بحور الخليل تجتاح سواحل فارس مبكراً

د. نضير الخزرجي

إنما المرء مشاعر وأحاسيس.. قاعدة فطرية تكوينية لا محيد عنها يتحرك في ساحتها كل أبناء البشر مهما تعددت مستويات الوعي عندهم، ومهما اختلفت الطبقات الإجتماعية والإقتصادية بينهم، وهي موجودة عند الحاكم والمحكوم، عند الظالم والمظلوم، عند القريب من شريعة الرب والبعيد عنها، فكل إنسان مهما علت رتبته أو دنت يمتلك مشاعر يتعامل بها مع الآخر، لكنها تتفجر في أحايين وتتجمد في أخرى، فهي تكمن ولا تنعدم، فانعدامها يُخرج المرء من محيط إنسانيته وكينونته.

وللمشاعر في حياة الإنسان مصاديق وتطبيقات خارجية كثيرة، فكل إنسان يترجم المشاعر بفطرته، ولأنها ذات بعدين أو طرفين أحدهما صاحب الشعور والآخر الذي يقع الشعور عليه كمشاعر الوالدين والأبناء والزوج وزوجته والحاكم العادل والمحكوم وما شابه ذلك، فإن أثرها واضحة المعالم يتحسسها الطرف الآخر ولهذا سُميت أحاسيس ويستشعرها الآخر ولذلك سُمِّيت مشاعر، فهي محسوسة الأثر ومستشعرة.

ولعلَّ من أبلغ الأثر الكلمات الصادقة التي يطلقها الحاسُّ في حق المحسوس به ويبثه مشاعره، ومنها انبثقت كلمة الشاعر الذي يترجم أحاسيسه ومشاعره إلى كلمات متناسقة لها وقعها في ذات الإنسان المتلقي وإيقاعها في بواطنه، وحيث أن المشاعر فطرية يشترك فيها أبناء آدم وحواء فإن نظم الشعر وإنشاءه وإنشاده لم يكن حكراً على الناطقين بالضاد الذين تفوقوا على الأمم الأخرى في باب النظم والشعر، فكل أمة لها نسقها الشعوري المترجم شعراً بمفهومها الخاص لا بمفهوم الشعر العربي ببحوره الخليلية، وكان الصوت مقدماً على الكتابة والحروف، بل إنَّ الحروف هي رسم للأصوات، من هنا فإن الأذن البشرية بشكل عام تقع تحت تأثير الصوت وحتى إن لم تفقه الكلمات ومعانيها بخاصة إذا كانت من غير لغة المتكلم بها، لأن التأثير الأوَّلي جاء من الصوت ولحنه، وكذا الأمر في الكلمات المقفّات أو المسجّعة، فإن المرء يستشعر نهاياتها أو الروي بتعبير الشعر حتى وإن لم تكن الأبيات موزونة شعريا، وبتعبير الشيخ إبن سينا حسين بن عبد الله المتوفى سنة 427هـ وهو في معرض وصف الشعر العربي: (إن الشعر هو كلام مُخيَّل مؤلَّف من أقوال موزونة متساوية، وعند العرب مقفاة ومعنى كونها موزونة أن يكون لها عدد إيقاعي، ومعنى كونها متساوية هو أن يكون كل قول منها مؤلفاً من أقوال إيقاعية فإن عدد زمانه متساوٍ لعدد زمان الآخر، ومعنى كونها مقفاة هو أن تكون الحروف التي يُختم بها كل قول منها واحدة).

