سيكولوجية الإثارة السياسية

من اللذة إلى الإدمان

رسول الحجامي

(في الأصل هذه دراسة في علم النفس السياسي تختص بالمشهد السياسي في العراق ولان أزاميل العلم تختلف عن أقلام الصحافة كان هذا المقال).

• فايروس الصراع

الموت هو ارحم خيارات الصراع.. وكان هذا موقف أول إنسان صالح على الأرض (ابن ادم) حينما رفض الصراع مع أخيه كعنوان للانتصار.. الصراع الذي يهدف إلى الانتصار على الأخر.

الانتصار على الآخر تاريخيا: واديا عبرت من خلاله كل قوافلنا المحملة بعناوين الخير والشر، من إحقاق الحق إلى إلغاء الأخر.. وطمس كل اثر له...

الصراع الذي تنوعت مفاهيمه وخرائطه، ومصطلحاته وأشكاله، وتفشت سرطاناته حتى أصبحنا نعاني ورم العدوانية في كل ذرة من مساحة الوطن أو جسد المجتمع والفرد.

كل شيء أصبح مادة للصراع.. حدود المحافظات – النفط - مناهج التعليم – المظلوميات - الحقوق - القوانين - صلاحيات رئاسة الوزراء - صلاحيات شرطي المرور - القضاء واستقلاليته –الخ...

في شوارعنا.. في بيوتنا.. في أحلامنا.. صراع.. صراع.. صراع...

وهذه تشبه نوتة السياب في قصيدته (مطر.. مطر.. مطر..) غير إن مطرنا اليوم دماء وسماؤنا كراهية.

فايروس الصراع ازدحمت به مفردات لهجاتنا العامية وعبارتنا الصحفية وجدلياتنا الفضائية، وأفواه المسؤولين من مثيري الفتن من لاعبي السياسة.

• الإثارة السياسية وأنهاك الوعي

في علم النفس السياسي تتنوع أشكال (المثير السياسي) وهو يأخذ هويته أي المثير السياسي ليس فقط من شكله ومحتواه فقط، بل ومن هوية الاستجابة المتوقعة له.

فالإعلان والبيان والتصريح السياسي أو اتخاذ موقف أو قرار سياسي من المتوقع إن تثير استجابة سياسية ذات مستويات متعددة ومتباينة بحسب قوتها وتأثيرها وعوامل نموها.

ومن المعروف إن وظيفة الإثارة السياسية هي لجذب الرأي العام نحو قضية سياسية معنية، وهي غير مطلقة الاستخدام، ولا مطلقة الغايات بل محددة ومتقنة بشكل يجعل من استخدامها عنصر قوة في بناء الوعي السياسي للمجتمع، لا لتدمير ذلك الوعي أو تضليله.

في العراق مع غياب وتغييب مؤسسات الرقابة الوطنية والطعن المستمر بشرف القضاء وطهارة مولد قراراته، بقذفها بالاغتصاب السياسي والحكومي، حتى أصبحت الإثارة السياسية هي الجزرة التي يقود بها السياسي جمهوره لأهداف هو رسمها ولا يعلم تفاصيلها إلا هو والراسخون معه في تلك اللعبة.

منذ أن وهب الشعب العراقي صوته في الانتخابات والمشهد السياسي في العراق ممتلئ بالأزمات، أزمات تلو أزمات، صراعات متتالية مركزية وجانبية، بين الكتل أو القوائم، أو الشخصيات أو الاثنيات، أو أي طرفين.

غطت مفخخات السياسيين على مفخخات الإرهابيين، بل أصبح الإرهابيون في كثير من الأوقات يستمدون الدعم الإعلامي والسياسي بل وحتى المادي واللوجستي من بعض السياسيين.

المهم إن الإثارة السياسية متواصلة، مستعرة الجذوة والشعب العراقي بين مستمتع بدفئها أو محترق بنارها.

لقد وصلت الإثارة السياسية في العراق الى مرحلة إنهاك الوعي، وهذا ما انعكس على الفضائيات المتابعة للشأن السياسي، فترى وتيرة متابعة جديد الأزمات والصراعات في المشهد السياسي العراقي متصاعدة بشكل انعكس على مواد العرض وشكلها وأوقاتها، فنجد إن برنامجا أسبوعيا قد أصبح برنامجا يوميا، ثم الى ان تضاعفت البرامج لتصبح عدة برامج لتغطية الأزمات.

