مشهد عراقي وقوى متصارعة.. ثم ماذا؟

د. يوسف السعيدي

الخلافات القائمة في بلادنا وما يرافقها من صراعات سياسية حينا، واعلامية حينا، ومسلحة احيانا... فانها تنحصر في نوعين من التناقض احدهما اساسي وهو التناقض القائم بين شعب العراق كمعاناة وطموح من جهة، وبين جميع هذه المجموعات من جهة أخرى... ثم تناقض ثانوي وهو القائم بين هذه المجموعات، وهو صراع مصالح في المقام الاول يتمخض عنه صراع سياسي واعلامي ويعززه صراع مسلح...

ولا نظلم احداً ولا نتنكر للتاريخ اذا قلنا: ان هذه الفئات يجمعها جامع واحد ذو ملامح محددة وهي التخلف، ومجافاة العصر، والسعي لاستلاب الوعي من الناس، وفرض العبودية عليهم، والفاقة، والتنافر الاجتماعي، واشغالهم عن الحياة المرفهة الكريمة بحياة موعودة بعد الممات، وشل العقل، بل محوه، وسحق الروح الشغوفة بالحرية والحياة، واحاطة انماط السلوك المختلفة بالتحريم من خلال الفتاوي التي تحرم كل شيء أو من خلال التفسير الخاطئ للدين، ومعاداة المرأة بدوافع الكبت الجنسي المتوارث، وتكفير العلم والعلماء، ثم احلال الطائفية أو العنصرية كأيديولوجيا محل العقائد السياسية المعاصرة...

لكن هذه الفئات رغم هذه القواسم المشتركة بينها فإنها تبقى في حالة صراع لأسباب عدة:

منها، اولاً، ان التمسك بالطائفية ومحاولة استغلالها لابد وان يقود الى صراع الطوائف، وهذا ينطبق على العنصرية ايضاً....

ومنها، ثانيا، ان حصر الاهتمام بالمصالح الشخصية يدفع الى تنافس حدي يصبح همه الغاء الطرف الآخر بغية الانفراد...

ومنها، ثالثا، ان الاستحواذ على السلطة وتسخيرها لهذه الاغراض يفرض صراعاً سياسيا لا يتوقف عند حدود الحملات الاعلامية المتبادلة بل يقود الى صراعات مسلحة...

ومنها، رابعا، ان كل صراع مسلح يستلزم التفوق في مجال القوة وهذا التفوق لا يتأتى إلا بالمال والسلاح والدعم اللوجستي وهو يدفع بالضرورة الى الاستعانة بأطراف خارجية، ومن هنا يحدث التمازج أو (التعشيق) بين الصراعات المحلية والصراعات الاقليمية، واذ يسعى كل طرف اقليمي لحصة اكبر، وكلما حقق مكسباً فانه يطمح بالمزيد، واذ يقتات في الابقاء على مصالحه على تمزق النسيج الاجتماعي، والفوضى، فانه يدفع باستمرار الى تأجيج الصراع...

وحيث حاولنا تبيان سمات هذا التناقض فان التناقض الرئيس، ومع انه رئيس يبدو باهت الملامح، ومدفوعا الى الخلف، فشعب كشعب العراق معروف بموروثه الحضاري، ويسجل التاريخ له انه كان سباقا في تجاوز ما هو تقليدي في الثقافة الاجتماعية، ومن المتفق عليه انه شعب جدلي، وانه (ديكارتي) ان صح التعبير فهو يبدأ بالتشكيك حتى بالمسلمات، وهو شغوف بالحرية، وهو يتطلع الى الرفاهية الاجتماعية، وهو بعكس غيره من بعض الشعوب لا سيما المحيطة به للعقل اقرب منه للخرافة، وللمنطق اقرب منه للهرطقة، والمحتوى احب اليه من اللغو... وهذه الصفات نجدها عند الشيخ والعجوز، وعند الرجل والمرأة، وعند الفتى والفتاة، وحتى عند الاطفال الذين يتسمون بالمشاكسة وكثرة الاسئلة التي يطلق عليها احيانا صفة (محرجة)...

لكن هناك عوامل جعلت التناقض داخل الفئات السياسية المختلفة أكثر ظهوراً منها بين الشعب من جهة وهذه الفئات مجتمعة من أخرى...

