زاد العليل في إيقاعات الكرباسي والخليل

د. نضير الخزرجي

للنفس إقبال وإدبار، وحالها لا يختلف عن البدن من حيث الغذاء، فهي بحاجة إلى أغذية متنوعة تجعلها في مستويات عالية من اليقظة والإحساس والشعور والتشاعر مع الآخر، وغذاؤها ليس من نوع واحد وإن بدت النفس غير مرئية لكنَّ آثارها مادية تنعكس على الإنسان وعلى محيطه، وإذا تعبت النفس تعب الجسد، وقد يتعب الجسد لكن النفس تبقى في قمتها، بل يكون مبلغ راحة النفس في تعب الجسد، وهذه حالات لا نجدها إلا عند قلّة من الناس الذين اتعبوا أبدانهم في راحة غيرهم، وعندهم سعادة الغير مبلغ السعادة ومنتهى عظمة النفس وشعورها السعيد المتماهي مع آلام الناس ومعاناتهم يُشكلان لوحة إنسانية رائعة المعاني لا يفقه خطوطها ولا يدرك مجسّاتها إلا الذائب في ملكوت المعبود المتعبد على عتبة العبد.

ولأن مصادر التغذية نفسية متعددة، فإن الناس في تموجات أرواحها أشكال وألوان، وواحدة من مصادر التغذية النفسية هو الشعر نظما وإنشاءاً وإنشاداً وإلقاءاً، فالشاعر المجيد يعاني من داخله فترتفع من قواعد ذاته بيوت الشعر متسامقة في سماء الوجود يُطال سحبها من تشتاق نفسه إلى غذاء الشعر أو تُساق إلى الناس فتحيي في طريقها الموات من النفوس، والنفوس الغرثى تتلقى الشعر الشعوري بقبول حسن، والعملية متبادلة مترابطة، لكنها في الوقت نفسه تتطلب أذنا صاغية تتذوق النثر المنظوم، فجيد النظم ينساب في الأذن الشاعرية يقر أو يمر، فإن قرَّ أماط عن النفس هموما وسقى يابس أرضها فأحالها غنّاء معشوشبة وإن مرَّ ترك أثراً مخضوضراً، وقد يظل يطرق الأبواب دون فائدة عاجلة لكن الآجلة قادمة وإن طال الزمن، ومن هنا فإن الخطباء من كل المدارس والمذاهب والأديان والأجناس لا مناص لهم من نظم الشعر وإنشائه أو حفظ خياره وإنشاده، لعلمهم أن الشعر مادة المجالس لكل قائم وجالس، وأن الأمسيات الخطابية وصباحاتها يقع الشعر منها موقع الفاكهة من المائدة، كما تقع النصوص المقدسة من الخطاب النثري موقع الملح من الطعام، ولا وجه للمقارنة بين الفاكهة والملح، فللأول بديل وليس للثاني من عديل.

ولأن الفاكهة أنواع كان لابد أن تختلف السلال وهذه قيمة الثمار المنظوم، وقد أبدع الأديب محمد صادق الكرباسي في كتابيه المتميزين: "هندسة العروض من جديد" و"الأوزان الشعرية .. العروض والقافية" وفيهما جدَّد بحور الخليل الفراهيدي (100- 175هـ) وأبدع وأضاف، فكان موضع إحسان الأدباء والشعراء وفيه قال الشاعر الجزائري الضليع ببحور الخليل: (فحق لصاحب هندسة العروض من جديد أن يُلقَّب بالخليل الثاني اعترافاً بعبقريته في تحديث هذا العلم، والخروج به من دائرة الإنغلاق والسمو به إلى أفق الإنفتاح، شارحاً للناشئة معالمه وفصوله، باسطاً بين أيديهم مفاتيح فهمه، وأشرعة الغوص في بحار معانيه)، وحتى تكتمل قواعد الشعر وبناؤه جاء كتاب "بحور العروض" الصادر عام 1432هـ - 2011م، ليشكل ثالث الأثافي، وهو من تقديم وتعليق الشاعر الدكتور عبد العزيز مختار شَبِّين، في 157 صفحة من القطع الوزيري صادر عن مكتبة دار علوم القرآن بالعراق وبيت العلم للنابهين بلبنان، وبه يستقيم قِدْر الشعر ويكتمل قَدَرُه.

