الكاريكاتير وصناعة الربيع الشعبي العربي

الدكتور نجاح العطيه

شكل فن الكاريكاتير احد ابرز سمات الثقافة الفنية لا سيما السياسية والاجتماعية منها في عالمنا الشرقي والعربي قبل وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ومرورا بارهاصات اِنشاء الكيان الصهيوني الغاصب وماتبع ذلك من محاولات غربية محمومة مساندة لهذا الكيان اللقيط في ايجاد منظومة حكم عربي رسمي تخدم توجهات ذلك الكيان ومخططاته الغاشمة للسيطرة على المنطقة العربية واذلال شعوبها وسرقة خيراتها.

 وذلك للدور الكبير والفاعل الذي مارسه فنانو الكاريكاتير العرب بريشاتهم المبدعة والمتألقة في عملية صناعة الحدث من خلال الطرق الهاديء والعنيف في اكثر الاحايين على ذاكرة الانسان العربي المستلبة وتنشيطها وتغذية ذائقتها الحسية الفنية السياسية وما بذله اصحاب هذا الفن من خلال رسوماتهم لاعادة التوازن لهمة الانسان العربي للتخلص من قيود أسره وعمليات غسل الدماغ الكبيرة والخطيرة التي ارادت له ان يمارس حياة الفرد الرقم بين قطعان الارقام المليونية الاخرى.

 وقد اثمرت هذه الجهود الفنية الراقية في انجاح عملية استنهاض هذا الانسان المكبل بالهموم للاستمرار في رفض كل اشكال الخنوع والركوع والخضوع للواقع الفاسد الذي حاولت ان تفرضه عليه منظومة الحكم العربي الفاسدة المهترئة وبطاناتها المنافقة تلك المنظومة المريضة بحب التسلط واخضاع رقاب الجماهير العربية وابقاءها تحت نير التخلف والجهل وتطبيعها لقبول الذل الرسمي المبرمج وتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني والتامر الفاضح على مستقبل هذه الشعوب وقضاياها المصيرية وعلى راسها قضية فلسطين والاحتلال الصهيوني وممارساته الارهابية والعدوانية المتكررة بحق الشعب الفلسطيني واللبناني.

 ولعلنا نجد في رسومات فنان الكاريكاتير العالمي ناجي العلي من فلسطين خير شاهد على ما قلناه انفا حيث شاركت رسوماته في عشرات المعارض العربية والدولية وقد وصف الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس ناجي العلي ، بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتير في العالم منذ نهاية القرن الثامن عشر ، ومنحه جائزة " قلم الحرية الذهبي" وهو أول صحافي ورسام عربي ينال هذه الجائزة.

واليوم وبعد مجيء ربيع الثورات الشعبية العربية ونهضة الانسان العربي وتطلعاته لنيل حريته وكرامته وطموحاته المشروعة في رسم طريق مستقبله وما يمر به عالمنا العربي من تطورات وتحولات سياسية أثرت على شعوب هذه المنطقة، وما تلتها من التعطش إلى الحرية، خاصة حرية الكلمة والرأي ومن اجل الإشادة بالدور الكبير الذي لعبه ويلعبه فن الكاريكاتير في اعادة صياغة منظومة التفكير في ذهنية الانسان العربي وعقله الذي تراكمت عليه ترسبات الممارسات المنهجية القمعية الاملائية لارادة الحاكم العربي الاستبدادي المرتهن لارادة القوى الغربية الناهبة لخيرات ومستقبل الشعوب ومؤسساته القمعية الهمجية.

