الثورات العربية: ربيع عربي بخريف اقتصادي

(الجزء الثاني)

د. جواد كاظم البكري

الانعكاسات الاقتصادية المرتبطة على المنطقة العربية

• خسرت البورصات العربية 49 مليار دولار حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية

• شهدت المنطقة منذ بداية الثورات العربية حالة من عدم اليقين الشديد والضغوط الاقتصادية الكبيرة، سواء من مصادر محلية أو خارجية، وسيؤدي تفاقم الأوضاع السياسية بتلك الدول إلى زيادة هذه الضغوط، فقد قامت البلدان العربية سواء التي شهدت ثورات أم التي لم تشهد بزيادة إنفاقها لتلبية احتياجات الشعوب وتطلعاتها.

• انخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية في المنطقة العربية، بنحو 83%، إلى أقل من 5 مليارات دولار، وذلك لتعطل دورة الإنتاج في عدد من تلك البلدان، ما أثر في حجم الصادرات، وتراجع السياحة إلى أدنى مستوياتها، وارتفاع البطالة والنقص الحاد في الوارد من العملات الأجنبية.

• أن الحكومات في عام 2011 قد اضطرت إلى زيادة الإنفاق الجاري في المالية العامة على حساب الإنفاق الاستثماري لأنها صرفت مبالغ كبيرة في منح زيادات أجور وحمايات اجتماعية إضافية لمواطنيها.

• وصلت خسائر الاقتصاد العربي بسبب تحولات الثورات العربية إلى نحو 56 مليار دولار في عام 2011، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم خلال العام الجاري 2012 ويصل إلى نحو 120 مليار دولار.

ثورات دون فلسفة (الاقتصاد...المسبب الغائب)

 عقد المنتدي الاقتصادي العالمي اجتماعين خلال شهر تشرين الثاني 2011 الاول في الو ظبي 10-11 والثاني في 21-23 في الاردن تركزت هذه الاجتماعات على مناقشة الاوضاع الاقتصادية في الدول العربية التي حدثت فيها ثورات لوضع نماذج يمكن تطبيقها لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تواجه العالم العربي ولمعالجة الخلل في اقتصاداتها، تحدث خلالها ممثلون لدول مرت بهذه التجارب في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، ضم المنتدي أكثر من 700 شخصية من 80 دولة.

 من خلال استطلاع الخبر أعلاه نجد أن النخب العربية الحاكمة اليوم عادت من جديد الى الاشكالية السابقة ذاتها التي تقضي بتبني نماذج غربية للتنمية في الوطن العربي، علماً ان كل تلك النماذج فشلت فشلاً ذريعاً في انتشال تلك الدول من التخلف الى التنمية، فظلت حبيسة تلك التجارب الغريبة عن جسم الاقتصاد فيها، لذلك كان لزاماً على هذه النخب البحث عن تجارب تنموية تحقق هدفين:

الاول: ان تكون تلك التجارب نابعة من رحم الاقتصاد المحلي، بمعنى تتوائم والمناخ السائد في هذه البلدان من ثقافات ومثل وعادات وتقاليد، تختلف بالضرورة عن مثيلاتها الغربية.

الثاني: تقنين العلاقة مع صندوق النقد الدولي التي اثبتت التجارب الدولية السابقة بامتياز فشله في تطبيق وصفاته الجاهزة للإصلاح الاقتصادي في دول المنطقة، اذ أن الصندوق اهم مايؤكد عليه هو فتح الابواب أمام الاستثمارات الاجنبية من رؤوس اموال وتقنيات إدارية وتكنولوجيات حديثة، ويتطلب ذلك تشجيع الوصول الى كل هذه الموارد من قبل المستثمرين الاجانب، اضافة الى ربط الاصلاح المحلي بالاصلاح العالمي، ونظراً لأن الاصلاح العالمي-بحسب رؤية الصندوق – هو تلك البرامج التي يتم تطبيقها في البلدان التي تخضع لوصفة المؤسسات المالية والنقدية الدولية الراسمالية، فإن جوهر هذه الأطروحة واضحة هنا: يجب ربط الاصلاح المحلي بعجلة الاصلاح العالمي المطبق تحت حراب تلك المؤسسات المشار إليها.

