميع دون استثناء،  فمنهم من يحضر للتعلم ومنهم من يحضر للنسخ.

كما حرص الفاطميون على توفير ما يحتاج اليه الناس من الحبر والورق في هذه الدور كما كانت تقام المناظرات العلمية فيها وكثيراً ما تقام هذه المناظرات بحضور الخليفة الفاطمي وقد حرص الخلفاء الفاطميون أشد الحرص على أن يتسنى العلم للجميع وان يتسنى للعلماء الاطلاع والاستفادة من العلوم السابقة حتى سجل التاريخ للخليفة المعز قوله: (اننا لنسر بمن نراه من اوليائنا يطلب العلم والحكمة ويرغب في الخير كما نسر بذلك في الولد).

ويحلل الدكتور محمد كامل حسين الحرص الشديد من قبل الفاطميين على نشر العلم واستقطاب العلماء بقوله: (ويخيّل اليّ ان السبب الذي من أجله شجع الخلفاء الفاطميون العلم والعلماء ان المذهب الشيعي نفسه يقوم على العلم والعقل قبل كل شيء فلا غرو ان رأينا الفاطميين يشجعون العلم الذي هو دعامة من دعائم العقيدة الشيعية).

ولم يقتصر تسامح الفاطميين مع العلماء الذين على غير مذهبهم بل تعداه الى العلماء من غير دينهم فقد عاش في ظل دولتهم الطبيب المشهور ابو الفتوح منصور بن مقشر واسحاق بن نسطاس وابو الفرج جرجس بن يوحنا المعروف بالبيرودي وغيرهم.

ومن أشهر الاطباء الذين وفدوا على مصر الطبيب الفيلسوف أمية بن ابي الصلت الاندلسي والشاعر والطبيب ابو الحسن المختار ابن الحسن المعروف بابن بطلان البغدادي الذي جاء من بغداد والطبيب محمد بن احمد بن سعيد التميمي الذي جاء من القدس وقد كتب الخليفة العزيز بالله الى الطبيب المشهور جبرائيل بن بختشيوع يستدعيه فاعتذر الاخير وقد اغدق الفاطميون حتى على من هاجمهم من العلماء وسبهم وسب دولتهم كالغزالي الذي هاجم الفاطميين في كتبه: (القسطاس) و(المنقذ من الضلال) و (المستظهري) وغيرها.

ولكنه حين قدم الى مصر جد من قبلها حفاوة بالغة جعلته يضع كتابه(مشكاة الانوار).هذه الحركة العلمية الكبيرة والصرح الحضاري العلمي الشامخ الذي كانت مصر تعيشه ايام الفاطميين كانت تترصدها يد الجهل والوحشية التي شلّت تلك الحركة وقوضت ذلك الصرح فقد دخل الايوبيون مصر واستولى صلاح الدين الايوبي على القصر.

يقول المقريزي: (ومن جملة ماباعوه –أي الايوبيون-خزانة الكتب وكانت من عجائب الدنيا)، ويصف الدكتور محمد كامل حسين ما آل اليه حال الكتب نقلاً عن المقريزي وكيف ان جلود هذه الكتب أخذها العبيد والاماء للبسها في ارجلهم واحرق ورقها وبقي منها ما لم يحرق وسفت عليه الرياح التراب فصارت تلالاً باقية تعرف بتلال الكتب، ثم يقول: (ابادها صلاح الدين الايوبي كما أباد دولة الفاطميين فضاعت كنوز الفاطميين بيد التعصب الممقوت).

وللتفاوت الكبير بين سياسة الفاطميين في نشر العلم والثقافة وسياسة الايوبيين في وأد العلم ننقل قولين يدلان على عمق الهوة بين السياستين، يقول الاستاذ حسن عبد الوهاب من مقال له في مجلة الكتاب/الجزء الثالث(ص281) عن العلم والتسامح الفكري وحرية الرأي في عهد الفاطميين فيقول: (في الوقت الذي خصصوا- أي الفاطميين- فيه حلقة لدرس فقه الشيعة في الجامع الأزهر كان جامع عمرو بن العاص معقلاً للحديث والمذاهب السنية فقد بلغت حلقات التدريس فيه في نهاية القرن الرابع مئة حلقة وعشر حلقات يتزعمها أئمة الفقهاء والقراء واهل الادب).

ويقول عن الاسنكدرية: (وكان بها في العصر الفاطمي علماء أعلام محدثون ناصروا السنة وكانت الرحلة اليهم)ثم يشير بعد ذلك الى العلماء الذين وفدوا على مصر في عهد الفاطميين من كافة المذاهب فاستقروا بها.

هذا القول واضح الدلالة على سياسة الفاطميين المتسامحة مع جميع المذاهب الاخرى وتكريم العلم والعلماء، اما القول الثاني فهو للدكتور محمد كامل حسين في حديثه عن سياسة الايوبيين تجاه العلم فيقول :ولكن هذه الموجة العلمية التي طغت على مصر سرعان ما أبادها الايوبيون فيما أبادوه من تراث هذا العصر الذهبي في تاريخ مصر الاسلامية. فضاع الشعر ولم يبق منه إلا اسم الشاعر احياناً ان قدر لإسمه البقاء.

ونحن لا نتردد في اتهام الايوبيين بجنايتهم على تاريخ الادب المصري لتعمدهم ان يمحوا كل أثر أدبي يمتْ للفاطميين بصلة فقد احرقوا كتبهم بما فيها من دواوين الشعر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 13/حزيران/2012 - 22/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م