التربية القومية في زمن كوني

أ.د. علي أسعد وطفة

يشكل ضياع الهوية أحد المخاطر الكبرى للعولمة ولاسيما في البلدان النامية التي تعاني من تدني الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. وهذا الضياع يشكل أحد العوامل الأساسية لحضور وتنامي النزعة الوطنية والقومية في هذه البلدان بهدف المحافظة على الهوية الوطنية والقومية في مهب الضياع. ومن أجل تجنب مخاطر التعصب القومي تتجه التربية القومية المعاصرة إلى تعزيز الهوية القومية في إطار التعاون والتكامل مع القوميات الأخرى.

 فالتوتر ما بين العولمة والمستقبل يتجلى في مختلف أركان المعمورة، كما في داخل الإقليم الواحد والدولة الواحدة، ويتضمن هذا التوتر نسقا من التناقضات والصراعات والتوترات الجزئية. ويمكن القول هنا بأن الإنسانية تواجه اليوم نسقا من التناقضات الثنائية التي تتسم بطابعها الدائم والمستمر.

فالعولمة أصبحت ظاهرة حتمية لا يمكن تفاديها، وهي فوق ذلك ضرورية لعملية التقدم الإنساني نفسه، ومن الحكمة اليوم تحقيق التوازن وتفادي السلبيات والمخاطر العدمية الناجمة عن العولمة ذاتها، ومنها مسألة ذوبان الهوية الثقافية القومية وانحسارها، وهي إحدى أهم المشكلات التي أفرزتها العولمة.

لقد أدى الشعور بالخطر من ذوبان الهوية إلى ولادة المشاعر اتجاهات وطنية تهدف إلى تعزيز الهويات الوطنية والقومية في مسار التنمية الإنسانية الشاملة لعدد كبير من الدول والمجتمعات الإنسانية. وقد عمل هذا الشعور بالخطر أيضا إلى توليد العصبيات الدينية والسياسية والعرقية وإيقاظ النعرات المحلية والإقليمية.

لقد أدت التحديات التي فرضتها العولمة إلى ولادة تيارات فكرية وسياسية مناهضة لها، وتعد النزعة القومية من أبرز هذه التيارات التي استيقظت على وقع الأحداث التاريخية المأساوية في المرحلة الماضية. وقد تجلت هذه النزعات المضادة للعولمة في مظاهر العنف والتطرف والتعصب واللاتسامح التي اتخذت طابعا قوميا وعرقيا ودينيا. ويوجد اليوم سيل من الأحداث والممارسات التي تشهد على هذا الواقع في مختلف القارات وأنحاء العالم المعاصر. ويمكن القول في هذا الصدد بأن العوامل والأحداث التي قادت أوروبا إلى الحروب والتمييز العنصري في القرن الماضي ما زالت حية في النفوس، وقادرة على توليد مختلف المظاهر العدائية ضد الإنسان والإنسانية.

يغطي مفهوم القومية نسقا من الإشارات والمعاني والدلالات التي تتنوع بتنوع المكان والزمان والظروف التاريخية والمؤسسات السياسية التي تتبناها. فالقومية في بعض النماذج التاريخية تنطلق من البعد التاريخي والثقافي حيث يشمل المفهوم وفقا لهذا التصور شعوبا متعددة تتوزع في مناطق جغرافية واسعة تتجاوز أحيانا الدول والقارات كما هو الحال في مفهوم القومية العربية، وهناك بعض القوميات التي تتطابق فيها حدود الدولة مع حدود السياسة والجغرافية مثل الأمة الفرنسية أو الأمة الإيرانية. وفي كل الأحوال فإنه لا يمكن اليوم الربط بين مفهومي الدولة والأمة كما كان هو الحال في الماضي البعيد حيث عرفت الدولة الأمة في كثير من النماذج التاريخية للوجود السياسي الإنساني.