شعر وشعور ومشاعر

وبلحاظ كينونة الشعور وفطريتها، نجد إعتزاز كل أمة وكل لغة بما لديها من أدب كلامي منطوق أو مكتوب يأخذ مادته الأولى من خامة الشعور، ولأن مادة الأدب بشقيه المنثور والمنظوم ميدان ضيق لا يستوعب كل أبناء الأمة الواحدة وإن استشعره الجميع وأحسوا به، فإن مغاليقه أحوج ما تكون إلى مفاتيح تكون من سنخ الأقفال وهذه لا نجدها إلا في جعبة قلة من الأدباء الواقفين على مسارات ميدان الأدب المنظوم وزواياه وانعطافاته، وتعظم قيمة المفاتيح إذا كان حاملها يتحدث أكثر من لغة ويسيح في أداب أكثر من أمة، ومنها تأتي أهمية كتاب (المدخل إلى الشعر الفارسي) في جزئين والمطبوع حديثا (1433هـ 2012م) للأديب الدكتور محمد صادق الكرباسي الصادر عن المركز الحسيني للدراسات بلندن، حيث صدر الأول في 441 صفحة من القطع الوزيري والثاني في 337 صفحة وكلاهما مقدمة إلى (ديوان الشعر الفارسي) الذي يمثل أحد أقسام (الحسين في الشعر الشرقي).

فالشعر والشعور والشاعرية كلها من مادة لغوية واحدة، وكل واحدة لها علاقة بالأخرى، صحيح أن (الأدب النثري هو أساس الأدب، ويتبعه الأدب المنظوم –الشعر- حيث أن البلاغة هي القاعدة المتينة التي يتولد من رحمها الشعر) كما يقرر الأديب الكرباسي بيد أن الشعر والشعور متداخلان إلى حد بعيد وبتعبيره: (والشعر يبدأ بالمنظوم ويرتقي بالطبع إلى ما كان مؤثراً بالشعور الإنساني فيطلق عليه الشعر، ومن هنا جاءت تسمية النظم المطبوع بالشعر)، ولهذا طالما جرى الكلام أن النظم شعر والشعرَ شعرٌ، فالنظم والشعر كلاهما كلام موزون ومقفى ولكن الأول صنعة يلامس الشعور من بعيد يتلقاه الآخر سماعيا فيستشعره أو يدعه يخرج من باب الأذن الثانية، والثاني إرهاصات شعورية تدغدغ مشاعر المتلقي بلا استئذان فتحط رحالها في مكامن نفسه.

وليس النظم والشعر من حيث التوافق والتعارض شعوريا حكراً على الشعر العربي، فكل مجتمع له أن يتذوق الأدب المنظوم في جانبه النظمي وجانبه الشعري أو الشعوري، لأن الكلمات هي مادة لشعر الأولى، وكل أمة تسالمت على مفردات تتعامل بها في الحياة اليومية، فبعضها ذات استعمال يومي وأخرى عند الحاجة، إلا أن عدد الكلمات والمفردات تختلف من أمة إلى أخرى، ولا شك أن اللغة العربية تمتلك من الكلمات ما تفوق اللغات الأخرى فضلا عن الاشتقاقات التي توفر للأديب المرونة الكافية لتطويع جذر الكلمة ومشتقاتها في الأدب المنثور أو المنظوم، ولهذا كان الشعر العربي حافظاً للغة العربية.

العربية حاضرة في الفارسية

وكلما اندكت الأمة في تاريخ عميق وسحيق توفرت فيها كلمات كثيرة ومشتقات أكثر، ويدخل في هذه القاعدة الإجتماعية الثابتة الأدب الفارسي الذي هو موضع الدراسة في الجزء الأول من (المدخل إلى الشعر الفارسي)، وحيث اختلف علماء التاريخ في نسبة الأصل الفارسي حيث أرجعها البعض إلى فارس بن علم بن سام بن النبي نوح(ع) وبعضهم أرجعها إلى فارس بن طهمورث، وطهمورث هذا أول من حكم بابل، وهناك أقوال أخرى، لكن الثابت أن لغة فارس قديمة جداً، ويرى المؤلف أنها تعود إلى القرن 39 قبل الهجرة النبوية لكنها من الناحية الفعلية أقدم من هذا التاريخ، لأنَّ: (أساس كل لغة هو التفاهم الذي يحصل بين طرفين أو أكثر ليشمل بعد ذلك شرائح من المجتمع ويعتمد أساسا على اللفظ، وليس هناك لغة أنشئت أبجديتها قبل أن يُتلفظ بمفرداتها، بل إن هناك مدة تفصل بين أصل التفاهم باللفظ والصوت وإحداث الرسوم الهندسية للحروف، حيث أن الكتابة مرحلتها متأخرة وتحتاج إلى حضارة أرقى من الأولى إذ من متطلباتها أن لا يكون الطرفان أميَّين إذ الأمي يمكنه التحدث دون أن يكتب ويسطر الحروف والمفردات).

