مقاولو الفوضى

توفيق أبو شومر

طلب مني أحد الزائرين لغزة أن أفسر له بعض الظواهر التي شاهدها، وأثارت استغرابه، لأنها صورٌ متناقضة. قال:

" دخلتُ أحد البنوك في غزة بصعوبة من كثرة الزحام برفقة أحد أقاربي الذي كان يود أن يستلم مرتبه، ولم أكن أعلم بأن الموعد كان يوم استلام الموظفين لمرتباتهم الشهرية، وكانت الفوضى هي السائدة وسط امتعاض المراجعين من هذا الاكتظاظ، ولم أحتمل البقاء في البنك لقلة الهواء الصالح للتنفس، ولكثرة النزاعات، فخرجتُ أنتظره خارج البنك"!

وكنتُ بالأمس مع قريبي نفسه حين دخلتُ معه بوابة أحد الشركات الخاصة الكبرى في غزة، وهي شركة جوال، وعلى بوابتها آلة لتنظيم أرقام المراجعين، كلٌ بحسب رقمه ودوره، وجلسنا على مقاعد مريحة وسط جو مكيف، وأحسست بأن هذا المكان يشبه إلى حد كبير معظم المؤسسات في الولاية التي أسكنها في أمريكا أريزونا؟

ألسنا نحنُ أنفسنا مَن كنا بالأمس راضين مرتاحين في الشركة بفضل آلى النظام، ونحن اليوم الغاضبين الناقمين في البنك الذي يسير على أحدث الأنظمة الإلكترونية؟!!

لماذا تبخل البنوك والدوائر الأخرى ومؤسسات أخرى (فوضوية) على المراجعين بتنظيمهم بواسطة آلة توزيع البطاقات الرقمية الرخيصة جدا؟

هل تلك المؤسسات الفوضوية تجهل فوائد هذا الآلة البسيطة؟ أم أنها لا تستطيعُ شراءها؟!!

نظر إليَّ منتظرا إجابتي قلتُ:

إن السبب يا صديق لا يعود إلى جهل الدوائر الفوضوية بأهمية الآلة، ولا يعود أيضا إلى عدم قدرتها على توفير ثمنها، ولكن السبب يعود إلى أن هناك من يستفيد من حالات الفوضى في الدوائر الفوضوية، فهناك ربحٌ وفيرٌ لكثيرين، ممن يستفيدون من هذه الفوضى، وإليك وصفا لهم!!

كيف يمكن لبعض الموظفين أن يقدموا الخدمات من وراء الطاولات بانتهاك الأدوار لمعارفهم، مع وجود آلة رقمية؟!!

 وكيف يمكنهم أن يحصلوا على مقابل ماديٍّ ومعنوي من زبائنهم نظير خدمتهم لهم، وجعلهم يتجاوزون رقاب المساكين، ويحصلون على الخدمة بغض النظر عن  دورهم وساعة وصولهم؟!!

وكيف يمكن لكثيرين من المصابين بأمراضٍ نفسية، أن يستمتعوا بمنزلتهم الرفيعة، مع وجود الآلة التي تنظم الطوابير، فلن يحس هؤلاء المرضى بالعظمة في وجود الآلة، التي تمحو وتطمس شخصياتهم، فهم لا يكونون عظماءَ مع وجود آلة النظام، فهم عظماءُ فقط إذا تدافعت الأجساد على مكاتبهم تطلب عطفهم وإحسانهم، فالآلة ألدُ أعدائهم !!

لذا فلا غرابة حين تجد بعض الموظفين يبتسمون بارتياح وانتعاش وسط الفوضي، ويحتملون الاكتظاظ والتدافع، بل (يلتذون) به أحيانا، وسط مجتمعٍ انعدمتْ فيه وسائلُ التميز، وإثبات النفس بالإنتاج والإبداع!

كما أن بعض الموظفين في تلك المؤسسات الفوضوية، ممن قصُرتْ باعُهُم عن الإبداعات، وهم لا يملكون الأفكار المبدعة، لا يجدون فرصة أفضل من أن يسعوا إلى هذه الفوضى ليُثبتوا لرؤسائهم بأنهم تمكنوا من تسيير الأعمال وسط الفوضى، فيتحولون إلى شرطة لتنظيم الفوضى، ثم يدعون بأنهم أمضوا يوما مرهقا جدا، يستحقون بعده علاوة( أخطار المهنة) ويستحقون درجة وظيفية عليا!!

ولعل أخطر الفئات والجماعات التي تسعى لإدامة الفوضى، وهم من فئة المندسين في كثير من المؤسسات، ومن طائفة مقاولي الفوضي، وهؤلاء يسعَوْن لاستمرار حالة الفوضى وتعزيزها والحفاظ عليها ورعايتها، حتى يبقى هذا المجتمع فوضويا، أي بعبارة بسيطة حتى يقول الزائرون لهذا الوطن:

إن هذا الشعب الفلسطيني ليس جديرا بأن ينازع أعداءه المنظمين المرتبين، فالفلسطينيون شعب فوضوي غوغائي، ليس جديرا بأن ينافس مغتصبي حقه!

وهناك غاية أخرى وهي أن يشعر المبدعون المنظمون، من أعداء الفوضى بأنهم لا ينتمون إلى هذا المجتمع الفوضوي، وليس أمامهم سوى الهجرة إلى بلاد النظام في العالم الآخر!

 وهناك أيضا رسالة أخرى وهي أن مَن يزرْ الوطن ويرىَ الفوضى وبعض المظاهر الأخرى وأبرزها انتشار رمي النفايات في شوارع غزة، وعادة البصاق المكشوف في الشوارع والذي أصبح تقليدا شعبيا في غزة يمارسها الصغير والكبير والرجل والمرأة، سيقول:

كنتُ مخطئا عندما كنتُ في السابق أدافع عن نضاله واستحقاقه الوطني، فهم شعبٌ لا يستحقُّ شرف نضاله العادل؟

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 16/آيار/2012 - 24/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م