ومما لا شك فيه اليوم أن العوامل التي تكوّن الأمة هي عوامل ثقافية وتاريخية ولغوية ووجدانية، وقد اعتٌمدت هذه العوامل كمؤشرات في تحديد مفهوم الأمة وتعريفها وفقا للشعوب التي تتبنى ثقافة واحدة وتعرف بها مكونا لهويتها ووجودها. فالتاريخ والدين والجغرافية واللغة والإرادة المشتركة والرموز والشرعية تمثل عوامل أساسية في تشكيل الأمم والقوميات الإنسانية عبر التاريخ. وقد لعبت هذه العوامل دورا كبيرا في ظهور القوميات الحديثة مثل القومية الفرنسية والألمانية والإسبانية والبريطانية وغيرها من الأمم والقوميات. لقد بينت الدراسات الجارية في هذا الميدان وجود تغاير في مفهوم الأمة وفقا للأنظمة السياسية وقدرة هذه الأمم نفسها على الصمود والمحافظة على الوجود وتكريس قيم الوحدة والانتماء القومي عبر التاريخ. ويمكن القول في هذا السياق بأن بريطانيا وبلجيكا واسبانيا من الدول التي حققت تقدما كبيرا في إيجاد صيغ إدارة ذاتية للقوميات التي تأخذ طابعا ثقافيا مميزا في بنية التكوين العام لهذه لدول. حيث أكدت هذه الدول على التنوع الثقافي والقومي في داخل كياناتها القومية والوطنية.

الفكر القومي والتربية:

لا بد من الحذر عندما يتم تناول المشاعر القومية، كما يجب أخذ الاحتمالات السلبية بعين الاعتبار عندما يتعلق الأمر بيقظة المشاعر القومية لجماعة أو أمة أو حزب سياسي. وهذا الأمر يختلف بين أمة دولة كما بين أمة في دول متعددة وكيانات سياسية مختلفة، أو في أمة تشكل جزءا من كيان دولة أو أمة أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه بقوة هنا هو: هل من المبرر والمشروع العمل على بناء المشاعر القومية وفقا لمعايير ثقافية محددة في عالم معولم تتلاشى فيه الحدود الجغرافية والسياسية؟ وإذا ما أريد إعداد مواطن عالمي أليس من الواجب الارتقاء بالمشاعر المحلية والإقليمية إلى مستويات عالمية شاملة؟

قبل الإجابة عن هذه الأسئلة يجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ملاحظة واضحة جدا تتمثل في أن المخاوف يمكن أن تنجم عن وضعية تشجيع النزعة القومية عند أمة لم تتشكل على صورة دولة أو في دولة لا تأخذ صورة أمة. ومع ذلك فهناك قلة نادرة من هؤلاء الذين يجازفون برفض هويتهم الوطنية لكونهم يرغبون في هوية عالمية. ولكن وعلى خلاف ذلك هناك جدل كبير حول الهوية الوطنية أو القومية فهناك من يرفض هويته القومية في أن يكون عربيا أو هولنديا أو أمريكيا وذلك لاعتبارات إثنية وعرقية أو عالمية. فعندما يعلن شخص ما عن قبوله لهويته في حدود الجغرافية والدولة التي ينتسب إليها فإن ذلك لا يطرح في جوهر الأمر أية إشكالية، ولكن وعلى العكس من ذلك فإن المعاناة تكون عندما تكون الهوية المعلنة تتعلق بدولة جديدة أو أمة جديدة تنفصم عن عرى الدولة القائمة وتناهضها. وهنا يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن الحدود الجغرافية للدول كانت نتاجا لظروف تاريخية وسياسية وعسكرية متعددة ومتداخلة، وهذه الحدود نادرا ما يعترف بها على أنها نهائية خالدة أو أزلية.

المواطن العالمي:

 المواطن العالمي مفهوم تمّ تحضيره في الأصل من أجل تجاوز التناقضات والأحكام المسبقة والمعوقات التي تعترض مسار التطور تحت عنوان التناقض بيت العالمية والخصوصية، وهذا المفهوم يعني في الجوهر فك الارتباط مع الأرض والإقليم والوطن والحدود الجغرافية حتى مع المعطيات الثقافية التي تتميز بطابع التفرد والخصوصية. فمن يدعي الهوية العالمية أو يرى بأنه مواطن عالمي يمتلك احتراما واعترافا بالتنوع والتعدد وقبولا لحضور الآخر وتقديرا لمختلف الهويات الثقافية للمجتمعات الإنسانية برمتها. ولكن في واقع الأمر يلاحظ أن الأفراد يتمثلون في سلوكهم خصوصيات ثقافية ونماذج ذهنية حسية مجسدة لثقافة بعينها على الرغم من دعوى انتسابهم إلى الهوية العالمية. وهم في كثير من الأحوال يشعرون بحالة اغتراب في ظل الثقافات التي تهيمن وتسود وتفرض نفسها وجودا ثقافيا يفرض هويته عفويا ويرسم خطاه في نفوس الأفراد وعقولهم. فالثقافات الكبرى لا تحتاج إلى دعم أو تعزيز لأنها تفرض نفسها بقوتها الذاتية وضغطها السياسي.