ومع هذا فإن لغة أية قوم وبشكل عام هي نسيج لغات أمم متنوعة، ويختلف التداخل في المفردات بحجم تأثر الأمة الواحدة بالأمم الأخرى وتأثير الأخيرة على الأولى، فالفارسية الحديث (الدريَّة) هي حصيلة لغات عدة وهي: اللغة الپهلوية الفارسية، اللغة الهندية، اللغة التركية، اللغة المغولية، اللغة الإنكليزية والفرنسية، واللغة العربية. كما أن اللغة الفارسية حالها حال اللغات الأخرى لها لهجات تُظهر طبيعة قطاع من الشعب الذي يتحدث بها، وعلى مستوى إيران التي يتحدث أهلها باللغة الفارسية كلغة رسمية فهناك لغات متعددة تعكس طبيعة قطاع شعب من الأمة الإيرانية يعيش على بقعة من الأرض الإيرانية المترامية الأطراف وهي: الآذرية، الكردية، العربية، البلوچية، الُّلرِّيَّة. أما من حيث اللهجات فإن الفارسية لها لهجات وهي في أغلبها تنسب إلى محافظة أو مقاطعة وهي: الطبرية (گيلان ومازندان وسمنان)، الخراسانية (خراسان)، الإصفهانية (إصفهان)، اليزدية (يزد)، القمية (قم)، الكرمانية (كرمان)، الشيرازية (فارس)، البندرية (بوشهر وهرمزگان)، البختيارية (بختياري)، الطهرانية (طهران).

ولأن اللغة العربية دين الإسلام، ولأن الإسلام دخل إيران مبكراً، فإن العربية دخلت في كل محاور الحياة ليس في إيران فحسب وإنما في كل الدول غير الناطقة بالعربية والتي دخل إليها الإسلام، لكن قرب إيران من المحيط العربي وتقبل الشعوب الإيرانية في إيران القديمة الممتدة جغرافيا في إيران الحالية ودول الجوار كأفغانستان وآذربايجان للدين الإسلامي ساعد كثيراً في إصطباغ المفردات الفارسية بالمفردات العربية، من قبيل المفردات الدينية والإدارية والأدبية والسياسية والجغرافية والتاريخية والآلية والزراعية والصناعية، وحسب ما جاء في مقدمة كتاب (برهان قاطع) لمحمد حسين التبريزي المتوفى بعد سنة 1062هـ فإن المفردات العربية الواردة في قاموس اللغة الفارسية يفوق من حيث العدد كل اللغات الأخرى التي تأثرت بها الفارسية، ولهذا فلا غرابة أن يكون عدد الشعراء في العهد الساماني (261- 389هـ) الناظمين باللغة العربية في كل من خراسان القديمة وما وراء النهر بلغ 119 شاعراً بغض النظر عن الفلاسفة والعلماء، وفي تقدير الكرباسي أنه: (إذا ما لوحظ القاموس الفارسي تجد أن نسبة عالية ربما فاقت 50% من المفردات عربية الأصول)، فليس مستغربا أن تقرأ في بعض الأماكن العامة لافتة تقول (استعمال دخانيات أكيدا ممنوع است)، فالعبارة متكونة من خمس كلمات تدعو إلى الإمتناع عن التدخين، أربع منها عربية والأخيرة (است) أداة ربط من فعل الكينونة للتوكيد.