• الإثارة السياسية وتضليل الرأي العام

هناك العديد من الجوانب السلبية في الإثارة السياسية في المشهد السياسي منها:

◄ إنها إثارة أزمات وصراعات بين كتل تمثل هويات أثنية – طائفية – قومية – عرقية، وبالتالي فإنها مصدر خطير لتنشئة جيل غير مؤمن بالوحدة الوطنية والتعايش السلمي المدني ولقضايا قبول الآخر.

◄ إنها إثارة سياسية موجهة نحو الانجذاب حول شخصية سياسية أو كتلة أو قائمة سياسية، وليست باتجاه مشروع وطني أو مطلب شعبي، لذا فإنها وسيلة هدم، وليست أداة بناء.

هذه الجوانب وغيرها استخدمت لتضليل الرأي العام تحت شعار (كلمة حق أريد بها باطل)، فالعنوان البراق لحقوق الإنسان لا يستخدم للدفاع عن ضحايا الشعب العراقي من الممارسات القمعية للأنظمة السابقة والعمليات الإرهابية، بل في الدفاع عن الجلاد بشكل استفزازي أصبح ينفر المجتمع من حقوق الإنسان.

ومقاطعات مجلس النواب أو الوزراء أو التهديد بالانسحاب من العملية السياسية أو إثارة الرأي العام وإثارة الشارع و إشعال الأزمات، لا يتم متن اجل توفير خدمات جيدة للمواطنين، وليس حول إقرار خطة طريق لتقليص البطالة أو الضمان الصحي أو تطوير الكهرباء والماء وبناء مساكن لمساكين العراء والخيام وبيوت التنك، بل هي من اجل التقاتل على كعكة الميزانية الانفجارية الهائلة، أو الحصول على مراكز السلطة والتمتع بامتيازات لم تبلغها حتى مبالغات الشعر ولا أحلام الأساطير.

• استفاقة

مسلسل الإثارة السياسية كالمسلسلات التركية، يبدأ بحبكة درامية تثير المشاهد وتشده ثم تتحول اللذة إلى إدمان ممل، وهي نفس الآلية التي تتحول فيها اللذة إلى إدمان، فالإثارة تبدأ مع كل دورة انتخابية بوعود وبرامج تتعلق بالوطن أو العرق أو القومية أو المذهب أو الحزب، لقاءات واجتماعات، ثم تنسحب لذة الإثارة لتتفرد بالأمور الخاصة بمنصب رئيس الكتلة والقائمة والحزب والصراع الآخر، ورويدا رويدا، تتحول لذة الإثارة الى إدمان.

غير إن الشارع العراقي بدا يستفيق، ومن وخز الإنهاك بدا يسترجع وعيه ليتسائل حول جدوى هذه الإثارة السياسية التي تنوعت أشكالها وتواصلت حلقاتها إلى حد الذي مجها الشعب العراقي ولم يعد يستسيغها.

لقد بدأ السياسيون يزيدون من جرعة الإثارة من خلال التهديدات الخطيرة، وتخريب العملية السياسية وشنق الدستور، واغتصاب القضاء وشحذ السكاكين لتقسيم تراب الوطن وأحلامه مما يجعل الشعب أمام خيارين:الأول أن يتناول جرعة اكبر من الإثارة السياسية وينساق الى أهدافها الخاصة بالقادة السياسيين، أو يطالب بانتخابات مبكرة لإزاحة مصادر الصراعات ومثيري الأزمات من اجل مصالحهم اللاشعبية واللاوطنية.

• تذكير

قد يحاول البعض من آكلي الرمم (ممن يستغل الصراعات لأكل بقايا الضحايا النافقة) أن يبرر إثارة الأزمات بحجة إنها مظهر من مظاهر الديمقراطية ! والمعارضة قوة للشعب !

بالطبع هذا الكلام شبع منه الشارع العراقي، بل ضجر منه، لان اغلب الأزمات التي تثار ليست من اجل حقوق الشعب العراقي بل من اجل مصالح القادة السياسيين والشهوة في أطلاق التصريحات النارية والتراشق والتقاذف على شاشات الفضائيات......... لا غير.

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 12/آيار/2012 - 20/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م