الضمور الاخلاقي ولصوص المال العام

علي حسين عبيد

 

شبكة النبأ: في العراق يشكو معظم الناس من الفساد والسرقات العلنية والخفية التي تطال ثرواتهم ومواردهم وأموالهم النقدية، ويمكنك أن تسمع هذه الشكاوى والتذمر المتزايد من بسطاء الناس، يطلقونها في الاسواق أو سيارات النقل أو المقاهي وسواها، ومعظم الشكاوى تدور عن السرقات التي يقوم بها مسؤولون وموظفون في الدولة، من دون أن يطالهم العقاب، لأن عمليات السطو على المال العام تتم تحت غطاء قانوني مفبرك، أو تتم بالتوافق والصفقات المشبوهة المتبادلة، في حين يُعلًن بين حين وآخر في وسائل الاعلام المختلفة –من باب ذر الرماد في العيون- القبض على الموظف الفلاني متلبسا بسرقة كذا دولار، أو مرتشيا بكذا مبلغ تافه وصغير قياسا للملايين بل المليارات التي تُسرق بحيل وألاعيب كثيرة، تُبعد مرتكبيها عن الملاحقة والقصاص.

ومن غرائب الامور أن عمليات السطو على المال العام باتت ظاهرة متداولة بين الجميع، وربما تحوَّلت الى احدى القيم المجتمعية المألوفة، حيث يعدّها بعضهم، لاسيما كبار الموظفين، (شطارة) و (فرصة حق) لتكوين الحاضر والمستقبل، لأن المنصب قد يزول لسبب أو آخر، ولهذا يبذل هذا المسؤول أو ذاك قصارى جهده (وشطارته) لكي يحقق ما يبتغي من منافع وموارد، في مدة قياسية، بغض النظر عمّا ستلحقه تجاوزاته وسرقاته من أذى بيّن لشرائح الشعب المختلفة، لاسيما الفقراء والأرامل والايتام.

يتزايد هذا الوضع (الخطير) في ظل ضمور متواصل للقيم الروحية والاخلاقية، مع تنام مخيف للمادية، حيث تزدهر حالة تسابق غير معهودة بين الجميع من اجل الحصول على أكبر الموارد وأكثرها، بغض النظر عن طريقة تحقيقها، طالما أن الأغطية القانونية وربما الشرعية ايضا، متوافرة ويمكن ابتكارها والاستفادة منها لتحقيق سرقات علنية او خفية للمال العام، قد يبدو مثل هذا الكلام ذا طبيعة فضفاضة، ولكن يمكن للمراقب والمتابع أن يكتشف نماذج كثيرة للسرقات المقنّعة، تشبه في اضرارها ومخاطرها البطالة المقنّعة، إن لم تتفوق عليها، أحد هذه النماذج على سبيل المثال، هناك موظف شاب، أنهى دراسته وحصل على البكلوريوس، كان فقير الحال، رث الملابس، حصل على تعيين في احدى الدوائر الخدمية، وفي غضون سنتين او اكثر قليلا، بنى دارا سكنية واقتنى سيارة حديثة وتزوّج من فتاة متعلمة، نحن نتمنى أن يحصل كل الشباب على مستلزمات الحياة الكريمة، وهذا واجب الحكومة تجاههم، ولكن يجب أن يتم ذلك بالطرق السليمة، وليس بطريقة (الشطارة) المستحدثة في استغلال الوظيفة، فإذا كان موظفا شابا صغيرا يستطيع أن يحقق المنافع التي ذكرتها في غضون مدة زمنية قليلة جدا، ماذا يفعل الموظفون الكبار من لصوص المال العام اذن؟؟.

نعم هناك لصوص يحسنون التعامل مع سرقة المال العام، وفي المقابل هناك من يغض الطرف ويتغاضى عنهم مقابل فوائد محسوبة، ومعظمها متبادلة، هذه الحالة تشبه تماما النظام المافياتي الخطير، السائد في دول معروفة من العالم، حيث يُعتمد اسلوب التوريط لكي تكبر قاعدته الى اقصى حد ممكن، حتى يتحول هذا النوع من السرقة الى ظاهرة متداولة لا تثير الاستهجان أو الرفض أو الاستغراب، لكن الاخطر من السرقة نفسها، هو ضعف الجانب الاخلاقي والروحي لدى النسيج المجتمعي المتباين، مقابل تصاعد في النزعة المادية التي تلهب الصراع والتسابق نحو ارتكاب جرائم السرقة والانحراف.

غالبا ما يحرص المسؤولون على التقليل من أهمية هذه الظاهرة، والسبب جلي وواضح للجميع، لأنهم هم المسؤولون عن ارتكابها، حتى لو بصورة غير مباشرة، أما الحلول فتكمن بالارادة السياسية الوطنية الحازمة، ولا توجد علاقة للتشارك والتعدد الديمقراطي، في صنع القرار لردع هذه الظاهرة وتقليل آثارها ثم القضاء عليها، إذ يتذرع المسؤولون بصعوبة الحزم في معالجة ظواهر الفساد والسرقات، بسبب غياب المركزية في اتخاذ القرار وما شابه، لتعدد الكتل والاحزاب التي تستند الى تعدد مكونات المجتمع، ولكن مجتمعنا ليس وحده من يتميز بالتعدد العرقي والديني والاثني، هناك مجتمعات تفوقنا تعددا وتنوعا، لكنها تفوقنا تطورا ايضا، في هذا الصدد يقول احد الكتاب  (إن التاريخ الياباني لم يختلف كثيرا عن تاريخنا العربي الإسلامي من معاناة الفرقة الدينية الطائفية، والحروب الدموية الطاحنة بين ولاياتها المختلفة، والإحباط المتكرر للمواطنين. وقد نستفيد من هذه التجربة في مراجعة ودراسة حقيقة تاريخنا، لبناء مستقبل زاهر ومشرق لأطفالنا)، لذا نحتاج بقوة الى كبح جماح لصوص المال العام والحد من اخطارهم المتفاقمة، بالاستفادة من تجارب الامم الاخرى. 

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 6/آيار/2012 - 14/جمادى الآخر/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م