 من هنا يعتقد الأديب الكرباسي أن: (الأدب الفارسي الحديث تمخض من الأدب العربي وأخذ قوته منه ولكنه لم ينس أدبياته الفارسية، وأما الشعر الفارسي فلاشك بأنه أخذ كل مقوماته من العروض العربية)، وهذه حقيقة ثابتة ولا غرابة فيها كما يذهب اليه المؤلف إذ: (لم تكن للغة الفارسية قبل الإسلام أبجدية خاصة بها، وأصبحت الأبجدية العربية أبجديتها، وبذلك أصبحت الكتابة للإيرانيين أسهل من ذي قبل. لقد تطورت اللغة الپهلوية- والتي كانت رائجة في عهد الساسانيين- بفعل التمازج مع اللغة العربية، وترعرع الأدب بفعل الإختلاط الثقافي بين الشعبين العربي والفارسي) وكان من نتاج هذا الاختلاط والتمازج والتأثير الإيجابي للغة والأدب العربيين على الأدب الفارسي أن: (بدأ الشعب الإيراني يقدم الشعراء العظام للعالم أمثال حافظ الشيرازي وسعد الشيرازي ومولانا جلال الدين البلخي وعمر الخيام وآخرين)، ويقطع المؤلف أن واقعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين(ع) عام 61 للهجرة ودخول هذه الواقعة في ضمير الشعب الإيراني المسلم لها الدور الكبير في تأثير الأدب العربي على الأدب الفارسي من خلال المفردات أو الصور البلاغية.

مراحل الشعر الفارسي

وإذا كانت اللغة الفارسية قديمة والعربية بدأت منذ القرن الثامن والعشرين قبل الهجرة النبوية كما يعتقد بذلك المؤلف، لكن الأدب العربي المنظوم ببحوره وقوافيه المعهودة منذ قبل الهجرة هو متقدم على الأدب الفارسي المنظوم، فالأدب الفارسي القديم ضم النثر المسجَّع المعبَّر عنه بـ: (شعر آهنگي- الموسيقي-) وشعر التفعيلة والمعبر عنه بـ: (شعر هجائي)، أما الشعر الفارسي المتقيد بالوزن العروضي والقافية والوقع الموسيقي بدأ مع دخول الإسلام في إيران، وإلى هذا يشير الأديب الإيراني ذبيح الله صفا شمهميرزادي المتوفى سنة 1420هـ صاحب كتاب "گنج سخن" أي خزينة الكلام، فهو وإن ينفي أن يكون الفرس قد أخذوا الشعر من العرب وإنما ساعدت الحضارة العربية في تحسين الشعر الفارسي لكنه يؤكد بالقول: (ويظهر من القرائن التي لاحظناها أن الشعر في إيران الفرس بدأت من مقطوعات غير مقفاة ليتطور عبر قرون متمادية إلى الإلتزام بالقافية الناقصة تارة والكاملة تارة أخرى إلى أن تكامل الشعر الفارسي حيث الوزن والقافية في العهد الإسلامي باللغة المتداولة المعروفة بالدريَّة).