وعلى خلاف ذلك فإن هؤلاء الذين يشعرون بانتمائهم إلى هويات وطنية أو قومية أو محلية يمكنهم وحدهم فهم مشاعر أبناء القوميات الأخرى انطلاقا من التجانس في المشاعر ومن التشابه في طبيعة الانتماء. وهذا بدوره يجعلهم أكثر قدرة على تفهم الآخر بالمعنى القومي واحترامه والتضامن معه والشعور بمشكلاته ومعاناته. وهذا يعني بأن الانتماء والشعور بالهوية القومية أو بالانتماء إلى أية طائفة أو جماعة لا يمكنه أن يكون سببا أبدا من أسباب رفض الآخر والتنكر له والتعصب ضد وجوده.

وإنه لمن المناسب أن نعلن بأنه يمكننا أن نتحرى قراءة أخرى لمفهوم القومية، ووفقا لهذه القراءة يمكن أن نقول بأن الانتماء إلى أي جماعة ينطوي في ذاته على نوع من الاختلاف عن الآخر، وهذا يعني أن الانتماء القومي يستند ويرتكز إلى مفهوم الاختلاف عن الآخر. ومع ذلك فإن الوعي الخاص بهذا الاختلاف يقتضي وعيا مماثلا باختلاف الآخر ومشروعية هذا التباين والاختلاف الذي يكون بدوره نتاجا لفعاليات ثقافية تاريخية بعيدة المدى والحضور، وهذا بذاته يشكل منطلقا لرفض أحكام القيمة والتمييز ضد القوميات والهويات الإنسانية الأخرى. فالأفراد يختلفون بسماتهم وخصائصهم التي تتعلق باللون والجنس والوضعيات الاجتماعية ومن حيث اللغة والعقلية والقدرات والاهتمامات والعادات والتقاليد والمواقف، ولكن هذا الاختلاف مهما اتسع وتنوع وامتد لا يمكنه في الجوهر أن يشكل مبررا للاعتداء على حقوق الآخر أو رفضه أو إدانته، وهذا يشمل حقوق الأمم والشعوب، والمنطق يقول هنا أن وجود الاختلاف والتباين بين الشعوب لا يمكنه إلا أن يكون مؤشرا على الغنى الثقافي والإنساني للمجتمع الإنساني.

فالتناقض بين العالمية والقومية يكون عندما تقوم العولمة بصهر الهويات الثقافية وتدمير الكيانات الثقافية الصغرى، ولاسيما الكيانات الثقافية التي لا تنتظم في قوى سياسية أو تشكيلات تنظيمية محددة، أو هذه التي لا تمتلك في ذاتها على قوة اقتصادية أو عسكرية تمكنها من المحافظة على وجودها في داخل كيان الدولة التي تحتضنها، أو لأنها ببساطة لا توجد في صيغة دولة لها كيانها ووجودها.

فعالم يهيمن فيه التفكير الأحادي وتسوده ثقافة وحيدة الاتجاه يفتقر إلى الغنى الإنساني، وهذه الأحادية تسلب الإنسانية غناها وخصوبتها وثرائها، وهذا الأمر يؤدي أحيانا إلى هيمنة بعض الشعوب على بعضها الآخر واستئصال شأفة الإبداع والتنوع والتخاصب في المجتمع، أي عندما تقوم ثقافة واحدة بالهيمنة والسيطرة على البلاد والجماعات وترويض الثقافات الفرعية أو تصفيتها وطمسها.

وفي هذا المسار يمكن استعراض الهيمنة اللغوية كنموذج يفرض نفسه في نطاق الممارسة وهذا ينطبق على اللغة الإنكليزية التي تفرض نفسها في مجال العلاقات الدولية، ولاسيما فيما بين الجماعات الثقافية والعرقية والإثنية المحدودة والمتباعدة جغرافيا. وهذا يعني أن اللغة الإنكليزية في هذا السياق تفرض نفسها نموذجا ثقافيا لبلد انكليزي، وهذا النموذج بالتالي يفرض تفوقه الثقافي الذي يبدو واضحا وصريحا في كثير من الحالات الثقافية الاتصالية. ولكن من الواضح تماما بأنه من الصعب تماما الوصول إلى امتلاك حقيقي أو معرفة معمقة وفعلية بلغة أخرى غير اللغة الأم أو اللغة الوطنية التي يتكلمها الفرد، وهذا يعني أن عمق التبادل اللغوي قد لا يصل إلى مستوى الدقة والمهارة والمرونة الحقيقية التي يفترض أن تكون في أصل التبادل الفكري والثقافي.