 وما أحدثه ذلك من تردي ونكوص في مقومات استعادة النهوض الانساني لمنهجيات ذلك التفكير بعد ان افاق ذلك الانسان من غفوته الطويلة وفاجأ العالم بعنفوان صحوته المتأخرة حيث اثبت للبشرية انه صنع من صمته الذي تصوره العالم خنوعا اكبر ربيع شعبي ثوري لفت انظار العالم اجمع لقضايا الانسان العربي وصرخات همومه ومظلوميته التي امتدت لعقود طويلة من الظلم والقمع الدكتاتوري الاستبدادي القبيح ومصادرة جميع شروط ومقومات وجوده الانساني وتطلعه الطبيعي للرقي والتكامل في طريق البناء التمهيدي لصيرورة مستقبله ومستقبل ابناءه من بعده في ظل خيمة العدالة الاجتماعية وتوازن الحقوق والواجبات برعاية مؤسسات الحكم الدستوري القائم على مبدأ فصل السلطات والية العقد السياسي بين المواطن والسلطة العادلة وفق ثوابت الدستور وتصويت المواطن تحقيقا لمبدا حرية التعبير وابداء الراي وصولا الى تحقيق الطموح المنشود للانسان العربي الذي انطلق كالمارد من قمقمه ليحقق امله المنشود في حياة حرة كريمة.

وعلى ضوء هذه المعطيات ونظرا لمساهمة فن الكاريكاتير في رفد مسيرة النهوض التحرري في ربيع الثورات العربية المتتابع حتى اليوم في عالمنا العربي الناهض من سباته ومن اجل ادامة الزخم الفكري ودعم استمرارية النهوض للانسان العربي الجديد والحؤول دون سرقة جهوده وتضحياته المشهودة في ربيع ثوراته الخالد والوقوف بوجه المحاولات المشبوهة لاحتواء هذه الثورات وتجييرها لصالح اتجاهات فئوية ضيقة تختزل هذا التالق الشعبي الهادر وتقطف ثمار تضحياته.

 على ضوء كل هذا تاتي اهمية انعقاد المهرجان العربي للرسم الكاريكاتيري في دورته الاولى والذي سيقام تباعا في كل من تونس ومصر وليبيا تتويجا لمعطيات دور الفن الكاريكاتيري واثره في رسم مستقبل الانسان العربي وحلمه في صياغة هذا المستقبل بعد كل المحن والصعاب التي تجاوزها الانسان العربي في صناعة الوان يومه الجديد وصولا الى الغاية المنشودة وسيتم الاعلان عن موعد انطلاقه الرسمي اثر ندوة صحفية تنعقد بتاريخ 25 حزيران الحالي بالعاصمة التونسية حيث تشرف عليه كل من وزارة الثقافة التونسية ووزارة الثقافة والمجتمع المدني بليبيا ووزارة الثقافة المصرية ويستمر المهرجان مفتوحا امام الجمهور العام لمدة ثلاثة ايام متواصلة في كل دولة من الدول المذكورة.

ويتضمن برنامج الدورة هذه العديد من النشاطات الثقافية والندوات الفكرية والطاولات الحوارية المستديرة وأمسيات ثقافية وورشات الكاريكاتور الكبيرة الى جانب حفلات التنشيط وغيرها ويسعى المهرجان الى اقرار آليات دفع قوية لفن الكاريكاتير في العالم العربي والنهوض به الى المكانة العالمية التي يستحقها من خلال مبدعيه والترويج لأعمالهم عبر كل قنوات الاتصال فيما سيشجع المهرجان الاصدارات العربية من خلال دار نشر مختصة تعمل على الترويج والترجمة والارتقاء بالمبدع العربي الى النجومية من خلال حفلات التوقيع والاشهار والتسويق الى جانب تنظيم الندوات والملتقيات في كافة ارجاء العالم العربي والاشتراك في التظاهرات العالمية وتشجيع المؤسسات الاعلامية العربية على نشر وترويج فن الكاريكاتير خدمة للاهداف المرجوة من عقد هذا المهرجان الذي نتمنى له النجاح الباهر وللقائمين عليه من خلال جهودهم المتواصلة كل التوفيق والتقدم مع اعطر تحياتنا القلبية لهم والله ولي التوفيق.

* كاتب وباحث عراقي

** لمناسبة انعقاد المهرجان العربي للرسم الكاريكاتيري

 الدورة الاولى (تونس- مصر- ليبيا)

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 7/حزيران/2012 - 16/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م