ولم يجد الشعراء الناطقون باللغة الفارسية بُداً من استخدام المفردات العربية بل أن الشاعر: (أبو القاسم الفردوسي المتوفى سنة 409هـ والذي يُعرف بعدائه للغة العربية لم يتمكن من الكتابة إلا بلغة أبجديتها هي العربية، كما إنَّ أكثر من ثلاثين في المائة من كلمات ملحمته المعروفة بالشاهنامه هي كلمات عربية). وهذا الشاعر احمد بن قوص الدامغاني المنوچهري المتوفى سنة 432هـ استخدم الأوزان العربية التي لم تكن بعد مستخدمة في الشعر الفارسي، وهذا الشاعر محمد بن إسماعيل اللامعي الكركاني المتوفى بعد عام 465هـ كان ضليعا باللغة العربية واستعملها في أشعاره، وهذا الشاعر أبو الطيب الباخرزي المقتول سنة 467هـ كان ينظم بالعربية والفارسية وله ديوان بالعربي باسم ديوان باخرزي، ومثله كان الشاعر محمود بن آدم السنائي المتوفى سنة 545هـ، وضم ديوان الشاعر ظهير الدين طاهر بن محمد فاريابي المتوفى سنة 598هـ أربعة آلاف بيت باللغتين الفارسية والعربية، والشاعر مشرف بن مصلح الشيرازي السعدي المتوفى عام 691هـ الذي يمثل أحد أضلاع مثلث الأدب الفارسي إلى جانب الفردوسي وحافظ الشيرازي اشتهر في استخدامه الكلمات العربية، ومثله كان حافظ الشيرازي محمد بن بهاء الدين المتوفى سنة 791هـ وبخاصة تأثره الشديد بالقرآن الكريم الذي كان يحفظه عن ظهر قلب فسمي بالحافظ، والأسماء كثيرة في هذا المجال كالشاعر أبو القاسم بن عيسى قائم مقام الفراهاني المتوفى عام 1251هـ، والشاعر علي اسفندياري المتخلص بـ: "نيما يوشيج" المتوفى سنة 1379هـ، وغيرهم.

ولأن العراق مجاور لإيران ومنه دخل الإسلام إليها وتأثر الأدب الفارسي بالأدب العربي، فإن النقاد يقسمون تاريخ الأدب الفارسي وتطور لونه وسبكه حسب القرون نسبة إلى جغرافية التأثير ومكانه، فيقولون اللون أو السبك الخراساني أو التركستاني الممتد من القرن الرابع الهجري حتى القرن السادس وكان مصدره خراسان، والسبك العراقي المنتشر في أواسط القرن السادس الهجري حتى القرن التاسع، وسمي بالسبك العراقي لاستعمالهم الكلمات العربية والاستعارة والكناية والأغراض العربية التي وردت إليهم من العراق، والسبك الهندي الذي بدأ في القرن التاسع الهجري حتى أواخر القرن الثاني عشر وانتشر في أفغانستان والهند، وثنائية السبك العراقي والخراساني والممتد من أواخر القرن الثاني عشر حتى يومنا هذا.

والأدب الفارسي المنظوم المحاكي للوزن والقافية كما هو معروف في الشعر العربي، وإن كان قد نشأ في القرن الثالث الهجري، لكنه مرّ في مراحل عدة أشار إليها الأديب الكرباسي حسب القرون الهجرية، فالذين وضعوا اللبنات الأولى للنظم في الفارسية هم الشعراء الذين عاشوا في نهاية القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريين، والأخير كان تمهيدا للقرنين الخامس والسادس حيث ازدهر فيهما الشعر الفارسي وبخاصة في القرن الخامس الذي شهد انتشار النظم الفارسي في الأقاليم وخارج حدود إيران وخصوصاً في الهند التي تعاطت شعوبها مع اللغة الفارسية الوافدة مع الإسلام كلغة مقدسة إلى جانب العربية فبالفارسية أسلموا وبالعربية قرأوا القرآن. وفي القرن السادس الهجري ازداد عدد الشعراء باتساع رقعة الجغرافية الناطقة بالفارسية، ولكن الشعراء في القرن السابع اتجهوا إلى النظم في التصوف والعرفان، كما أن الأمراء والملوك في القرن الثامن الهجري اتجه بعضهم إلى نظم الشعر كالسلطان أويس الأول الجلائري المتوفى سنة 776هـ، والسلطان عماد الدين المظفري المتوفى سنة 789هـ.