وعلاوة على ذلك، يجب علينا ألا ننسى أن اللغة ليست مجرد أداة اتصالية، بل هي فوق ذلك كله طريقة في النظر والتفكير والوجود، ومنهج يعتمد في عملية بناء الحقيقية وتشكيل المعرفة، وهي نتاج لتاريخ بعيد المدى من تضاريس التطور والحضارة. وعندما يفقد شعب لغته فإنه بالتالي يفقد هويته وخصوصيته الأعمق والأكثر خصوبة وثراء في وجوده وتطوره التاريخي. وفي حقيقة الأمر فإن الرغبة في الانفتاح على الآخر تتطلب منا أن نتكلم أكثر من لغة واحدة، ولكن هذا المطلب يجب أن يشمل الجميع وألا يمنع من التواصل مع مختلف اللغات المعنية، أي: ألا تكون هناك لغة واحدة تفرض نفسها وتقصي اللغات الأخرى. فعلى سبيل المثال يجب على متكلمي اللغة الإنكليزية أن يخاطبوا العرب بالعربية ولا يجب أن يتوقف التواصل على اللغة الإنكليزية بوصفها اللغة النموذج، وبعبارة أخرى على العربي أن يتقن الإنكليزية في الوقت الذي يترتب فيه على الإنكليزي أن يتعلم العربية ويخاطب بها.

التربية بأبعاد قومية:

وفي سياق هذه الخصوصية تبرز أهمية العلاقة بين الفكر القومي والتربية، فالتعليم يجب أن ينطلق من الحقيقة الثقافية الأقرب منالا، الحقيقية التي تكون أكثر قابلية للفهم من قبل التلميذ، وهذا غالبا ما يتم التعبير عنه بمفهوم الحاجة إلى فهم "السياق التاريخي للأمة" وإلى التعلم التبصري المستقبلي. ووفقا لهذا التصور التربوي يمكن تدريجيا اكتناه الحقائق الأبعد وذلك عندما نعتمد الحقائق الأقرب كمرجعيات ذهنية وفكرية، وبعبارة أخرى يمكن القول: بأن المناهج التربوية يجب أن تنطلق من الأقرب في سبيل إدراك المتغيرات الأكثر ابتعادا وتراميا في أطراف الزمان والمكان. وهذا هو الوضع الذي تعتمده العلوم الأساسية عبر عملية الاستقراء أي الانتقال من الخاص إلى العام ومن حالة حسية مجسدة إلى التعميم ومن ثم تفسير الحقائق الأخرى على منوال هذا الاستقراء المحدد.

وهذه الحقائق الحسية المجسدة القريبة ستكون بالضرورة في نطاق الوطن الذي يحتضن وجودنا، وفي نسق العادات والتقاليد والقيم التي تحيط بنا وتشكلنا في الوقت نفسه، كما في متضمنات التاريخ الذي يسود بعناصره ويفرضها على الإنسان الذي يعيش في وطنه: وهذا يعني بالتحديد الحقيقة المباشرة الآنية اليومية التي ترتبط بالوطن والأمة والقومية. وهنا يبدو لنا بأن التناقض في الحقل التربوي يظهر في اللحظة التي يعيش فيها الفرد في دولة تفرض رسميا على مواطنيها ثقافة أخرى لأمة أخرى (وذلك ربما لأن هذه الثقافة تهيمن وتمتلك على القوة السياسية الضرورية التي تمكنها من الهيمنة، أو لأن ثقافة المواطن المعني هي ثقافة أخرى لمنطقة أخرى غير هذه التي تسود وتهيمين في الإقليم الذي يعيش فيه ). وهنا من الواضح أننا لسنا بصدد تحليل تربوي لهذه الوضعية، ولكن من الضرورة بمكان المحافظة على الثقافات الفرعية أو ثقافة الأقليات من أجل ضمان التعايش ما بين الثقافات ومن أجل تعميق الروابط الاجتماعية، وفي هذا السياق يجب الحرص على ألا تكون المعايشة الثقافية لثقافة الأقلية والنظر إليها بوصفها ثقافة دنيا أو دونية أو الحكم عليها بأنها ثقافة أجنبية دخيلة.

مهمة المدرسة المعاصرة:

يمكن التأكيد وبدون مبالغة بأن أحدى كبريات الصعوبات التي تواجه النظام التربوي المعاصر تكمن في عملية اختيار مضامين المناهج المدرسية في مختلف المستويات، وذلك نظرا للركام الهائل في المعلومات والمقررات والمناهج والمضامين.

