قطار الاحلام السريع

عبد الكريم ابراهيم

المحطة العالمية في (علاوي الحلة) كانت البداية، فعليه ان يبدأ مشواره اليومي دون توقف وهو يعد قضبان سكة الحديد، فقد اعتاد على هذه المهمة منذ سنوات طويلة، واصبح على علاقة وطيدة بكل ما موجود على طريقه، ابتداء من حقائب المسافرين المشحونة بالأحلام الجميلة، وتارة بالآلام المحزنة، الى نظرات الوداع عند المحطات التي يمر بها.

 لم يكن صوته المدوي وهو يلامس الحديد الى لحظة التي يتحرك فيها، الا زمناً يسير الى الامام حيث الجنوب والعصافير والبردي والقصب الذي اكلته آفة الدهر وجفاف دمع محبة حبست حسرتها عند الذي ولى وما سيأتي.

الخجل كان طبيعته وهو يتردد في مشيته، ولكن بعد ان جمع بعض جأشه راح يصيح بكل ثقة كي يعبر الخطوة الاولى.

 الاستحياء داء طالما شعر به عند كل بداية وسرعان ما يتلاشى مع دوران عجلاته الحديدية وهي تعاشق القضبان في سمفونية كأنها دقات قلب ولهان تزداد كلما خامرت صدره نسائم الحبيب، ويهيّج شعوره غليان الهيام، فراح يتطوى كدرويش يذوب وجدا في ذات الله.

 هو والصباح صديقان قديمان يلعبان لعبة الاختباء عند الغبش حيث يوقظان اسراب القطا ويطردان عن عيون "الحلوات" كرى النعاس، ويناديان باعلى صوتيهما على بائعات القيمر باغنية (عمي يا ابو عيون السود، خالي يا ابو عيون السود) لعلهما يلعقان بعض القيمر المرتسم على خدود هزها برد الهوى.

يواصل صديقنا المسير دون كلل، احيانا يصاب بداء الدوران فيجلس على مصاطب الانتظار يلتقط انفاسه الحارة، يتناول كوب شاي مهيل كي يطرد عنه النعاس، يتمطى، يحاول ان يستعيد نشاطه نحو ما تبقى من الرحلة.

كان عليه كل يوم ان يجمع ما كتب على كراسيه ليدونها في كراس ذاكرته : قصائد شعرية، رسائل من مجهول الى مجهول آخر، اغان، ابوذيات، آهات لم يكن الا لجدران الحديد ان تحملها، لعلها تصل يوما الى حيث تريد. حكايات ما اكثرها وهي تموج على فطرة من كتبها لتصبح بعد ذلك اغنية او قصيدة او ربما مسلسلا تلفزيونيا.

كان يعرف اصدقاءه واحدا واحدا ولاسيما الفقراء الذين لم يجدوا غيره كي يشكون اليه شجونهم وهمومهم التي ظلت محبوسة الصدور، فقد كان ماهرا في قراءة لغة العيون والاشارات وفهم معانيها وفك رموز الشفرات التي كانت عصية على الاجهزة الامنية في وقت ما.

لم يدخل جامعة او مدرسة كي يتعلم كل هذه الاشياء، بل هي السنون من زرعت فيه الفراسة وقراءة الوجوه. مشكلته الوحيدة انه كان كتوما في البوح بمشاعره، فلم يشتك لآخرين ولم يمارس الاستعطاف، بل كان ثابتا لا يلين يأتزر الالم والجرح في رحلة الذهاب والاياب.

 

 

 

 

 

 

 

 

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 11/آذار/2012 - 17/ربيع الثاني/1433

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1433هـ  /  1999- 2011م