 ومع حركة عجلة الزمن ارتفعت أعداد الشعراء الناظمين بالفارسية كما هو الأمر في القرن التاسع الهجري، ويليه القرن العاشر الهجري الذي شهد لوحده بروز 1599 شاعراً كما يذهب إلى ذلك الأديب سعيد بن علي أكبر النفيسي المتوفى سنة 1386هـ في كتابه تاريخ نظم ونثر در إيران ودر زبان فارسي. واستمر الحال كما هو عليه من تزايد الشعراء في القرن الحادي عشر الهجري، لكن الأدب الفارسي تعرض في القرن الثاني عشر الهجري إلى نكسة كبيرة جرّاء الهجمات العسكرية الأفغانية على إيران، غير أنَّ تحولاً جديداً حصل في القرن الثالث عشر الهجري مع قيام الدولة القاجارية التي: (رعت الشعراء والأدباء وبذلت العطاء لمن مدحوهم وفتحوا باب البلاط بمصراعيه لهم مما أعادوا للإيرانيين مجدهم الأدبي)، وفي هذا القرن بالذات: (بدأ الشعر الحسيني يتوسع إنشاءاً وإنشاداً). ومع حلول القرن الرابع عشر الهجري الذي شهد حركة المشروطة في إيران عام 1324هـ لتنظيم صلاحيات الحاكم، تم استخدام الشعر كوسيلة سياسية للوصول إلى الأهداف، لكن الأدب المنظوم في نهاية القرن شهد انتكاسة جديدة بسبب الصراع بين المؤسستين الدينية والسياسية الحاكمة وتوجه الحكم الإيراني نحو الغرب: (لكن الشعراء الحسينيين لم يتوقفوا عن النظم رغم أن التعازي منعت لعقود من الزمن فبرزت هناك طائفتان من الشعراء يمكن أن نصنفهم بالعلمانيين وبالإسلاميين بسبب ممارسات الدولة والوسائل الإعلامية التي استخدمها النظام الحاكم)، وفي القرن الخامس عشر الهجري الذي شهد قيام الجمهورية الإسلامية: (وفي ظل هذه الدولة الإسلامية بدأ تحول كبير وجذري في كل مناحي الحياة وكان الأدب إحداها وتوجه الكثيرون نحو الثقافة الإسلامية حيث يمكن تسميتها العودة إلى أصولهم وجذورهم وانشق قسم ضئيل عن الظهور العام حيث اختاروا لأنفسهم العلمنة منهجاً والغرب ملجأً).

إستشراقات واستشرافات

ولا يقتصر حديث المدخل إلى الشعر الفارسي عن الشعر العمودي القريض، فالمؤلف يتطرق إلى كل الموضوعات ذات العلاقة بالشعر الفارسي، ومن ذلك "الشعر الحر" الذي ظهر بين الناطقين بالفارسية في القرن الرابع عشر الهجري بعد أن شاع بين الناطقين باللغة العربية، ولا يعارض المؤلف هذا النمط من الشعر كلياً فهو نوع من أنواع أدب الكتابة وإن رفضه آخرون ولكنه يعيد شيوع الشعر الحر إلى أسباب عدة: (أهمها تدني وضع الأدب بشكل عام)، وفي الأدب الفارسي كان الشاعر علي اسفنديار نيما يوشيج من أوائل الذين وضعوا أسس الشعر الحر وقد تأثر بالمدرستين الفرنسية والعربية حيث كان يجيد الفرنسية والعربية، ولا يعني هذا أن الأدب الفارسي لم يعرف الشعر الحر بل أن الشعر الفارسي المقفى بدأ نثراً مسجعاً أشبه بشعر التفعيلة أو شعر الحر وهو يعود في بداياته الأولى إلى العهد الساساني، وفي العصر الحديث يعود إلى شعر البند، ولهذا يرى الأديب الكرباسي: (إن الشعر الحر أصله فارسي وأخذه العرب من الفرس، وأما الشعر العمودي أصله عربي وقد أخذه الفرس منهم).