ومن البداهة بمكان القول: إن المدرسة لا تستطيع أن تعلم كل شيء، ولاسيما عندما نأخذ بعين الاعتبار أن المضامين العلمية والفكرية تتطور، وأن التغير في المضامين العلمية يأخذ طابعا يتسم بالتسارع الكمي والنوعي فيما يتعلق بمصادر المعرفة وأنماطها وتجلياتها المختلفة، وقد أدى هذا التنوع والتسارع إلى ولادة مفهوم التعلم على مدى الحياة بوصفه ركيزة أساسية من ركائز التعليم المعاصر الذي يجعل الفرد قادرا ربما على مواكبة جزئية لطفرة التطور والتغير في المعرفة والعلم والمعلوماتية.

ونظرا لهذه الوضعية الفارقة في تطور المعرفة بدا واضحا أن المدرسة معنية اليوم بالعودة إلى المعارف والمعلومات والعلوم الأساسية التي يمكن للمدرسة أن تبثها في مختلف المقررات، وهذا الأمر يشكل أفضل ضمانة لعملية التعلم اللاحقة والمستمرة في مراحل عمرية ومعرفية مستقبلية. وهذا يفسر لنا اليوم الأهمية التي تعطى للقراءة والكتابة والحساب في مختلف البلدان ومنها بلدان الاتحاد الأوربي والمنظمات التربوية العالمية.

 فتعزيز التعليم الأساسي وتمكين كل تلميذ من هذا التعليم بصورة مؤكدة في مختلف المراحل الدراسية الإلزامية لا يشكل ضرورة عملية من أجل فهم العالم المعاصر فحسب، بل يشكل بالإضافة إلى ذلك ضمانة للعدالة الأخلاقية والمساواة في داخل النظام التربوي نفسه.

يتضمن مفهوم المعرفة الأساسية نسقا من الدلالات والمعاني التربوية والنفسية والاجتماعية، وذلك لأنه التعليم الذي يساعد على تحقيق الاندماج عبر معرفة واتجاهات وسلوكيات تنبع من أنظمة فكرية وتربوية مختلفة جدا، وتتميز هذه المعرفة بأنها معرفة أولية تشكل مدخلا أساسيا لمختلف أشكال المعرفة اللاحقة، حيث تقيّم في الغالب على أنها معرفة متحولة متعددة المصادر والوضعيات، وهي معرفة في الغالب توظف في مجال الحياة، حيث يمكن أن تشكل منطلقا لحلّ مختلف المشكلات العامة التي تواجه الفرد في إطار حياته اليومية.

والسؤال الذي يقفز إلى الذهن الآن: ما العلاقة التي تربط بين التربية المؤسسة على الفكرة القومية والمعارف الأساسية؟ أليس واضحا أن الأمر يتعلق هنا بين مجالين مختلفين لا علاقة بينهما؟

 وفي مطلع إجابتنا عن هذين السؤالين يمكن القول: بأن اكتساب بعض القدرات والخبرات والكفاءات الأساسية يسمح بفهم العالم الأقرب إلينا والأكثر ابتعادا عنا أيضا، وذلك لأن عملية التحول إمكانية قائمة بصورة مستمرة وممكنة. وهنا وفي هذا السياق يمكن القول بأن التأكيد هنا لا يكون حول المضامين الخاصة للمعرفة الأساسية، فحسب بل يكون في تأكيد القدرات والكفاءات الضرورية من أجل فهم مختلف الوضعيات التي تواجه الفرد وتمكينه من إيجاد الحلول المناسبة أيضا. وهذا يعني وهذا مهم جدا أن طريقة التعلم الأساسي، وطرائق اكتساب الخبرة الأساسية، يمكنها أن تفسر وتفهم وتدرس وفقا للغات مختلفة بمضامين مختلفة. وقد شكل هذا الموضوع حقلا للبحث العلمي العالمي في هذا الميدان وقد بينت هذه الدراسات أن كل أمة أو دولة تستطيع أن تتبنى مضامين تتناسب مع خصوصيتها اللغوية.

وبالنتيجة فإن إتقان الخبرات الأساسية يستجيب لمطلبين أساسيين: يتمثل الأول في تحقيق الرؤية السياقية المتكاملة الشاملة، ويتمثل الثاني في تعميم هذا التعليم بما ينطوي عليه من خبرات ومعارف. وهذا يعني أن هاجس اكتساب المعرفة والخبرات الأساسية يعبر عن نفسه عبر الأمة وفي أحضانها كما يتجلى في التنظيمات الدولية.

* جامعة الكويت

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 3/نيسان/2012 - 12/جمادى الأولى/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2012م