 فما يشيح به واقع تجربة البلدان المتحولة أو البلدان النامية الأخرى مع صندوق النقد الدولي من مثل (مصر، المغرب، المكسيك، البرازيل، الأرجنتين...الخ)، أن الكلفة الاقتصادية والاجتماعية هي المعيار على بؤس الاعتماد على آليات السوق المنفلتة، بحيث أخذت المشكلات تتعمق وتتصاعد طردياً مع الزمن لتصبح عقبات كبيرة في طريق التطور اللاحق، اذ أن تجربة البلدان النامية مع التنمية ونظم الحكم المختلفة التي تفرض على مجتمعاتها هذه الفلسفة/أو السياسة الاقتصادية أم تلك، أثبتت فشلها الذريع وكانت كلفتها باهظة لمجتمعاتها، ولم يعد باستطاعتها أن تدفع فاتورة فشل النظم وسياساتها التي لا تتسم بأية معقولية ممكنة،، إذ أن الفشل بالإتيان ببرنامج اقتصادي عقلاني وواقعي ومنطقي لا يكون مبرراً لاعتماد برامج مفروضة من الخارج.

العوامل المحددة لملامح السياسات والتوجهات الاقتصادية لدول المنطقة خلال السنوات المقبلة

 في ضوء قراءة أسباب هذه الثورات وما أفرزته من نتائج في الأجل القصير، وما يتوقع أن تفرزه في الأجل الطويل يمكن التأكيد على أن عوامل عدة ستحدد ملامح السياسات والتوجهات الاقتصادية لدول المنطقة خلا السنوات المقبلة، وأهمها ما يلي:

• تراجع تبني الحكومات لسياسات الاقتصاد الحر وآليات السوق بشكلها المطلق، والتركيز على البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية، وهو ما يعني تباطؤ برامج التخصيص أو تجميدها أو حتى الردة عليها، وتوسيع فرص التوظيف في القطاعات الحكومية بعد أن تم وقف التوظيف فيها مدة طويلة، أي أن نموذج (السوق فقط) سيتراجع لمصلحة نموذج (الدولة والسوق معاً).

• اتساع برامج المظلة الاجتماعية التي تركز على محاربة الفقر والبطالة والأمية، وتوسيع برامج الدعم للشرائح الفقيرة، والبحث عن آليات جديدة لتوصيل الدعم لمستحقيه، والعمل على تحقيق العدالة في توزيع عوائد التنمية.

• حدوث تغير في طبيعة العلاقة بين الحكومات والقطاع الخاص، وذلك من خلال ممارسة ضغوط على القطاع الخاص ليراعي الجوانب الاجتماعية في قراراته، وذلك لتوفير مزيد من فرص العمل للشباب، والحد من ارتفاع الأسعار من خلال تقليل هوامش الربح، والعودة لتوسيع الدور الرقابي للدولة على نشاطات القطاع الخاص، وربط السياسات المحفزة للقطاع الخاص بمدى مساهمته في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للحكومات، واللجوء إلى العقوبات ضد سياسات القطاع الخاص التي تثير حفيظة المواطن، ناهيك عن اتخاذ نوعية من القرارات الاقتصادية الشعبية (التي تحظى برضا المواطنين من المستهلكين وطالبي العمل مثلاً) بغض النظر عن تأثيرها في القطاع الخاص أو في مناخ الاستثمار.