منظومة الكرباسي

من الثابت أن بحور الخليل هي خمسة عشر، وهي: الطويل، المتقارب، البسيط، الرجز، السريع، المنسرح، الكامل، الوافر، المديد، الرَّمل، الخفيف، الهزج، المضارع، المقتضب، والمجتث، وكلها منبثقة من دوائر خمس هي: المختلف، المتفق، المؤتلف، المجتلب، والمشتبه، وهي في ثمان تفعيلات هي: فعولن، فاعلن، مفاعلتن، متفاعلن، مفاعيلن، مستفعلن، فاعلاتن، ومفعولاتُ، وهذه يتناصفها صدر البيت وعجزه حسب البحر، وزاد الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (...- 215هـ) على البحور "المتدارك"، لكن الأديب الكرباسي في "هندسة العروض" أوصلها الى 43 دائرة في 210 بحور في إطار التفعيلات الخليلية الثمان، وإذا حاد عنها تألفت دوائر وبحور كثيرة، لكنه تقيَّد بما تقيَّد به الخليل الأول.

والبحر هو ما يطلق على تقاطيع البيت من الشعر الوزن أو البحر كما في تعريف الكرباسي في "الأوزان الشعرية العروض والقافية: 163"، أو موسيقى الشعر، وبتعبير آخر هو نوعية التفعيلات التي تشكل الإيقاع الجميل للبيت، وباختلاف الإيقاع تختلف البحور، وأما العروض بفتح العين هو الوزن الشعري أو ميزان الشعر، أو بتعبير الأديب شَبِّين في مقدمة الأوزان الشعرية: 8، أن العروض ما هو إلا: (حركات وسكنات، تختلف ترتيباً، لتشكل جزءاً، واجتماع الأجزاء يؤلف مقطعاً، واتحاد المقاطع يكوِّن شطراً، وبتقابل الشطرين يكون البيت في شعرنا العربي).

وحيث فصَّل الأديب الكرباسي القول في "هندسة العروض" و"الأوزان الشعرية" وزاد الشاعر شبِّين عليهما تقديماً وتعليقاً، فإنَّ المؤلف في "بحور العروض" يضع البحور في منظومة شعرية جميلة فيها تستروح النفس ويُستسهل معها الحفظ، وقد حاول الكرباسي ما أسعفته المساحة الشعرية وهو يستحضر تفعيلة كل بحر في عجز البيت الأول من المنظومة أن يبث في البيت الثاني وهو بيت الشاهد، قيم الخير ومعاني المحبة لتكون المنظومة ذات رسالة علمية وأدبية وقيمية.

ولأنَّ التفعيلات الثماني تشكل منها البحور التامة فإنه أفرد لها فصلاً مستقلاً، وثناه بفصل للبحور المجزوء ذات التفعيلات السداسية، وثلَّث للبحور المنهوكة المربَّعة التفعيلة بفصل ثالث، فكانت منظومة شعرية ذات ثلاث شعب، جميلة النظم والرصف حسنة المظهر والوصف تخترق صدر المتلقي وتحط على فؤاده فتصرعه دون دماء أو تأسره دون عناء.

محيطات ميزان الشعر

ما يميز الباحث الثاقب في تعامله مع أي عالم راحل أو إبداع سابق على عصره أو معاصر له هو الإحترام والتقدير دون جمود وعبودية، والتواضع للعلم دون غرور وعنجهية، وهاتان الصفتان المتلازمتان لكل ناجج في هذه المعمورة نجدها فيما جاء به الكرباسي في مثلث (هندسة العروض والأوزان الشعرية وبحور العروض)، فالمؤلف كما يقول الدكتور شبين وقف على كثير من الكتب الموضوعة في باب الشعر من عهد الخليل إلى يومنا هذا: (فكأنِّي به قد أحسَّ بشيء من الركود يعتري هذا النظام الإيقاعي القديم، وأنَّ هالة من التقديس أحاطته فجعلته من المسلَّمات التي لا يمكن أن تُناقش، ومن المحرَّمات التي لا يجوز لأيٍّ كان من المساس بها) فكانت الشقائق الثلاث التي أراد بها أن: (يُرسم للشعراء الموهوبين طريقاً إلى عالم الشعر، ويبني سلَّماً إلى فضاءاته يهيم البصر دونها حديداً، وليتسنَّى له إخراج العروض من دائرة الجمود، والإنغلاق، والطلاسم التي تنجم عن معضلاته وتعقيداته، التي نكَّست محبِّيه، وأثقلت كواهل المشتغلين به، خلع عنه رثَّ الثياب، وألبسه منها القشيب، ليبدو في حلَّة خيوطها البناء المتين، وألوانها هندسة الإبداع الجديد، ومسكها ماء البحور التي تلاطمت أمواجها من مائتين وعشرة بحور، بعضها يلتطم ببعض) وبذا تكون بحور الخليل قد امتزجت ببحور الكرباسي مكونة معا: (محيطات لميزان الشعر أرحب أفقا، وأخصب خيالاً، وأوسع مجالاً، وأغنى معنىً ومبنىً للشعر السليم).

