روسيا، الولايات المتحدة، تصادم المصالح من جديد!

د. عادل محمد عايش الأسطل

برغم كل المتغيرات المتلاحقة والمستجدات الديناميكية، التي طرأت على البيئات الإقليمية والدولية، وتفرد الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمي، الديموقراطي والرأسمالي، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، إلاّ أن الساحة الدولية لم تخلو لها قط، ولم يختفي تماماً من على الساحة الدولية، ذلك الجسم المنهار والمتمثل في جمهورية روسيا الاتحادية، التي كانت تبرز بين الفينة والفينة، في عمق الساحة الدولية والإقليمية، في محاولة لإثبات نفسها سياسياً وعسكرياً، وعادة ما يتم لها ذلك، وفي حالات عدة، كأن تتعرض مصالحها الأمنية والسياسية والاقتصادية للخطر، كحالة تصديها للدرع الصاروخية الأمريكية في منطقة أوروبا، أو تعم الدولة المسيطرة حالة من الضعف جراء تورطها في مشكلات حربية وأمنية، كما حدث للولايات المتحدة، وتورطت في كل أفغانستان والعراق وبصورةٍ أقل في مناطق أخرى حول العالم، أو في حالة تضعضعها وانهيار اقتصاداتها، وخاصة ما حصل وما هو حاصل الآن، جراء الأزمة المالية، التي عصفت بالعالم الغربي عموماً بقيادة الولايات المتحدة.

ومن خلال هذه المنطلقات تحاول جمهورية روسيا، أن توجد لنفسها المكانة ذاتها، بعدما تحللت – ليس برغبتها تماماً- من مجموع كيانات الكتلة السوفياتية، التي كانت تجمعها بها، كونها كانت تمثل قطباً، في مواجهة النظام الغربي بزعامة الولايات المتحدة، باعتبار ذلك التحلل، هو في حد ذاته يمثل أكثر من ميزة مهمة لروسيا، نظراً للمكتسبات الروسية، التي ستجنيها جراء هذا التحلل، وبالتالي عدم تحملها تكلفة ذلك التجمع وأعبائه المادية، التي لا طاقة للاتحاد السوفياتي بها، وخاصةً في ظل سيطرة النظام الرأسمالي حينها بوضوح.

في السنوات القليلة الماضية برزت، جمهورية روسيا، كقوة أكبر ومتصاعدة في ذات الوقت، ولاعب أساسي، حتى تجاوزت من حيث الاقتصاد والقوة والفاعلية، ما كانت عليه إبان "الاتحاد السوفياتي" بعد التزامها فترة ترتيب نفسها من جديد، في الوقت الذي راحت فيه الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها، يعلنون الحرب على العالم، خاصةً بعد أن قامت بتحديدها، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، حينما صنّف الرئيس الأمريكي " بوش الابن" من معه من الدول ومن ضده، حتي كان لروسيا مواقفها الرابحة "عديمة التكلفة" وكلمتها ومهارتها في حيازتها للمكافئات، وكلمتها عند محاولة المس بكيانها وأمنها السيادي والاقتصادي.

بلا شك كانت هناك الكثير من الصور، التي برزت فيها روسيا كقوة رئيسية شاملة، وكان أوضحها، نجاحها بالتصدي للولايات المتحدة، بشأن سعيها إلى نصب نظام الدرع الصاروخي على الأراضي الأوروبية، وخاصةً أوروبا الشرقية، حينما أُرغمت الولايات المتحدة، لقبولها مبدأ التفاوض بهذا الشأن، والذي من شأنه حصول المزيد من المكاسب الروسية، في حال التوصل إلى اتفاق، أو إجبار الولايات المتحدة إلى التخلي عن ذلك المشروع، وكلا الحالين مهم جداً لديها.

 وفي حالةٍ ثانية، وهي الحالة الإيرانية، التي حازت فيها الجمهورية الروسية، القدرة في الوقوف بحزم في مواجهة الولايات المتحدة وأوروبا أيضاً، وذلك سواء فيما يختص بشأن موقفها الثابت والنهائي، بالنسبة لسعي إيران في مضيها في تطوير برنامجها النووي، والذي تعتبره حقاً شرعياً ومكفولاً للدول، طالما يندرج في الأطر السلمية، حيث لم يثبت لديها، كما تقول- روسيا - بأن له طوابع عسكرية، أو فيما يتعلق بتعاونها العسكري والنووي مع إيران، بالرغم من قيام روسيا بإلغاء صفقة الصواريخ الروسية من طراز "إس إس -300" بذريعة أو بأخرى، التي كانت عقدتها لصالح إيران، إلاً أنها لم تجنح للمطالب الأمريكية والغربية، في عدم تعاونها مع إيران بشأن عمليات تسليحية أو تطوير قدراتها النووية، حينما كانت رفضت روسيا تلك المطالب، وبعدم تدخلات الولايات المتحدة في الشأن الداخلي الروسي، لأن  روسيا لا تحتاج لأحد يدلّها على من تتعامل معه ومن تتعامل ضده، وكذلك فيما يختص بشأن فرض العقوبات العسكرية والاقتصادية ضد إيران، فلطالما كانت روسيا تمانع وتماطل، في مجاراة الدول الغربية في ذلك الشأن، بالرغم من استصدار أربعة قرارات من مجلس الأمن، بفرض العقوبات الدولية، إلاً أن تلك العقوبات كانت مخففة، نتيجة الضغط الروسي، حيث لم تؤثر تماماً في الشأن الإيراني، وخاصةً في عملية التطوير النووي كما يجب حتى هذه اللحظة على الأقل، وبدلالة أن الولايات المتحدة، لجأت وإلى جانبها الدول التي تتبعها، إلى إجراء المزيد من فرض العقوبات العسكرية والاقتصادية والمالية على إيران بطرق انفرادية فقط. كخطوة تعترف خلالها الولايات المتحدة، بعدم جدوى العقوبات ما لم تكن أممية، بدعمٍ كاملٍ من الجمهورية الروسية.