• تغير العوامل التي تحكم الأبعاد الاقتصادية للسياسات الخارجية لدول المنطقة، حيث ستكون الأولوية للشركاء الاقتصاديين الذين يساعدون هذه الدول على تحقيق الأمن الغذائي، ويدعمون برامج التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر في دول المنطقة، وبذلك سيحدث تراجع للعامل السياسي في هذا المجال، وستحدث تغييرات عميقة في توزيع التكتلات الاقتصادية، وتوزيع التحالفات والاتفاقيات الاقتصادية لدول المنطقة في الأجل الطويل، وهذا التوجه إما أن يعيد الزخم للتكامل الاقتصادي العربي ولمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وللتجمعات الاقتصادية في الخليج والمغرب العربي بقوة، أو قد يدخل هذه التكتلات في عمليات فك وإعادة تركيب جديدة من أجل تحقيق المصالح السابق الإشارة إليها، أو قد يطلق رصاصة الرحمة على التكامل الاقتصادي العربي ويدفع بعض دول المنطقة للانضمام إلى تكتلات اقتصادية خارج المنطقة، وذلك وفق ما تقتضيه المصالح الاقتصادية في الظروف الجديدة.

• قد يحدث تعارض وفجوة كبيرة بين دول المنطقة والمنظمات الاقتصادية الدولية المتخصصة، مثل الصندوق والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، وذلك بعد أن تراجعت ثقة شعوب المنطقة وحكوماتها بشكل كبير بنجاعة سياسات هذه المنظمات لتحسين الأوضاع الاقتصادية لشعوب المنطقة، وأن هذا الامر قد يدفع بالمؤسسات المذكورة الى تغيير توجهاتها وسياساتها الاقتصادية تجاه دول المنطقة، وذلك في ظل تركيزها على مراعاة الجوانب الاجتماعية في مسيرة التنمية، خاصة ما يتعلق بعدالة توزيع عوائد التنمية، وجودة النمو، ومحاربة البطالة والفقر، والتركيز على الاستثمار في التعليم، وذلك في ظل فشل سياسات التركيز على مؤشرات الأداء الاقتصادي الكلي والاستعاضة عنها بالتركيز على ما يعرف بمعايير جودة الحياة Quality of life

الاستنتاجات

• حتى هذه اللحظة فإن الثورات العربية، على الرغم من أنها قضت على أنظمة ديكتاتورية ذات سمعة سيئة، وفتحت المجال على مصراعيه أمام الخيارات الحرة للشعوب حول طبيعة وكنه من سيحكمونها، إلا أن تطورات الأوضاع على الأرض لا تبشر بالخير، وأن الثورات العربية قد(تمر بخريف اقتصادي طويل الاجل) قبل أن تستقر الأوضاع وتتحسن قدرة تلك الدول على النمو والانطلاق نحو مستقبل جديد.

• كي يتم تحويل الثورات العربية إلى فرصة حقيقية للنمو الاقتصادي لابد بدايةً من استعادة الاستقرار السياسي أولاً ثم الاستقرار الاقتصادي بالمنطقة العربية.

• فيما يتعلق بجزئية المساعدات التي يوفرها صندوق النقد الدولي لدول الثورات العربية، نعتقد بشكل عام أن الأزمات المالية العديدة التي مرت بها العديد من دول العالم لفتت الانتباه إلى أهمية قيام الصندوق بمراجعة سياساته وبرامجه للإصلاح الاقتصادي والمبنية على توافق واشنطن بشكل عام، اذ لم تعد هذه الإصلاحات كفيلة باستعادة الاستقرار الاقتصادي والمالي، اذ برز من جديد ومن خلال هذه الأزمة دور مهم وقوي للحكومات لضمان سلامة البنيان الاقتصادي والمالي، فالعالم ينتظر من صندوق النقد الدولي في المرحلة الراهنة القيام بمراجعة شاملة لسياسات الإصلاح الاقتصادي على ضوء التطورات الدولية الراهنة وبما يسمح بالأخذ في الاعتبار لخصوصيات العديد من الدول وبالتالي فليس هناك دائماً وصفة جاهزة ناجعة للإصلاح، وإنما هناك في كل مرة فهم أعمق وأدق لطبيعة الظروف الاقتصادية وحدود المسموح والممكن من.