فبحور العروض، وشقيقاه من قبل، كاشف عن نظرة تطورية إبداعية للشعر بخاصة وإن المؤلف امتلك ناصية التأصيل للشعر وبخاصة في الشعر العربي والفارسي والأردوي والپشتوي كما هو ظاهر من مؤلفاته المطبوعة، لكنه لم يتنكر للماضين، وكما يقول المعلق: (هذا هو العروض الحديث الذي استلهمه الكرباسي ممَّن قبله، فلا هو هدم القديم واعتدَّ بعروضه الجديد فيكون مفرِّطاً، ولا هو بقي على خطى الخليل مقلِّداً فيكون بذلك مفرطاً، ولكن المبدع امتلك حسَّ المهندس وذوق الشاعر، وعبقرية المجدد، فراوح بين النظامين، إذ لا إفراط ولا تفريط في هذا الفن الذي وجبت الإحاطة فيه بعلوم مختلفة كالحساب، والهندسة، والأصوات، والنحو والصرف والبلاغة، والموسيقى، وألفيت الكرباسيَّ في هذه الفنون عارفاً مجيداً).

إذا كان المؤلف في (هندسة العروض) استعرض بالتفصيل كل البحور القديمة والجديدة التام منها والمجزوء والمنهوك مجتمعة، فانه في (بحور العروض) أوجز الحديث في الأنماط الثلاثة بشكل منفرد ضمن نظام التفعيلة، فضم الفصل الأول من التفعيلة المثمّنة 210 بحور تامة أربعة أجزاء في الصدر ومثلها في العجز وهي:

المُتقارب، المُتدارك، الهزج، الرَّجز، الرَّمل، الوافر، الكامل، المُستزاد، المُطوَّل، المُتبسِّط، المستشبه، المبسوط، المشبَّه، المُبسَّط، المُترملَّ، الشبيه، المُنبسط، المُستَرْمِل، الطويل، المديد، المستطيل، البسيط، المُمتَد، القريب، المُستدرك، المُكمَّل، المُتكامل، الأكمل، الكمول، المُقارب، الأطول، المستقرب، المتدرك، الأقرب، الموفر، الميسَّر، المرمول، الدّارك، المُستغرب، الدَّرَك، الغريب، المُشارك، المُرمَّل، المشترك، الأبسط، المُتشارك، الأخَفْ، المُقرَّب، المميز، الصافي، وفي البحر الأخير يقول صاحب المنظومة:

ألا يا قومي على صاف البحور نظمي ... فَعولنْ مستفعلنْ مستفعلنْ فعولنْ

فهذا لونٌ من الأوزان لو نظمتُمْ ... عليه .. بيتاً عشقتُم أن تباهلوا الفَنْ

ثم: المُتمايز، المصفى، الأغرب، المزج، المصطفى، المُتمازج، الموجز، المزيج، الوجيز، المجاز، الممزوج، المُنقّى، النَّقي، المُنتقى، الأنقى، المُستكمل، المُستخلص، المُستَنقى، الخلوص، القسيم، المُقَسَّم، المُتقاسم، القاسم، المقسوم، المنقسم، المتقابل، الجامع، المقبول، المجمَّع، المتقبَّل، المستجمع، الموزون، المجموع، المتوازن، الوفير، الموفور، الوزين، المرتَجَز، المسرح، المُتسرِّع، المُتصارع، المُستقضَب، المركَّب، المُتسرِد، المُقتضَب، المُجتث، المُطَّرد، السريع، المُتَّئد، المُنسرد، المقضَّب، وفي البحر الأخير يقول صاحب المنظومة:

قضِّب من تفاعيل بحرٍ أوزانه محكمٌ ... مفعولاتُ مستفعلنْ مفعولاتُ مستفعلنْ

مَن منكُمْ يرى فضله في تأسيسه قائماً ... فلينظِمْ كما يرتئي المولى حظّه في المِحَنْ

 ثم: المُخفَّف، المُستطرد، المُنسرح، الخفيف، المُضارع، المُستهزج، المُجوّز، الهزيج، المُهزَّج، المرجوز، المُخلط، المُترجِّز، الخليط، المُتراجز، المخلوط، الرجيز، المُخالط، المُرجَّز، المُتسارع، المزيد، المُسترجز، المُتراكب، المُتزايد، المُخصص، الخاص، المخصوص، الخصوب، المُخصَّب، الركوب، المُتركّب، الخصيب، المركوب، المزاد، المزوَّد، المُستزيد، المنفصل، الفصيل، وفي البحر الأخير أنشأ صاحب المنظومة:

فصيلي بحرٌ في وزنكَ أنغامٌ تحلو فيه ... مفاعيلنْ مفعولاتُ مفاعيلنْ مفعولاتُ

إذاً فانظمْ وانشدْ وغازل محبوباً لا يـــ ... ـــــتوانى عن حقٍّ في عملٍ كم فيه خُبْراتُ

ثم: المخلوع، الخليع، المفصول، المُتخلّع، المُستخلع، الصدح، الصدوح، المصداح، الصديح، السالم، الصالح، السليم، الصلوح، المُصلح، الجميل، المُجمل، الحميد، المُتحلِّف، المستجمل، الظريف، المحمود، المُستظرف، التابع، التَّبع، الثَّمل، الثَّمول، المتبوع، الحديث، المُثمَّل، المُستحدَث، الجديد، الحليف، المُحلف، المُستحلَف، الخلاط، المُشتبك، المُتشابك، المعكوس، المُتعاكس، الزَّلق، وفي البحر الأخير أنشأ صاحب المنظومة:

خذوا زلقاً لنظم جميع الأغراض بالتأثير ... مفاعلتنْ مفاعلتنْ مفعولاتُ مفعولاتُ

ولا تذروا منابركم تخلو من لطيف القول ... إذا طربٌ بدا وجرت أنغامٌ لها اثباتُ

ثم: الذَّلِق، الزَّلوق، الذَّليق، الذَّليل، الشَّذِب، المُذلَّل، المُشذَّب، الشَّرِن، الأوفر، المُتوافر، الطريف، المُستطرف، الضَّريب، الطروس، الصَّريم، المُستضرب، الطليق، اللاحق، اللحوق، النشيب، النَّشَب، البديع، العزيز، اليسير، النادر، اليتيم، المدق، الأدق، المُستدَق، الدقيق، المُتسرِّح، وأخيراً المتوفِّر.

أما البحور المجزوءة المسدّسة التفعيلة المتناصفة بين الصدر والعجز فهي البحور التامة نفسها ولكن بحذف التفعيلة الرابعة والثامنة من شطري البيت، فيما أن البحور المنهوكة المربّعة التفعيلة المتناصفة بين شطري البيت فهي البحور المجزوءة نفسها ولكن بحذف تفعيلة في الصدر ومثلها في العجز، على أن بحر الرجز أكثر البحور نهكاً كما يشير المعلِّق وذلك: (لسهولته وخفَّته، وشيوعه بين الناس، فلهج به الفرسان في الحروب، والمتبتِّلون بالدعاء، والمغنّون منه قصار المقطوعات)، وفي الرجز وحلفاؤه السبعة والملحق: المُبسَّط، المصفى، المقبول، السريع، الرجيز، الثمل، والمركب، أنشأ صاحب المنظومة:

انظِمْ على بحرِ الرَّجَز ... مستفعلنْ مستفعلنْ

خذها رجيزاً أو سريـــ ... ــــعاً أو مصفّى بالسُّنَنْ

مقبولُكَ الشافي انتشى ... مُستَفْعِلُن مُستَفْعِلُنْ

ثمِّلْ وركِّب بينها ... ذا ملحقٌ يا مَنْ فَطِنْ

بسِّطْ عروضاً عازفاً ... مستفعلن مستفعلنْ

وهكذا يُضيف المؤلف في منظومته التي تعدُّ كبحوره، جديد في ميدان الشعر العربي القريض، ورغم أني لست شاعراً أو متشاعراً وأحسب نفسي متذوقا له غير فقيه به، فليس لي أن أزيد على قول الشاعر الجزائري الدكتور عبد العزيز شَبِّين في تقديمه للكتاب، وهو القائل قول ضليع في البحور والعروض: (لقد أحدثَ الكرباسيُّ في شعرنا المُعاصر فتحاً أبسطُ ما يُوصفُ به العبقرية والخلود، إنه حقّاً ثورة في الأفكار، غيَّرت السائد، وجدَّدت القديم، وأخصبت المحدبَ، وأروت الأظما، ورفعت المكسور، وفتحت المغلق، وذلَّلت الصعبَ، وكشفت خفايا المعاني، وأسْلَسَتْ شُموخَ المباني).

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 6/حزيران/2012 - 15/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م