وكما لدى الأدب العربي المنظوم عروضه وميزانه الشعري به يعرف وزن البيت وبحره، كذلك للأدب الفارسي المنظوم عروضه وهي مأخوذة من الأدب العربي ورائده الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 175هـ، ويعتبر شمس الدين محمد بين قيس الرازي المتوفى سنة 628هـ هو خليل الفرس في الدوائر العروضية القديمة، وقد أوصل الدكتور الكرباسي الدوائر العروضية في الأدب الفارسي إلى 42 دائرة تضم 110 بحراً على غرار التفاعيل الخليلية وقد مثَّل لكل بحر ببيت من الشعر الفارسي من نظمه بخاصة في البحور التي ليس لها أمثلة في الأدب الفارسي.

لا يخلو إصدار من مجلدات دائرة المعارف الحسينية من مقدمة أو تقريض لعلم من أعلام الإنسانية، وهذه المرة جاءت من سوريا وبقلم الأديب البروفيسور أسعد علي وهو يقرَّض للجزء الأول من المدخل إلى الشعر الفارسي، فيكتب بأسلوبه الأدبي المتشبع عرفاناً واستشراقا: (نفهم مستوى الدين في الشعر الفارسي المتجه شطر الحسين.. ومن نوافذ هذا الأفق: نسمع موسيقا الحماسات في الشعر الفارسي المترنَّم والمتقدِّم باسم الحسين.. الحسين في هذا الشعر: تاج يُشرِّف حامليه).

فبحور الشعر الفارسي فيها مرافئ للشعر الحسيني، ولذلك يؤمن مرشد الإتحاد العالمي للمؤلفين باللغة العربية خارج الوطن العربي أن: (الإمام الحسين في الشعر الفارسي: يحقق طموح دوائر الشعر وأبحرها)، ثم أن: (دائرة المعارف الحسينية بمئات مجلداتها: تؤكد هذا المؤكَّد... لقد اجتهد صديقنا الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي: بحشد جيوش الكلم المتطوِّعة من خير الأمم.. لترفع رايات الحسين على أعلى القمم) مضيفا بقلمه الذي يقطر أدباً: (ما كشفه الشيخ الكرباسي لقراء المدخل إلى الشعر الفارسي يُشبه الجميل بذاته.. في علم اللغة.. وفي فنِّ الشعر.. وعلم أوزانه).

وكيف لا ترسو سفن البحور الشعرية عند مرافئ النهضة الحسينية والإمام الحسين(ع) هو سفينة النجاة كما يقول جده النبي الأكرم محمد(ص): (إن الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة وإمام خير ويمن وعز وفخر وبحر علم وذخر) ولذلك يرى البروفيسور أسعد علي أن: (حسين الشعر الفارسي.. كحسين الشعر الهندي.. كحسين الشعر الصيني.. وكحسين الشعر الباكستاني.. وكحسين الشعر العربي)، و(قوافي الشعر الحسيني في الأدب الفارسي تدور مع كل البحور.. لتكون السعادة بهذه السفور، الذي يحقق الحياة بلا موت، بل يحقق السعادة بلا موت.. كما يؤكد خامس كتب أضواء القرآن لخامس أصحاب العباءة) وعليه فإن: (الإمام الحسين على مرايا الحق.. يعني: إمام الإصلاح من أجل الحقوق الإنسانية.. ومن أجل الواجبات الرحمانية).

وفي تقديري أنه إذا كان الأديب الكرباسي قد أماط في مباحث هذا المدخل اللثام وأبان التأثير الكبير الذي تركته العربية على الأدب الفارسي بشقيه المنثور والمنظوم، فإن الكتاب بحد ذاته يمثل إضافة جديدة ومتميزة في الأدبين العربي والفارسي وبرؤية عربية من لدن أديب وعروضي ساقته الحاجة الملحة إلى دراسة الشعر الحسيني في الأدب الفارسي، وبالتالي فإن هذا المدخل بجزئيه يشكل أحد أوجه تأثير الأدب العربي على الأدب الفارسي.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 14/آذار/2012 - 20/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م