• أن من أهم الحقائق اليوم تتمثل في أنه لن يكون هناك حسم في مسائل الاقتصاد قبل أن تحسم مسائل السياسة، ويتقرر من سيحكم تلك الدول وما هي الأيديولوجية التي يحملها وما هو المنظور الاقتصادي الذي يتبناه، بصورة مبدئية تشير أغلب التقديرات إلى أن القوى المرشحة للعب دور أكبر في الحياة السياسية القادمة لدول الثورات العربية هم الإسلاميون أولا يليهم بعض القوى الليبرالية واليسارية غير المتجانسة، وإذا جئنا إلى الإسلاميين وفكرهم الاقتصادي، نجد أنه عبارة عن توجهات عامة غير تفصيلية مع تفضيل واضح لنظام الاقتصاد الحر وخبرة محدودة في إدارة الدولة ورغبة في تبني سياسات تجلب الشعبية على المدى القصير، إما التيارات الأخرى فليست أحسن حالا؛ فهي أيضا أبعد ما تكون عن امتلاك مواقف محددة وبارزة تجاه قضايا الاقتصاد والتنمية، وربما يقود مثل هذا الوصف إلى استنتاج مفاده أن إرضاء الشارع والمواطن العادي وتخفيف العبء عنه سيكون البوصلة الأساسية التي توجه قرارات وسياسات أولئك الحاكمين الجدد في مجال الاقتصاد؛ وبتعبير آخر أن كسب الشعبية سيكون أصلا في التحرك الاقتصادي.

• ان النخب الجديدة ستسعى الى تأسيس قاعدة اقتصادية ومادية لحكمهم في ظل التنافس السياسي المحموم والمتوقع بين الإسلاميين والعلمانيين ومحاولة كل طرف تثبيت ركائزه في السلطة، فسنجد محاولات لحيازة مواقع قوة اقتصادية لكي يستعان بها في التنافس السياسي، ومثل هذه المحاولات ستزيد من حدة الصراع الاجتماعي، كما ستطيح بمراكز قوة اقتصادية أخرى يحوز عليها المنافسون أو المحايدون، الذين لا يسايرون التوجهات التي ستكون لها اليد العليا في إدارة الدولة، كل هذه السيناريوهات، في حال حدوثها، قد تضعف مصداقية الدولة، وتنفي عنها صفة الحياد الاجتماعي.

• سيكون من قبيل المغالطة أن نتوقع سخاء من الدول الغربية أو المنظمات الاقتصادية الدولية تجاه دول الثورات العربية لو تولى الحكم فيها مجموعات إسلامية أو قوى راديكالية.

• رغم أن الغرب يخشى ولا يتمنى انهيارا اقتصاديا يعقبه انتشار للفوضى وتصاعد للتطرف مع موجات نزوح وهجرة واسعة لأوروبا من هذه الدول، إلا أن الغرب سيراقب المشهد عن كثب وهو يتوقع أن يؤدي الفشل الاقتصادي وما يتبعه من سخط شعبي إلى محاصرة التيارات الراديكالية في عقر دارها والتضييق عليها تمهيدا لإلغاء خياراتها المتطرفة ودفعها إلى مواقع الاعتدال والواقعية، ولسان حال هؤلاء يقول: ها أنتم تسلمتم السلطة وملكتم الحكم والدولة فأرونا ما أنتم فاعلين؟

• بالتأكيد، إن إسقاط نظام حكم غير صالح عملية أسهل بكثير من بناء نظام صالح وإدارة كفء، وهذا هو التحدي الذي تواجهه القوى والتيارات التي سوف يقدر لها أن تمسك زمام الأمور في دول الثورات العربية، فحساب الحقل ليس كحساب البيدر، والربيع الذي لا يزهر رخاء يدفع أصحابه إلى الزهد به سريعا.

* جامعة بابل/كلية الادارة والاقتصاد

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 23/آيار/2012 - 1/رجب/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م