وبصورةٍ أدق، فإن روسيا كانت أزالت الغطاء دفعةً واحدة لإبراز قوّتها، والتعبير عن وجودها، والدفاع عن حصتها في المنطقة، خلال الأزمة السورية، كآخر منمنمة من الزمن الأول " زمن الكتلة الشرقية"، وآخر القوميات العربية المناهضة للنظام الغربي، والتي ما زالت تتبنى المبادئ الشرقية، وتقابلها روسيا بمصالحها المختلفة التي لا تغيب. ولهذا فقد حالت روسيا ومنذ نشوء الأزمة، دون نجاح المساعي الغربية، سواء بالتدخل المباشر، أو عن طريق الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في اتخاذ قرار بشأن الأزمة، ضد النظام السوري، الأمر الذي اضطرت من أجله الولايات المتحدة والغرب عموماً، للقبول بخطة "كوفي عنان" التي في الأساس كانت حازت على الرضا والقبول الروسي، قبل أي طرفٍ آخر.

وعليه والأمر هكذا فإن الولايات المتحدة، تجعل تلك التطورات، وخاصةً التطور السوري، باعتباره تحدياً مهماً، من طرف روسيا، وامتحاناً صعباً كذلك أمام الدول الأخرى، ربما لا تستطيع خوضه، أو تخوضه مجازفةً وعن غير بحثٍ ودراسة. بحيث يشكل هزيمة ساحقة ربما تكون القاتلة على المستويين التكتيكي والاستراتيجي، على الصعيد الشرق أوسطي على الأقل. لاسيما وأن الأزمة السورية، تعتبر في نهاية المطاف، لا تعتبر نزاعاً بين نظام حكمٍ ومعارضة، بل تعتبر صراعاً شاملاً، بين الكبار، بين الولايات المتحدة وحلفائها وخاصةً "تركيا"، وبين روسيا وخاصةً "إيران" من جهةٍ أخرى، وهو أصعب ما في الأمر.

لهذا فقد بدا للولايات المتحدة، أن تأخذ بصيغة الواقع، وتحاول جهدها كبح جماحها، وعدم الانزلاق أكثر ضد المصالح الروسية، وأنها تحاول الآن لتصحيح هذا الوضع، قبل فوات الأوان، وكانت قد شاهدت بأم عينها، موازاة الأساطيل الروسية أينما تواجدت أساطيلها، وخاصةً في المياه السورية.

ولا شك، تريد موسكو وقف إطلاق النار في سوريا، وتريد جلوس الأطراف للتفاوض والتوصل إلى حل مناسب، وتريد مناقشة الوضع السوري، مع الولايات المتحدة وبالطرق السياسية والدبلوماسية، وعلى نحوٍ لا تتضرر فيه العلاقات مع سوريا، ولا مصالحها الإستراتيجية بأي حال. وهذا بطبيعة الحال الذي ستقتنع به الولايات المتحدة على مضض، بسبب أن حل الأزمة على هكذا منوال، سيكون فقط لصالح السياسة الروسية، وللنفوذ الإيراني في المنطقة، حيث ستحصد الأخيرة، ثمار الجيوسياسية والعسكرية، والتي تطمح لأن يكون لها الحظ الوافر، في المنطقة بشكلٍ عام، وبما يعزز القدرات السياسية والعسكرية المناهضة، لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بعد أن كان النظام السوري بين قوسين أو أدنى من السقوط.

وكما تتمثل رؤية الولايات المتحدة في الضغط على إيران، لإرغامها على التخلي عن برنامجها النووي، من خلال العقوبات أو التلويح بالعمل العسكري أو بملئ مياه هرمز بحاملات الطائرات، فإن إيران، ترى أن تجاوز ذلك كله، يكمن في تجاوز سوريا لأزمتها، بدءاً بقوّتها التفاوضية على الطاولة، والخاصة ببرنامجها النووي والتي ستستأنف عند منتصف هذا الشهر، ومروراً ببيان عزمها اللامتراجع عن طموحاتها النووية، وانتهاءً بفرض قوتها على أرض الواقع، وذلك بالركون إلى روسيا ومراعاة مصالحها.

وعلى أية حال، فالكل الآن في الميدان، والأطراف في حالة مشاهدة مضطربة وتمعّن، ودراسة معمقة ومتئدة للخطوات القادمة، فهل تتقدم السياسة الروسية والإيرانية، على السياسة الأمريكية والدول المحالفة لها، وماذا سيكون مصير السياسة الأميركية في حال هزيمتها أيضاً في هذه المرة، ربما يمكن تأجيل الإجابة للأيام القادمة لضمان اكتمال المشهد، ونقاء الصورة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 12/نيسان/2012 - 21/جمادى الأولى/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م