منها ان الشعب لم يكن مستعداً لعملية التغيير التي حدثت في العام 2003 فمن الحق ان الجو الاجتماعي كان رافضاً للوضع لكن هذا الرفض لم يتبلور بعقيدة بديلة أو تنظيمات سياسية ذات فكر متقدم.

ويتبع هذا ثانيا ان التغيير جاء من الخارج وبقوة ليست هي بموضع الثقة، ولم يعرف عنها تبني اهداف مشروعة، أو تقديم تضحيات لوجه الله تعالى....

ومنها، ثالثا، ان القوى السياسية التي ظهرت بعد التحرير..المعارضة، منها والحاكمة، بعض القوى التي جاءت بعد التحرير قد تربت في الخارج، وكان بعضها من صنع اجنبي، اما القوى الاخرى التي كانت في العراق فقد ظلت بعيدة عن الجو السياسي رغم وجودها في الوطن، وكان ظهورها، بعد التحرير، استغلال فرصة وليس امتداداً لوجود ذي جذور ثابتة في الحياة الاجتماعية لمسافة مقبولة على الأقل...

ومنها، رابعا، ان جميع الحكومات المحيطة بالعراق وجدت ان هذا البلد قد أصبح ساحة مكشوفة اما تغريها بحصة منه أو تخيفها بوجود أخر، يشكل خطراً عليها.... لذلك فهي قد مدت اصبعها في الشأن العراقي وليس بصيغة النشاط الدبلوماسي أنما بصيغة تدريب لعدد من الفئات، وتسليحها، وتسهيل دخولها للعراق....

ومن جانب آخر، خامساً، فان شعب العراق لم يجد بين صفوفه قوة ديمقراطية، تقدمية... حقيقية تؤكد وجوده في الساحة، وتعبر عن همومه وتتبنى اهدافه...

نعم لقد برزت لاحقا العديد من القوى السياسية المناهضة للتخلف والطائفية والعنصرية، والمؤمنة بالعراق، الموحد، الحر، المستقل، الآمن، السعيد، منها دينية، وثقافية واكاديمية، وسياسية، لكن هذه القوى بدأت العمل في ظل اختلال واضح لموازين القوى...

فالجانب المتخلف تسانده حكومات ذات شأن وتغدق عليه بالمال.. والسلاح.. والدعم الاعلامي... وتهدد لغرض حمايته حتى بالتدخل العسكري، كما انها تغلغلت في كل مفاصل الدولة، وراحت تتخذ القرارات بما يعزز نفوذها..

ثم ان هذا الجانب قد هيمن على الحكم وبالتالي على مقدرات الدولة وسخرها لأغراضه، وباختيار امريكي سواء كان مقصوداً أو مجرد نتاج للغباء أو نقص التجربة، والخلل في فهم العراق، والاعتماد في التحليل والمشورة على فئات هي نفسها من أقطاب الجانب المتخلف... في حين جرى اهمال متعمد للعناصر الوطنية الكفوءة، والمخلصة، والنزيهة، والمتحضرة، والتقدمية، وللنخب المثقفة، ولنخب التكنوقراط، وللطبقة الوسطى عموما ولأصحاب الخبرة والتجربة من التكنوقراط والاعلاميين، ورجال الاعمال، ورجال الدين المستنيرين، ومشايخ العشائر الاصلاء العارفين..

وهكذا فان الصراع الحضاري بين قوى التخلف كلها سواء كانت حاكمة أو معارضة من جهة وقوى التقدم التي تمثل الشعب وطموحاته لم يكن متكافئا بحال...

لكن ايماننا على الدوام هو ان مصدات التغيير والقوى المقاومة لحركة التاريخ دائما تستهلك نفسها في محاولة فرض وجودها من حيث ترفض الحياة مثل هذا الوجود، وكما يرفض الجسم الحي السموم والاجسام الغريبة على نسيجه...

كما ان هذه القوى وهو تشعر بالقوة فانها في حقيقة الامر تسير نحو الضعف لأنها على افضل الاحتمالات، في مرحلة الشيخوخة... وفي الوقت الذي تشعر فيه بالامتداد فان هذا الامتداد يقطع اوصالها... لذلك فان صراخها العالي الذي نسمعه الآن هو محاولة لإظهار قوة بدأت تتسرب... أو استحضار هذه القوة من الفراغ..

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 15/نيسان/2012 - 24/جمادى الأولى/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م